تعتبر
القوة العسكرية وسيلة مهمة من وسائل تحقيق السياسة الخارجية، ونظراً إلى ما يمكن
أن يحدثه استخدامها من دمار، فإن من المهم تقييم استخدام هذه الوسيلة بشكل مناسب،
وبطرق من شأنها تسهيل مقارنتها بالوسائل غير العسكرية في تحقيق السياسة الخارجية
وإدارة شؤون الدولة.
تشهد
السياسة الخارجية البريطانية منحى متصاعداً في الآونة الأخيرة نحو توظيف الأداة
العسكرية؛ حيث ازداد الانخراط العسكري لبريطانيا في مناطق مختلفة؛ على رأسها
أوكرانيا والبحر الأحمر ضد الحوثيين، وجويانا في أمريكا اللاتينية ضد فنزويلا. هذا
التوسع في استخدام الأداة العسكرية، يعكس – في جانب منه – مساعي لندن لتعزيز دورها
على الساحة الدولية، وإعادة تقديم نفسها طرفاً مؤثراً في التفاعلات العالمية،
ناهيك عن تأثيرات بريكست، ومحاولة بريطانيا الحصول على المزيد من المكاسب
الاقتصادية لتعويض الخسائر المترتبة على الخروج من الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى
ذلك فإن حزب المحافظين ربما يُراهِن على تنشيط السياسة الخارجية البريطانية من أجل
دعم شعبيته وتعزيز فرصه في الانتخابات القادمة.
حيث
شرعت بريطانيا في إعمال آلتها العسكرية في مناطق مختلفة، باعتبار ذلك جزءاً من
محاولات تقديم نفسها بصفتها مدافعاً عن الديمقراطية والحريات، وتعزيزاً لحضورها
على الساحتين الإقليمية والدولية – ما بين الحفاظ على المكانة ومحاولات البناء
والاستعادة – غير أن نتائج الانخراط العسكري البريطاني لم تُثمِر – حتى اللحظة على
الأقل – إلا عن استمرار النزاع، وربما زيادة حدة توتره؛ فقد هددت روسيا باعتبار أي
انتشار لوحدة عسكرية بريطانية على أرض أوكرانيا بأنها إعلان حرب، ولم يتراجع
الحوثيون عن استهداف السفن في البحر الأحمر.
وأمر
مادورو أكثر من 5600عسكري بالمشاركة في تدريبات دفاعية رداً على
إرسال بريطانيا سفينة حربية إلى جويانا، وقال في خطاب له إن "التهديد الذي
تمثله الإمبراطورية البريطانية المتعفنة غير مقبول"؛ أي إن الانخراط العسكري
البريطاني يُنذِر بمزيد من التصعيد في مناطق الصراع، ولا يساعد على نزع فتيل
الأزمات، علاوةً على أنه ليس من الحصافة السياسية الإقبال على فتح جبهات انخراط
عسكري متعددة في آن واحد؛ لأن هذه الانخراطات لا تأتي خاليةً من المخاطر العسكرية
والسياسية والاقتصادية التي قد تنال الدول المنخرطة وغيرها.
النشاط
العسكري
يُقصَد
بعسكرة السياسة الخارجية زيادة الاعتماد على القوات المسلحة بأفرعها المختلفة في
الحفاظ على أهداف الأمن القومي مقارنةً بالوسائل الأخرى غير العسكرية، غير أن
المقصود هنا لا يتعلَّق بتوظيف قوات ضمن أطر مؤسسية بغرض حفظ السلام والأمن حسبما
هو مُتعارَف عليه في العلاقات الدولية، باعتبار ذلك جزءاً من التزامات الدولة
السلمية تجاه النظامَين الإقليمي والدولي، وإنما يُقصَد به توظيف قوات لتنفيذ
عمليات اشتباك عسكرية خارج أراضي الدولة، والإقدام على تقديم الدعم والمساعدات
العسكرية بغرض تسليح دولة على حساب أخرى في حالات النزاع الإقليمي أو الدولي.
