اختلاس المال العام

المقدمة

في كل دول العالم بلا استثناء تقريباً، للأموال العامة حرمتها وقدسيتها، وحماية هذه الأموال والمحافظة عليها مسؤولية تضامنية بين الأفراد والدولة، وفي ليبيا يعد الاختلاس والاستيلاء والنصب وسرقة المال العام أعمالاً إجرامية يعاقب عليها القانون وفقا لعدد من نصوص مواد وردت في قانون العقوبات الليبي، وفي عدد من القوانين والتشريعات التي لا زالت نافذة ومعمول بها في البلاد

لطالما ارتبطت في أذهاننا نحن المواطنون العاديون فكرة اختلاس المال العام والثراء الفاحش بالوظيفة العامة بل وأصبحت تلك الظاهرة تنال قسطا من المشروعية في ضمير المجتمع وذلك لأسباب عدة نجد في مقدمتها تهاون الدولة والجهات الرقابية والقضائية أو تغاضيها في كثير من الأحيان علي اتخاذ أي إجراءات تجاه ذلك النوع من القضايا بالذات

لقد استفحلت تلك الظاهرة في كيان مجتمعنا بالرغم من تجريمها في عدة نصوص قانونية سواء في قانوننا الوضعي أو في الشريعة الإسلامية

وبالرغم من خطورة هذه الجريمة كونها تقع علي حقوق تمس جميع أفراد المجتمع وليس شخصا معينا بذاته وكذلك تعدد النصوص القانونية التي تتصدي لها وتجرمها فان اختلاس المال العام أصبح عرفا وسمة من سمات الوظيفة لدي اغلب من يتولون الوظائف العامة إلا من رحم ربي ولكي نلقي الضوء علي هذه الجريمة البشعة يتطلب الأمر منا أن نتعرف علي طبيعتها وأركانها وكيفية ارتكابها والعقوبة المقررة لها سواء في قانوننا الوطني أو في التشريعات المقارنة لمحاولة تعريف العامة بهذه الجريمة لخلق نوع من الثقافة والوعي ولدفع الجهات المعنية للبحث في هذه الجريمة وتحديد الأسباب التي أدت إلي إفلات الكثير من المختلسين من طائلة العقاب

اولاً : تعريف الاختلاس

لم يعرف المشرع الليبي فعل الاختلاس وإنما أورد فعل الاختلاس والعقوبة في ما نصت عليه المادة (444) ع.ل والتي نصت علي انه ( كل من اختلس منقولا مملوكا لغيره يعاقب بالحبس )

أما لغة : فالاختلاس هو سلب الشيء خلسة أو خفية وحقيقة الأمر انه لا يوجد علاقة بين المفهوم اللغوي للاختلاس وبين المفهوم القانوني للسرقة والتي لا يتطلب لكي تقوم أركانها ان تتم خفية وعلي الرغم من أن جريمة اختلاس المال العام تشترك في بعض مكوناتها مع بعض الجرائم الأخرى والتي تضر بالمصلحة العامة أو السرقة سواء في صورتها البسيطة أو المشددة إلا إن ما يعنينا في هذا المقام هو الجريمة التي ترتكب ضد المال العام وذلك في حدود ما نصت عليه المادة (230) وكذلك المواد (28،27) من القانون رقم 2 لسنة 1979 م بشان الجرائم الاقتصادية

ثانيا : أركان جريمة الاختلاس

لكي تقوم جريمة اختلاس الأموال العامة يجب أن تتوافر ثلاثة أركان لا تتحقق الجريمة المنصوص عليها في المواد المذكورة آنفا إلا بها والتي تتمثل في الركن المفترض، والركن المادي ، والركن المعنوي ، وسنتناولها تباعا فيما يلي


