العالم في مواجهة مخاطر متراكبة

التسارع في معدلات التطوير التكنولوجي، والانتشار السريع لفنون الإنتاج والتكنولوجيا، وزيادة الاعتماد المتبادل، والزيادة السريعة في حركة السفر، والثورة في تكنولوجيات الاتصالات والمعلومات، كل هذه عوامل تؤدي إلى تسارع توليد وانتقال المخاطر والتهديدات.

وذلك نظرًا لعدم كون رصد واستعراض الأزمات العالمية كافيًا للدلالة على عمق التحديات والمخاطر التي تواجه عالم اليوم، فقد تبنى القائمون على تقرير المخاطر العالمية مفهوم «بوليكريسيس»، أو الأزمات المركبة، وهو مفهوم مستحدث اقترحه المؤرخ الأمريكي آدم توز

بعض الأزمات التي يواجهها عالم اليوم مألوفة وسبق لها أن حدثت، أي أنها نوع من العودة لتحديات سابقة، ويشمل ذلك التضخم وتكاليف المعيشة والحروب التجارية وهروب رأس المال من الأسواق الناشئة وانتشار الاضطرابات الاجتماعية والمواجهات الجيوسياسية والتهديد بالسلاح النووي. إن أثر هذه الأزمات يتضخم هذه المرة بأثر من تغير خريطة المخاطر وبسبب مستويات الديون العالية بشكل غير مسبوق، وانخفاض معدل النمو وانخفاض معدلات الاستثمار وتراجع العولمة وتراجع التنمية البشرية بعد عقود من التقدم، والانتشار السريع للتكنولوجيا مزدوجة الاستخدام والضغط المتزايد للتغير المناخي؛ ويتفاعل كل هذا ليخلق حالة عميقة من عدم اليقين بسبب التزامن غير المسبوق بين كل هذه الأزمات.

المخاطر المتعددة تتفاعل مع بعضها، وتنتج أزمات مكبرة متعددة الأبعاد، تضرب بشكل متزامن في عدد من النظم العالمية في مجالات الاقتصاد والأمن والصحة العامة والبيئة. أحد أهم التحديات هو أن إدارة ومواجهة هذه المخاطر يحدث بشكل متفرق من جانب هيئات وفاعلين مختلفين، يختص كل منهم بالعمل ومعالجة الأزمات في نطاق محدد في انفصال عن الآخرين، وغياب علاقة تنسيق بين المجالات المختلفة؛ فالمعالجات المتعددة المستقلة عن بعضها، بالإضافة إلى أزمات هي بطبيعتها متكاملة يُضعف من القدرة على التعامل مع هذه الأزمات المتعددة.

الأزمات المتعددة تضرب في المجالات المختلفة، وتضرب أيضًا في المساحات الموجودة بين هذه المجالات. في هذه المساحات البينية يوجد عدم وضوح للمسئولية، وتغيب استراتيجيات واضحة ومجربة للعمل، بما يحول هذه المساحات البينية إلى مناطق غير محمية مفتوحة تنمو فيها الأزمات والتحديات. التحول الرقمي السريع يغير طبيعة المجالات المختلفة، ويسهم في خلق مساحات بينية واسعة، لا تحكمها القوانين بشكل كاف، وتتقاطع فيها المسئوليات، بما يضاعف من تحديات المخاطر المتعددة.

يطور تقرير المخاطر العالمية منهاجية لتحليل الأزمات المركبة، ويطبق هذه المنهاجية على أزمة الموارد الطبيعية، حيث تشير التوقعات إلى حدوث زيادة كبيرة في الطلب على الموارد الطبيعية بسبب زيادة السكان وارتفاع مستويات المعيشة والتغير الحادث في نظم وتكنولوجيا إنتاج الطاقة. ويتتبع التقرير الأزمات المرتبطة المتوقع لها أن تظهر بالارتباط مع الأزمة في الموارد، وتوصل إلى أن أزمة الموارد ستتراكب على الأرجح مع أزمات في مجالات المناخ والبيئة والاقتصاد والصراعات بين الدول وسلاسل التوريد.

