كيف يقوض تغير المناخ الأمن الغذائي العالمي
فرع بنغازي

حذر تقرير للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية و18 وكالة دولية أخرى، من أن تغير المناخ قد يقوض جميع أهداف التنمية المستدامة التي يجب تحقيقها بحلول عام 2030 وذلك سواء على صعيد الأمن الغذائي أو الصحة أو توفير المياه النظيفة وغيرها، موضحا أن الكوكب بعيد عن المسار الصحيح لكي يحقق الأهداف المناخية المرجوة وأن 15 % فقط من أهداف التنمية المستدامة هي التي تسير على المسار الصحيح.

 يعيش نحو 80% من سكان العالم الأكثر عرضة لمخاطر تلف المحاصيل والجوع بسبب تغيّر المناخ في أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، حيث ترتفع معدلات الفقر والمعاناة بين الأسر العاملة في مجال الزراعة بدرجة أكبر من غيرها. ويمكن لوقوع موجة جفاف شديدة بسبب ظاهرة النينيو المناخية أو تغيّر المناخ أن تدفع ملايين آخرين إلى براثن الفقر. ويصدق هذا حتى في بلدان، مثل الفلبين وفييتنام، تتمتع بدخل مرتفع نسبياً، ولكن المزارعين غالباً ما يعيشون على حافة الفقر، وتؤثر زيادات أسعار المواد الغذائية تأثيراً كبيراً على المستهلكين الفقراء في المناطق الحضرية.

حيث تُقدر الأمم المتحدة أن الأرض أصبحت الآن أكثر دفئاً بنحو 1.1 درجة مئوية مما كانت عليه في القرن التاسع عشر، وهي عُرضة إلى أن تزيد بما يصل إلى 4.4درجة مئوية بحلول نهاية القرن الواحد والعشرين، إذا ما استمرت الانبعاثات الكربونية عند مستواها الحالي. كما يواجه العالم أكثر من أي وقت سابق ظروفاً مناخية استثنائية، تتمثل في تباين عال في درجات الحرارة (موجات حارة أكثر حرارة، وموجات صقيع أكثر برودة)، وتباين أيضاً في معدلات سقوط الأمطار (جفاف أو سيول)، طبقاً لما تراه المنظمة العالمية للأرصاد الجوية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.

وتهدد تلك التغيرات المناخية، الأمن الغذائي لسكان العالم، فكلما ارتفعت وتباينت درجات الحرارة، انخفضت غلة المحاصيل الزراعية، حيث تعاني الأراضي الزراعية الإجهاد الحراري والجفاف وزيادة معدلات الملوحة وانتشار الآفات وانخفاض خصوبة التربة.

كيف يمكن أن يؤثر تغيّر المناخ على الزراعة والأمن الغذائي في المستقبل؟

يمكن أن يكون ارتفاع درجات الحرارة وثاني أكسيد الكربون مفيداً للمحاصيل حتى حد معين. ولكن ارتفاع درجات الحرارة يسرع أيضاً من معدلات البخر من النباتات والتربة، ويجب أيضا أن يتوافر ما يكفي من المياه لنمو المحاصيل.

وبالنسبة لمناطق العالم التي تعاني بالفعل من نقص المياه، تتزايد الآثار السلبية التي يتسبب فيها تغيّر المناخ على الإنتاج الزراعي عبر تناقص إمدادات المياه، وزيادة تكرار الظواهر الشديدة مثل الفيضانات والعواصف الشديدة، والإجهاد الحراري، وزيادة انتشار الآفات والأمراض.

 وتصبح أنشطة التكيف أكثر صعوبةً وتكلفةً بصورة مطردة فوق نقطة معينة من الاحترار - لا سيما عندما تتجاوز الزيادة في متوسط درجات الحرارة العالمية درجتين مئويتين. وفي البلدان التي تعاني بالفعل من ارتفاع شديد في درجات الحرارة، مثل حزام منطقة الساحل الأفريقي أو جنوب آسيا، يمكن أن يكون لارتفاع درجات الحرارة تأثير فوري على المحاصيل مثل القمح الأقل تحملاً لارتفاع درجات الحرارة.

وما لم تُحل هذه المشكلة، فإن انخفاض غلة المحاصيل، لاسيما في مناطق العالم الأشدّ معاناة من انعدام الأمن الغذائي، سيؤدي إلى سقوط المزيد من الناس في براثن الفقر- ومن الممكن أن يسقط نتيجة لذلك ما يقدر بنحو 43مليون شخص في أفريقيا وحدها تحت خط الفقر بحلول عام 2030.