 الركن المفترض : تتطلب بجريمة اختلاس المال العام صفة معينة في الجاني لكي تقوم الجريمة ولأيمكن أن تتحقق الجريمة إلا بتلك الصفة وهي صفة الموظف العام ، حيث نصت المادة (230) ع.ل على انه (يعاقب بالسجن كل موظف عمومي) وكذلك نصت المادة (27) من القانون رقم 2 لسنة 1979 بشان الجرائم الاقتصادية علي ما يلي: (يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات كل موظف عام) وبالتالي فقد اشترط النص صفة الموظف العام حيث أن الأفعال التي يرتكبها أي شخص آخر غيره لاتعد اختلاسا وإنما سرقة وتطبق بشأنها أما عقوبة السرقة الواردة في قانون العقوبات، وإما نصوص قانون السرقة والحرابة إذا توافرت شروطها ،ويعتبر موظفا عاما كل من انيطت به مهمة عامة طبقا لنص المادة (2) من القانون رقم 2لسنة 1979م


الركن المادي : يتحقق الركن المادي في جريمة اختلاس المال العام بسلوك ايجابي متمثلا في اخذ المال العام المملوك للدولة ونقله من حيازة الدولة التي تبسط سلطتها الفعلية عليه إلي حيازة الموظف بأي وسيلة كانت قد يتوسل بها الموظف لبلوغ هذه الغاية ، واخذ هذا المال فكل ما يشترط هو انتقال الحيازة إلي الموظف بفعل منه . وعلي الرغم من إن مفهوم السرقة يختلف عن الاختلاس فقد عبر عنها المشرع بنفس المصطلح ففي السرقة كان المسروق عند صاحبه وسرقه شخص آخر، أما في اختلاس المال العام فالمال المختلس مسلم للموظف وموجود في حيازته حكما وبالتالي يعتبر اقرب إلى صورة من صور خيانة الأمانة أو التقصير في حفظ المال العام اقرب منه للسرقة


الركن المعنوي: جريمة اختلاس المال العام من الجرائم التي لا تقوم إلا عمدا ،وقد اتفقت جميع التشريعات علي اشتراط القصد الجنائي فيها (عمدا) من اجل وقوع الاختلاس ،ولا يمكن بالتالي تصور وقوعها خطا ،بل اعتبر الكثير من الفقه أن القصد الجنائي المتطلب في جريمة الاختلاس هو القصد الخاص ولا يكفي القصد العام لتحقق وقوع الجريمة . ويشترط لتوافر القصد العام في جريمة الاختلاس علم الفاعل بأنه موظف عام ، وان المال الذي يحوزه حيازة مؤقتة هو مال عام ، وترجع حيازته له بسبب وظيفته ، وان سلوكه الذي يرتكبه يؤدي إلي النتيجة الجرمية التي تتمثل بتحويل حيازة المال من ملكية الدولة إلي ملكيته، وكذلك اتجاه إرادته إلي تحقيق فعل الاختلاس ،ونقل ملكية المال من حيازة مؤقتة إلي حيازة كاملة ونهائية قابلة للتصرف فيه . أما بالنسبة للقصد الخاص فهو يتحقق باتجاه نية الموظف المختلس إلي تملك ذلك المال مع علمه بأنه مال عام وان تصرفه يؤدي إلي استيلائه علي مال عام لاحق له فيه

جاء في المادة (3) من القانون توصيف المال العام (يقصد بالأموال العامة في تطبيق أحكام هذا القانون الأموال المملوكة أو الخاضعة لإدارة وإشراف إحدى الجهات المذكورة في المادة السابقة أو أية جهة أخرى ينص القانون على اعتبار أموالها من الأموال العامة) وهذه الجهات هي اللجان أو المؤتمرات أو الأمانات أو البلديات أو وحدات الإدارة المحلية أو الهيئات أو المؤسسات العامة أو الاتحادات أو النقابات أو الروابط أو الجمعيات أو الهيئات الخاصة ذات النفع العام أو الشركات أو المنشآت التي تساهم في رأس مالها هذه الجهات وكذلك المنشآت التي طبقت بشأنها مقولة شركاء لا أجراء وفي المادة (4) من نفس القانون يعاقب بالإعدام أو بالسجن المؤبد من خرب عمداً بأية وسيلة المنشآت النفطية أو إحدى ملحقاتها ،أو أية منشأة عامة، أو مستودعاً للمواد الأولية أو المنتجات أو السلع الاستهلاكية


ويعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات كل موظف عام تدخل لحساب نفسه أو غيره في المقاولات أو التوريدات أو المزايدات أو المناقصات أو غيرها من العمليات المتعلقة بإحدى الجهات المنصوص عليها في المادة الثانية من هذا القانون، كما يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات كل من تسبب في انتشار مرض من أمراض النبات أو الحيوان الخطرة على الاقتصاد الزراعي أو على الثروة الحيوانية الوطنية وإذا كان انتشار الآفة ناشئاً عن خطأ المتسبب، كانت العقوبة الحبس أو الغرامة التي لا تقل عن مائة دينار ، كما يعاقب بالسجن وبغرامة لا تقل عن ألف دينار ولا تزيد على قيمة الضرر، وبالتعويض عن الأضرار الناتجة كل من أحدث عمداً ضرراً جسيماً بمال عام أو مصلحة عامة ، ويعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة دينار وبرد قيمة الأضرار التي أحدثها كل موظف عام تسبب بخطئه الجسيم في الضرر المنصوص عليه في المادة السابقة، بأن كان ذلك ناشئاً عن إهمال في أداء وظيفته أو عن إخلال بواجباتها أو إساءة استعمال السلطة ولا يجوز رفع الدعوى الجنائية أو اتخاذ إجراءات فيها إلا بناءً على إذن من النائب العام

عقوبة اختلاس المال العام

شدد القانون الليبي علي عقوبة جريمة اختلاس المال العام ،والتي حددت بالسجن والحبس والغرامة ،وفي بعض الأحوال يعاقب إضافة للعقوبة الأصلية بعقوبة تكميلية وذلك بإلزامه بدفع غرامه تعادل ضعف ما أختلسه إضافة إلي رد المبالغ المختلسة . أما قانون العقوبات السوري فهو يعاقب علي جريمة اختلاس الأموال العامة بالحبس من سنة إلي ثلاث سنوات وبغرامة اقلها قيمة ما يجب رده أي قيمة المبالغ المختلسة المواد (349،350) ع.س، وكذلك نص قانون العقوبات الاقتصادية والذي يعاقب كل من سبب إضرارا بالمال العام بالحبس أما من اختلس فقد قررت عقوبات قد تصل إلي خمسة عشر سنة


كما يعاقب قانون الجزاء الكويتي في باب الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة العامة بالحبس وبغرامة تعادل قيمة الأموال المختلسة المواد من 44-50 ع.كويتي

وأيضا يعاقب القانون السعودي علي جريمة اختلاس أو تبديد المال العام بموجب المادة (2) من المرسوم 43 لسنة 1377 بالسجن مدة لا تزيد علي عشر سنوات والغرامة التي لا تزيد علي عشرون ألف ريال . ويلاحظ انه وبالرغم من تنوع العقوبات التي نصت عليها التشريعات المقارنة إلا إنها اتجهت إلي التشديد في عقوبة جريمة اختلاس المال العام ،والعبرة بحسب رائيي الشخصي ليست في تشديد العقوبة وإنما في إمكانية تنفيذها فعليا بحيث لا يترك المجال لمختلس المال العام مفتوحا للإفلات من العقاب ،ولتحقيق ذلك ذهبت العديد من التشريعات ومنها المشرع المصري إلي التوسع في طرق إثبات جريمة الاختلاس ،حيث قضت كثير من الأحكام علي أن جريمة الاختلاس لا يشترط لإثباتها طرقة خاصة بل يكفي أن تقتنع المحكمة بوقوع الفعل المكون لها من أي دليل أو قرينة مهما كانت قيمة المال موضوع الجريمة



:المصادر

القانون رقم (2) لسنة 1979 بشأن سرقة المال العام

يوسف الشهاب ن 31.12.2018 ، شروط سرقة الاموال العامة ، موقع القبس

محمد نجم ابراهيم ، 13.1.2020 ، اختلاس المال العام والحماية القانونية ، المجلة الاكاديمية العالمية للدراسات القانونية

المقالات الأخيرة