يمثل هذا مركب أزمات محتمل الحدوث خلال العشر سنوات التالية. وتتوقف حدة هذه الأزمة وما إذا كنا سنتمكن من مواجهتها من عدمه على عاملين محفزين رصدهما التقرير، هما ما إذا كانت الدول ستكون قادرة على التعاون فيما بينها، والمسارات التي يأخذها التغير المناخي، بحيث أنه كلما زاد التعاون بين الدول، وتحسنت إدارتنا لأزمة التغير المناخي، كلما زادت قدرتنا على إدارة أزمة الموارد الطبيعية إن تحديد العوامل المحفزة، والتي تؤثر في قدرتنا على مواجهة الأزمات المتراكبة في الحالات المختلفة هو من أهم مكونات المنهاجية المقترحة للتعامل مع هذا النوع من الأزمات.

 

المخاطر العالمية على المدى القصير

_ أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة

كانت أسعار الغذاء والمواد الأساسية تشهد موجة ارتفاع منذ قبل كوفيد- 19، لكن الوضع زاد سوءا بعد ظهور الوباء ثم بعد اشتعال الحرب في أوكرانيا. لكن السياسات التي لجأت إليها حكومات عدة ساهمت في تعقيد المشكلة. فقد لجأت حكومات مختلفة حول العالم إلى تقييد تصدير منتجاتها من المواد الغذائية مُعطية الأولوية لتوفير احتياجات مواطنيها، مما أدى إلى نقص إضافي في المعروض وزيادة إضافية في الأسعار. ومع أن التضخم المتزايد على مستوى العالم يزيد من حدة أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة، إلا أن معدل ارتفاع أسعار المواد الأساسية قد فاق معدلات التضخم. يتوقع الخبراء تجاوز أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة في نهاية المدى القصير، غير أن تراجع الأزمة سيخلف وراءه ضررًا كبيرًا على الفئات الأضعف، الأمر الذي قد تكون له عواقب تتمثل في اضطرابات اجتماعية وسياسية واسعة النطاق ستبقى احتمالاتها قائمة حتى بعد تراجع تكاليف المعيشة عن المستويات القياسية التي تشهدها حاليا.

_ تباطؤ اقتصادي

تحاول البنوك المركزية في الدول الصناعية الغنية مقاومة الضغوط التضخمية المرتفعة برفع سعر الفائدة بمعدلات عالية، رافعة احتمالات التباطؤ الاقتصادي، وربما الركود. المتوقع هو تراجع معدلات التضخم في البلاد المتقدمة قبل انقضاء العامين المقبلين، غير أن هذا لن ينهي مشكلة الأسواق الناشئة، التي ستبقى مخاطر التباطؤ الاقتصادي فيها لفترة أطول.

_ المواجهات الجيو-اقتصادية

صعدت ظاهرة تحويل الاقتصاد إلى سلاح منذ عدة سنوات، عندما زاد اللجوء لاستخدام العقوبات والضغوط الاقتصادية لتحقيق أهداف جيوسياسية، الأمر الذي خلق مخاوف تحرص بسببها الحكومات على تقليل الاعتماد على من تعتبرهم خصوما سياسيين، وتقييد صادرات السلع التكنولوجية المتقدمة، والحرص على تحقيق درجة أعلى من الاكتفاء الذاتي في المواد والمنتجات الحيوية، وإعادة تصميم سلاسل التوريد بحيث تربط بين الحلفاء والشركاء المأمونين فقط.

_ إخفاق جهود تخفيف التغير المناخي

تبين المؤشرات أن العالم يتجه إلى الإخفاق في التخفيف من التغير المناخي، وأن فرص الوفاء بالالتزامات الضرورية للحد من الانبعاثات تبدو محدودة جدا، وأن الفجوة بين ما يوصي به العلماء والخبراء وبين ما هو ممكن سياسيا تزداد اتساعا.