ومؤشرات ذلك في الحالة البريطانية هي:
1– تكثيف الدعم العسكري لأوكرانيا في مواجهة
روسيا: في بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير 2022، بادرت بريطانيا بإرسال 14 دبابة مقاتلة من طراز Challenger 2S
إلى أوكرانيا في مارس – أي الشهر التالي على بداية الحرب – التي وُصفت آنذاك بأنها
مساعدة رمزية، لكن الأمر لم يقف عند ذلك؛ فقد وصل حجم المساعدات العسكرية
البريطانية إلى 2.3مليار جنيه إسترليني في 2022 لتصبح الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية في تقديم
المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وهو ما تعهَّد رئيس الوزراء باستمراره في 2023.
2– إرسال سفينة حربية إلى جويانا في ظل صراعها
مع فنزويلا: تزايد الصراع بين جويانا وفنزويلا حول إقليم إيسيكويبو الحدودي خلال
السنوات الماضية عندما اكتشفت شركة نفط أمريكية كميات كبيرة من النفط تقدر بنحو 11 ألف مليار برميل في الإقليم. ورغم استمرار النزاع حول الإقليم
لقرابة العقد، فإن فنزويلا مؤخراً عقدت استفتاءً شعبياً لضم الإقليم وافق فيه أكثر
من 95% من الفنزويليين على ضم الإقليم؛ الأمر الذي
اعتبره محمد عرفان علي رئيس جويانا تهديداً لأمن واستقلال وسيادة دولته التي يمثل
إقليم إيسيكويبو 80% من أراضيها.
اللافت
للنظر أنه بعد أسبوع واحد فقط من اتفاق الرئيسيين الفنزويلي والجوياني على عدم
استخدام العنف في حل هذا الصراع والاحتكام إلى الطرق السلمية القانونية في 14 ديسمبر 2023، أعلن وزير الدفاع البريطاني عن إرسال سفينة
الدورية البحرية الملكية البريطانية HMS Trent؛
الأمر الذي أثار حفيظة مادورو رئيس فنزويلا، وطالب قواته بالبدء في التدريبات
العسكرية الدفاعية، باعتبار أن هذا تهديد غير مباشر له.
3– الاشتباك العملياتي في البحر الأحمر ضد
الحوثيين: على خلفية الحرب الإسرائيلية على غزة، شرع الحوثيون في تنفيذ هجمات
صاروخية على السفن المارة في البحر الأحمر ذات الصلة بإسرائيل والدول الداعمة لها؛
الأمر الذي دفع شركات الملاحة إلى الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، وهو ما يعني
ارتفاع مدة الرحلات البحرية إلى عشرة أيام إضافية، ومن ثم ارتفاع تكلفة النقل
البحري.
وعلى
الرغم من أن بريطانيا تبنَّت خطاباً داعماً لعدم التصعيد، واتباع السبل الدبلوماسية
منعاً لتفاقم الأوضاع في المنطقة، فإنها أشركت المدمرة HMS Diamond في قوات تحالف حراس الازدهار في 30نوفمبر 2023، وهي قوة بحرية متعددة الجنسيات بمشاركة 20 دولة، وبقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وعملياتيا، اشتركت
المدمرة في إسقاط طائرة بدون طيار يوم 16 ديسمبر 2023، وساهمت في عدد من العمليات الأخرى، مثل عملية يوم 9يناير 2024؛ حينما أسقطت 7طائرات بدون طيار للحوثيين. وفي 11 يناير 2024، شاركت الطائرة راف البريطانية في عملية
جوية لتدمير بعض مواقع الحوثيين داخل اليمن بالتعاون مع الولايات المتحدة
الأمريكية، وهو تصعيد عسكري واضح من جانبها.