كيف يمكن للزراعة التكيف مع تغيّر المناخ؟

من الممكن تقليل الانبعاثات وزيادة القدرة على الصمود، لكن القيام بذلك يتطلب في كثير من الأحيان تغيّرات اجتماعية واقتصادية وتكنولوجية كبيرة. وهناك بعض الاستراتيجيات الرئيسية في هذا الشأن:

 _ استخدام المياه على نحو أكثر كفاءة وفاعلية، على أن يقترن ذلك بوضع سياسات لإدارة جانب الطلب. وقد لا يكون إنشاء المزيد من مرافق البنى التحتية للري حلاً مجدياً إذا اتضح لنا أن إمدادات المياه لن تكون كافية في المستقبل لتزويد شبكات الري - وهو ما تظهره بحوثنا، وقد يكون هو الحال بالفعل بالنسبة لبعض البلدان. وتشمل الخيارات الأخرى تحسين إدارة جانب الطلب على المياه وكذلك استخدام أنظمة وتكنولوجيات متقدمة لحساب المياه لتقييم كمية المياه المتاحة، بما في ذلك أجهزة استشعار رطوبة التربة وقياسات البخر بالاستعانة بالأقمار الصناعية. ويمكن أن تؤدي هذه التدابير إلى تسهيل تبني أساليب مثل نظام الترطيب والتجفيف بالتناوب لحقول الأرز، مما يوفر المياه ويقلل من انبعاثات الميثان في الوقت نفسه.

_ التحول إلى المحاصيل الأقل استهلاكاً للمياه. على سبيل المثال، يمكن لمزارعي الأرز التحوّل إلى زراعة محاصيل تتطلب كميات أقل من المياه مثل الذرة أو البقوليات. ومن شأن ذلك أيضاً أن يساعد في الحد من انبعاثات الميثان، لأن الأرز يُعد مصدراً رئيسياً للانبعاثات ذات الصلة بالأغذية الزراعية. ولكن قد لا يكون من السهل لمزارعين يزرعون الأرز ويستهلكونه منذ آلاف السنين التحوّل إلى زراعة محصول آخر أقل استهلاكاً للمياه وأقل إصداراً للانبعاثات.

 _ تحسين سلامة التربة. هذا أمر بالغ الأهمية. فزيادة الكربون العضوي في التربة تساعد على تحسين الاحتفاظ بالمياه وتتيح للنباتات الحصول على المياه على نحو أكثر سهولة، مما يزيد من القدرة على مواجهة الجفاف. كما أنها توفر المزيد من المغذيات دون الحاجة إلى الأسمدة الكيماوية - التي تعد مصدراً رئيسياً للانبعاثات. ويمكن للمزارعين استعادة الكربون المفقود نتيجة لعدم حراثة التربة واستخدام محاصيل التغطية، لاسيما ذات الجذور الكبيرة، في دورة التناوب بدلاً من إراحة الحقول. ويمكن أن توفر حلول التحديات البيئية المستمدة من الطبيعة نحو 37% من قدرات التخفيف من آثار تغيّر المناخ الضرورية لتحقيق أهداف اتفاق باريس. لكن إقناع المزارعين بتبني هذه الممارسات سيستغرق وقتاً، فضلاً عن زيادة الوعي والتدريب. وفي الأماكن التي تكون فيها قطع الأراضي الزراعية صغيرة ولا يستطيع المزارعون تحمل تكلفة إراحة الحقول أو حتى بالتناوب مع المحاصيل البقولية، فإن تحسين سلامة التربة يمكن أن يكون أمراً صعباً.

ما الذي يفعله البنك الدولي لمساعدة البلدان على تعزيز الأمن الغذائي في مواجهة تغيّر المناخ؟

تكثف خطة عمل مجموعة البنك الدولي بشأن تغيّر المناخ (2021-2025) مساندتها للزراعة المراعية للمناخ في مختلف سلاسل القيمة الزراعية والغذائية، ومن خلال الإجراءات التداخلية على صعيد السياسات والتكنولوجيا لزيادة الإنتاجية، وتحسين القدرة على الصمود، والحد من انبعاثات غازات الدفيئة. ويساعد البنك أيضاً البلدان على التصدي لمشكلة الفاقد والمهدر من الأغذية وإدارة مخاطر الفيضانات والجفاف. فعلى سبيل المثال، في النيجر، يهدف مشروع يسانده البنك إلى إفادة 500 ألف مزارع وراع في 44 منطقة محلية من خلال توزيع البذور المحسنة التي تتحمل الجفاف، ورفع كفاءة أنظمة الري، والتوسع في استخدام الغابات لأغراض الزراعة، وأساليب الزراعة الحافظة للموارد. وحتى الآن، ساعد المشروع 336518 مزارعاً على إدارة أراضيهم على نحو أكثر استدامة، وطبق ممارسات زراعية أكثر استدامة في 79938 هكتاراً.