_ التفكك والاستقطاب الاجتماعي

هناك قوى ضاغطة تدفع في اتجاه التفكك والاستقطاب الاجتماعي، بما في ذلك التفاوت في الدخل، والتباعد والخصومة والصراع بين أنماط القيم المجتمعية، وهي ظاهرة عامة تتأثر بها البلاد الغنية والفقيرة، والبلاد الديمقراطية والسلطوية.

المخاطر العالمية على المدى الطويل

_ فقدان التنوع البيولوجي وانهيار النظم الإيكولوجية

لا يبدو هذا خطرا بارزا في المدى القصير، ولكن في مدى العشر سنوات القادمة يرى الخبراء أن العالم مهدد بالوصول إلى نقطة اللاعودة فيما يخص الحفاظ على الأنظمة الإيكولوجية الطبيعية. فقد وصل التدخل الإنساني المهدد لأنظمة إيكولوجية شديدة الحساسية إلى مستوى شديد الخطورة لا تواكبه جهود الحفاظ على النظم الإيكولوجية الطبيعية. فمعدلات تسارع الأنشطة المهددة للبيئات الطبيعية أسرع بكثير من التسارع في أنشطة الحفاظ عليها. ويحذر التقرير من أنه خلال السنوات العشر القادمة سيكون للتفاعل بين فقدان التنوع البيولوجي والتلوث واستهلاك الموارد الطبيعية والتغير المناخي والتغيرات الاقتصادية الاجتماعية، آثار شديدة الخطورة على الأنظمة الإيكولوجية والحياة الطبيعية والتنوع البيولوجي. ونظرًا لأن أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي يعتمد بشكل مباشر على الطبيعة والموارد الطبيعية، فإن التدهور في النظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي سوف يترك آثارا شديدة السلبية على الاقتصاد والمجتمع. ومن ضمن هذه الآثار المتوقعة تواتر ظهور الأمراض والأوبئة التي تنتقل من الحيوان للإنسان، وانخفاض إنتاجية المحاصيل الزراعية وتراجع قيمتها الغذائية، ونقص المياه، وتواتر الفيضانات، وارتفاع منسوب مياه البحر.

 

يرتبط فقدان التنوع البيولوجي إلى حد كبير جدا بالتغير المناخي الذي يعتبر السبب الرئيس لفقدان التنوع البيولوجي؛ فموجات الاحترار الشديد، والعواصف وارتفاع منسوب ماء البحر والجفاف وما يتسبب فيه من حرائق الغابات قد تسبب بالفعل في انقراض أنواع حية بأكملها. الفشل في الحد من التغير المناخي سيتسبب في تسريع فقدان التنوع البيولوجي وانهيار النظم البيئية، خاصة في البيئات الجليدية في القارات القطبية، وبيئات الشعاب في المياه الدافئة، وبيئة الغابات.

_ مخاطر تهدد الصحة العامة

كشفت أزمة كوفيد - 19 عن المخاطر الصحية القائمة، وتشمل زيادة مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية، وشكوك الناس في اللقاحات وترددهم في تلقيها، والمخاطر ذات الصلة بالغذاء، ومخاطر العدوى الناتجة عن التغير المناخي. يشير التقرير أيضا إلى المخاطر التي تتعرض لها الصحة العقلية، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الصحة، والتي تزيد حدتها بسبب عوامل اجتماعية واقتصادية مثل العنف والوحدة والفقر. ويحذر التقرير من حالة الاسترخاء الصحي التي قد تنتج عن اختفاء أخبار كوفيد - 19 من عناوين الأخبار، بما يعيد تكرار ظاهرة إهمال القطاع الصحي التي كشف عنها كوفيد - 19، الأمر الذي يزيد من مخاطر ظهور وباء جديد، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية المتزايدة التي تدفع في اتجاه تقليل النفقات العامة.