4– ارتفاع الإنفاق العسكري البريطاني نسبةً
إلى الإنفاق الحكومي: وفق تقديرات معهد ستوكهولم لدراسات السلام (سيبري) للإنفاق
العسكري، كانت نسبة الإنفاق العسكري البريطاني في 2020نحو 4.3% من إجمالي الإنفاق الحكومي، ثم ارتفعت قليلاً في 2021 لتصبح 4.33%. أما في 2022 فقفزت هذه النسبة لتصبح 5.29%. وإذا ما قورنت هذه النسب بالتغيُّر في الإنفاق الحكومي على قطاع
غير عسكري مثل التعليم، اتَّضح للقارئ كيف أنه مقابل ارتفاع الإنفاق العسكري هناك
انخفاض في الإنفاق الحكومي على التعليم؛ فقد وصلت نسبة الإنفاق الحكومي على
التعليم في عام 2020–2021 إلى 4.6%، ثم انخفضت لتصبح 4.3% في عام 2021–2022، واستمر ذلك المُعدَّل في عام 2022–2023.
5– تنامي الإنفاق العسكري نسبةً إلى الناتج
المحلي الإجمالي البريطاني: باعتبار بريطانيا إحدى الدول الأعضاء في حلف الناتو،
فإنها مُلزَمة بإنفاق 2% من إجمالي الناتج المحلي على الدفاع، وهو
ما حققته بالفعل؛ حيث وصلت نسبة الإنفاق العسكري البريطاني نحو 2.16% من الناتج المحلي الإجمالي في عامي 2020 و2021 على التوالي. أما في 2022، فقد ارتفعت هذه النسبة لتصبح 2.23%. وفي 2023، استمر الارتفاع في نسبة الإنفاق العسكري
ليُسجِّل 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني.
6– الارتفاع في الميزانية العسكرية بالمقارنة
بالمخصصات الدبلوماسية: ففي عام 2021–2022، وصل حجم الإنفاق العسكري الفعلي لبريطانيا
إلى 45.9 مليار جنيه إسترليني، وهو ما يزيد عن
الإنفاق العسكري لعام 2020–2021 بنحو 3.6مليار جنيه إسترليني. أما في عام 2022–2023، فقد ارتفع الإنفاق العسكري إلى 53.1 مليار جنيه إسترليني. وفي عام 2023–2024 قدَّرت الحكومة البريطانية حجم الإنفاق
العسكري المتوقع بنحو 50.9مليار جنيه إسترليني ترتفع إلى 51.7مليار جنيه إسترليني في عام 2024–2025.
7– تزايد الجدل حول إمكانية فرض التجنيد
الإلزامي: تزايد الجدل في الداخل البريطاني، خلال الشهور الأخيرة، حول مقترحات
تنفيذ التجنيد الإلزامي؛ فعلى سبيل المثال، دعا رئيس الأركان البريطاني باتريك
ساندرز، يوم 25 يناير 2024، إلى "تدريب وتجهيز جيش من المواطنين"؛ لمواجهة أخطار
النزاعات. وقال الجنرال: "علينا أن نكون قادرين على القتال والانتصار في
الحروب البرية، وليس في الجو والبحر فقط"، وأضاف: "نحن بحاجة إلى جيش
منظم ليزداد عدده بسرعة"، مشيراً الى ضرورة "إعداد وتجهيز جيش
المواطنين" بجانب القوات المحترفة.
ولكن
بعد هذه التصريحات، خرج ماكس بلين المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني ريشي
سوناك، ليؤكد أن "الحكومة لا نية لديها لفرض التجنيد"، وقال:
"للجيش البريطاني تقليد يفخر به، وهو كونه قوة طوعية. لا خطط لتغيير ذلك.
الانخراط في حروب افتراضية ليس مفيداً".