حيث تسبب ايضا ارتفاع درجات الحرارة في أن أصبحت بعض المناطق الزراعية غير منتجة، ما سيؤدي إلى تشريد عدد كبير من العمال، وليس فقط خفض إنتاجيتهم. لذا دائماً ما تنصح منظمة العمل الدولية دول العالم باتباع إصلاحات هيكلية لمساعدة العمال الزراعيين على الانتقال إلى قطاعات أخرى.

الممارسات الأربع: 

منذ توقيع قادة العالم على اتفاقية باريس للتغير المناخي في عام 2015، تسعى الدول مجتمعة أو بشكل منفصل لتحقيق هدف الاتفاقية، واحتواء الاحترار العالمي. وعلى المستوى الأممي، تم إطلاق عدد من المبادرات الدولية في السنوات الأخيرة فيما يخص كيفية تعامل القطاع الزراعي مع تحدي التغير المناخي، ومن أبرزها مبادرة البنك الدولي المعروفة بــ "الزراعة الذكية مناخياً" وتقوم المبادرة السابقة على نهج متكامل لإدارة المحاصيل والثروة الحيوانية والغابات ومصايد الأسماك في ظل ظاهرة الاحتباس الحراري. وللمبادرة ثلاثة أهداف، هي زيادة الإنتاجية، وتحسين القدرة على التكيف والنمو في مواجهة أنماط الطقس غير المنتظمة، والحد من الانبعاثات. ويُذكر أنه في عام 2020، تم توجيه 52% من تمويل البنك الدولي للزراعة إلى مشروعات التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره، كما ساهم البنك الدولي في وضع خطط استثمار زراعي ذكي مناخياً للعديد من دول العالم.

أما الخطط والمبادرات الخاصة بكل دولة، فتتنوع بين جهود تقليل الانبعاثات الناتجة عن أنشطة توفير الغذاء، وبالتالي تحجيم ظاهرة التغير المناخي، وآليات التكيف مع التغير المناخي. وجدير بالذكر أن عملية إنتاج الأغذية وتعبئتها وتوزيعها تساهم بثُلث الانبعاثات المُسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، ودون التدخل لاحتوائها، فمن المرجح أن تزيد انبعاثات النظام الغذائي بنسبة تصل إلى 40% بحلول عام 2050؛ نظراً لزيادة الدخول وزيادة عدد السكان.

وعموماً، هناك 4 ممارسات رئيسية تتسبب في الغالبية العظمى من الانبعاثات في قطاع الزراعة والإنتاج الحيواني، وهي استخدام الأسمدة النيتروجينية، وانبعاث غاز الميثان من الماشية، وتصنيع الأغذية، وهدر الطعام، وتقوم الكثير من الحكومات بضبط هذه الممارسات الأربع لمواجهة الاحتباس الحراري، وذلك كما يتضح على النحو التالي:

_ تحجيم انبعاثات غاز الميثان: تعتبر دول القارة الأوروبية، وفي صدارتها سويسرا، من أكثر بلدان العالم نجاحاً في تطبيق ممارسات مثلى لتخفيض الانبعاثات الناتجة عن استخدام الأسمدة النيتروجينية، والعملية الحيوية للماشية. وعملت سويسرا، بمساعدة الجامعات والشركات المحلية، على تطوير أسمدة منخفضة الانبعاثات، حيث نجحت بعض الشركات السويسرية في تخليق أعلاف صناعية للتغذية الحيوانية بإمكانها خفض غاز الميثان الناتجة عن الماشية بنسبة 30%.

_ تقليل الهدر الغذائي: أهدر سكان العالم نحو 931 مليون طن من الأغذية المتاحة في عام 2019 أو نحو 17% من إجمالي المواد الغذائية المتاحة للمستهلكين، ويخلق ذلك كميات كبيرة من الانبعاثات الكربونية كان من الممكن تفاديهاً. ويُقدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن ما بين 8 إلى 10% من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية مرتبطة بأغذية تُنتَج ولا تُستهلك. ولذا، عملت المؤسسات الدولية على مساعدة الدول في تقليل الهدر الغذائي ليس فقط من أجل تحقيق الأمن الغذائي، وإنما تقليل الانبعاثات الكربونية أيضاً.