يضع التغير المناخي المتسارع الصحة العامة تحت ضغط شديد بسبب تلوث الهواء والتعرض لموجات الحر والرطوبة ونقص إمدادات المياه النقية، وزيادة انتشار الأمراض الناتجة عن الفطريات واستطالة فترات الطقس الدافئ المناسب لانتشار أمراض مثل الملاريا وحمى الدنج. في الوقت نفسه فإن التغير المناخي يضع النباتات في ظروف أقل مواتاة، بما يؤدي إلى إضعاف قيمتها الغذائية.

_ أسلحة وصراعات جديدة

لقد صدر تقرير المخاطر العالمية لهذا العام فيما كانت الحرب في أوكرانيا تجذب الاهتمام وتعرّض الأمن الدولي لمخاطر كثيرة، من بينها زيادة الإنفاق العسكري لقوى كبرى رئيسية وتغيير السياسة الدفاعية لدول تبنت في مراحل سابقة سياسات مضادة للعسكرة والحرب لعقود.

التطورات في التكنولوجيا العسكرية ترفع مستوى المخاطر بما تؤدي إليه من محو الفواصل والتمييز بين الحروب التقليدية والحروب غير التقليدية، واتساع نطاق الحروب لتشمل الأرض والبحر والبر والفضاء والمجال السيبراني والقطبين المتجمدين، باستخدام أسلحة مستحدثة، مثل أسلحة الطاقة الموجهة والأسلحة المضادة للأقمار الصناعية.

_ تهديد الخصوصية الرقمية

بينما يتزايد الاعتماد على التكنولوجيا والتطبيقات الرقمية، ينتشر استخدام الأجهزة التي تقوم بجمع البيانات، فحياتنا تصبح مرقمنة بسرعة شديدة، الأمر الذي يتيح إمكانية تسجيل ما نفعله في حياتنا لصالح جهات حكومية وخاصة، بما يهدد الخصوصية والاستقلال الذاتي للأفراد، ويهدد بشكل خاص حق الفرد في ألا يكون مرصودا وموضع متابعة، وحقه في التحكم في كيفية استخدام المعلومات الخاصة به. وتزيد المخاطر التي تتعرض لها هذه الحقوق بسبب التطور السريع في تكنولوجيا التعرف على الوجه وتكنولوجيا التعرف على المشاعر من خلال المعلومات الحيوية، وهي تكنولوجيات تتطور أسرع بكثير من تطور الأطر المنظمة لاستخدامها.

_ عدم الاستقرار الاقتصادي وتزايد وطأة الديون

أسرفت الحكومات في الاستدانة في الفترة السابقة، أولًا بإغراء من انخفاض سعر الفائدة، وثانيًا لتخفيف الآثار الاقتصادية لكوفيد – 19. فلما تغيرت الأحوال، وتسارع التضخم، وأخذت أسعار الفائدة في الارتفاع، وجرى اتباع سياسات متشددة للسيطرة على التضخم، أصبحت الديون تمثل تهديدا كبيرا للاستقرار الاقتصادي والسياسي. وزادت احتمالات دخول العالم في ركود تضخمي، كما زادت احتمالات اضطرار عدد من الاقتصادات الناشئة الرئيسية للتوقف عن سداد ديونها، في حين تبدو المؤسسات الاقتصادية وحكومات الدول المتقدمة مترددة في توفير السيولة اللازمة في وقت تطبق فيه هذه الدول المتقدمة سياسات تقشفية.




المراجع

_ جمال عبد الجواد، 6/ مايو/ 2023، المخاطر التي تواجه عالم اليوم، مركز الاهرام للدراسات.

_ محمد محي الدين، 1/ مايو/ 2023، مواجهة الازمات في عالم شديد التغير، الشرق الأوسط.

المقالات الأخيرة