8– تصاعد دور وزارة الدفاع في تنفيذ أهداف
السياسة الخارجية البريطانية: ويكفي هنا الإشارة إلى أن أول زيارة رسمية لريشي
سوناك رئيس الوزراء خارج بريطانيا، كانت إلى كييف في نوفمبر 2022 بمرافقة الأدميرال سير توني راديكن رئيس القوات المسلحة
البريطانية، ولم يكن برفقتهما وزير الخارجية البريطاني آنذاك جيمس كليفرلي، الذي
زار كييف منفرداً لأول مرة في يوليو 2023. تلا ذلك زيارة وزير الدفاع البريطاني جرانت
شابس إلى كييف لأول مرة ليلتقي الرئيس الأوكراني زيلينسكي، ونظيره الأوكراني رستم
عمروف.
ومع
حركة التغييرات الحكومية التي أجراها سوناك، عُيِّن ديفيد كاميرون وزيراً
للخارجية، وكانت أول زياراته خارج البلاد إلى أوكرانيا في نوفمبر 2023 منفرداً أيضاً. وفي يناير 2024، أجرى ريشي سوناك زيارة مفاجئة إلى أوكرانيا أعلن خلالها عن أكبر
حزمة مساعدات عسكرية للفترة من 2024–2025 بقيمة 2.5مليار جنيه إسترليني، وهو ما يزيد عن العامين
السابقين بنحو 200 مليون جنيه إسترليني. وقد وقَّع الطرفان
اتفاقية تعاون أمني تُلزِم بريطانيا بتقديم الدعم المعلوماتي والاستخباراتي
والسيبراني لأوكرانيا، بالإضافة إلى التدريب الطبي والعسكري، والتعاون الصناعي
الدفاعي.
ويرتبط
الاقتراب العسكري في السياسة الخارجية البريطانية مؤسسياً بدرجة انخراط القوات
المسلحة البريطانية ووزارة الدفاع، والخدمات الاستخباراتية في عملية صنع وتنفيذ
السياسة الخارجية تجاه مناطق الصراع؛ ففي يوم توقيع الاتفاقية، نشر وزير الدفاع
البريطاني جرانت شابس فيديو مصوراً على صفحته على منصة X
يدعو فيه "الدول الأوروبية إلى تقديم مزيد من الدعم إلى أوكرانيا حفاظاً على
قيم الديمقراطية والحرية ضد وحشية روسيا"، في حين لم ينشر ديفيد كاميرون –
بصفته وزيراً للخارجية – أو وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية البريطانية، أي
تعليق أو خبر على اتفاقية التعاون الأمني مع أوكرانيا.
ولا
يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى الصراع في البحر الأحمر وفي أمريكا الجنوبية؛
فهناك استقرار على توزيع الأدوار بين وزارتَي الخارجية والدفاع، يقتصر فيه دور
وزير الخارجية على الزيارات وإصدار البيانات الداعمة، في حين يقوم وزير الدفاع
بتنفيذ عمليات اشتباك أو إرسال سفن حربية وجدولة تدريبات عسكرية؛ أي إن وزارة
الخارجية تتبنَّى الجانب الخطابي، في حين تضطلع وزارة الدفاع بالتنفيذ.
محفزات
لندن
يرتبط
التوظيف المتصاعد للأداة العسكرية في السياسة الخارجية البريطانية بعدد من
المحفزات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
–
الحاجة إلى تدعيم دور بريطانيا في حفظ الأمن الأوروبي.
_
إدراك خطورة التمدد العسكري الروسي.
_
إعادة تأكيد الدور الدولي لبريطانيا باعتبارها قوة تقليدية راسخة.
_
استدعاء الإرث التاريخي البريطاني في إدارة السياسة الخارجية الراهنة.
_
ارتباط مناطق الصراع بالمصالح الاقتصادية البريطاني.
–
إيجاد مهرب خارجي أمام الرأي العام لتبرير تردِّي الأوضاع الاقتصادية.
– محاولة حزب المحافظين تعزيز فرصه الانتخابية.
المراجع
_
سمية السيد، 13.2.2023، تصاعد توظيف الأداة العسكرية في السياسة الخارجية
البريطانية، انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية.
_
صالح النملة، 27.2.2024، دور المؤسسة العسكرية في صنع قرارات السياسة الخارجية،
الجامعي.