وتُعتبر الاستراتيجية الزراعية المغربية المعروفة بـــ "الجيل الأخضر 2020- 2030" واحدة من أهم التجارب الدولية التي تمولها مبادرة الزراعة الذكية مناخياً، فالاستراتيجية تتسق مع الجهود الدولية لتقليل الانبعاثات، خاصة فيما يتعلق بتقليل الهدر والفاقد الغذائي. وتعمل هذه الاستراتيجية على التدريب التقني للمزارعين المغاربة، حتى يقوموا بالتسويق الرقمي وربط منتجاتهم بسلاسل الإنتاج المحلية، لتقليل فاقد المحاصيل لأقل قدر مُمكن.

_ التحسينات الجينية: عادة ما يُضيف الفلاحون الأسمدة النيتروجينية بكثافة عالية للتربة من أجل زيادة كمية الحبوب المُنتَجة لكل فدان، ولكن ذلك تنتج عنه أضرار بيئية بالغة. إذ إن زيادة إنتاج المحاصيل بنسبة 1% في بعض مناطق أوروبا والصين، يسهم في زيادة الانبعاثات الناتجة عن استخدام الأسمدة النيتروجينية بنسبة 35%.

ولهذا، اتجهت بعض الدول إلى توظيف علم الجينات في تطوير نواقل الأسمدة النيتروجينية للنباتات، لكي تعظم استفادة الأخيرة من المغذيات الصناعية. وقد نجحت الصين في زيادة إنتاج الغلال بنسبة 60% عبر تطوير نواقل الأسمدة النيتروجينية. وجدير بالذكر أن العالم يستهلك نحو 120 مليون طن من الأسمدة النيتروجينية كل عام، لزيادة إنتاجية المحاصيل، وتعويض نقص النيتروجين في الغلاف الجوي. ومن ثم، يمكن اعتبار أن تطوير جينات النباتات المسؤولة عن امتصاص النيتروجين، ستكون خط دفاع أساسياً لمواجهة ظاهرتي الاحتباس الحراري والجوع.

_الري بالتنقيط و"تناقض جيفونز": من البديهي أن يساهم الري بالتنقيط في توفير كميات المياه المستخدمة في زراعة المحاصيل، وقد حفزت كفاءة الري بالتنقيط الحكومات والمزارعين على التوسع في استخدام هذه التقنية حتى في الأماكن الصحراوية المُعتمدة على المياه الجوفية، على نحو عزز الاستخدام الجائر للمياه.

ولكن صاحب ذلك، الاستغلال المُكثف للطاقة في عمليات استخراج المياه وإدارة الري بالتنقيط، ما يولد أثراً سلبياً على درجة حرارة الأرض. ومرجع ذلك المبدأ المعروف بـ "مفارقة أو تناقض جيفونز والذي يفترض ضمناً أن تقنيات كفاءة استغلال الموارد عادة ما تأتي بنتائج عكسية، وتسهم في كثافة استهلاك الموارد ذاتها.

لهذا، يقوم البنك الدولي والأمم المتحدة بالمساهمة في نشر وتمويل أنظمة الري الصغيرة المعتمدة على الطاقة الشمسية. وقد ساهمت الأخيرة في دعم كفاءة المزارع الصغيرة في بلاد تعاني الآثار السلبية للاحتباس الحراري مثل الكاميرون وأوغندا وباكستان، كما عملت على خفض كميات المياه المُهدرة مع الحفاظ على البيئة وارتفاع كفاءة استخدام الأسمدة وزيادة عائدات النشاط الزراعي. هذا إلى جانب تكنولوجيا إعادة تدوير مياه صرف الصحي، والتي يمكن أن تصبح أحد الحلول الأخرى للتعامل مع مشكلة نقص موارد المياه، وموجات الجفاف.





المراجع

_ محمد نجم، 10.10.2021، كيف يقوض تغير المناخ الأمن الغذائي العالمي، المستقبل للدراسات الاستراتيجية.

_ إيرينا أوتكينا، 17.10.2022، ما يجب معرفته عن الأمن الغذائي وتغيّر المناخ، البنك الدولي.

المقالات الأخيرة