نصت
معاهدة ماستريخت التي أنشئ بموجبها الاتحاد الأوروبي في العام 1991 على وضع سياسة
خارجية وأمنية مشتركة تُستكمل بسياسة دفاعية مشتركة عندما تنضج الظروف. وقد أثارت
الاجراءات التي اعتمدت عام 1999 من أجل ذلك حالاً من التوتر في العلاقات بين
الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الحريصة على الحفاظ على صدارة حلف الأطلسي،
طريقها إلى الوصاية العسكرية على القارة الأوروبية.
في
خضم ما تشهده القارة الأوروبية من تحولات جذرية على خلفية الحرب الأوكرانية، تفرض
مسألة "الأمن الأوروبي الجماعي" نفسها على رأس أولويات الاتحاد
الأوروبي، وخاصةً أن تهديدات أمن القارة العجوز – وعلى رأسها خطر العمليات
العسكرية – لم تكن وليدة اللحظة ولا غير متوقعة؛ وذلك استناداً إلى الحروب السابقة
التي شنَّتها روسيا في جورجيا وشبه جزيرة القرم، والاضطرابات الأمنية والحدودية في
البلقان، ناهيك عن الأخطار الاستراتيجية المرتبطة بسباق التسلح بين فرنسا
وبريطانيا ودول المظلة النووية من جانب وبين روسيا من جانب آخر، بالشكل الذي يضع
الأمن الأوروبي – بل العالمي – على المحك.
لذلك
شغل موضوع المراجعة الفكرية لـ “سياسة الأمن والدفاع المشتركة" حيزاً معتبراً
في أروقة مؤسسات الاتحاد خلال الآونة الأخيرة، (وبخاصة المجلس الأوروبي باعتباره
هيئة صياغة السياسات العليا للاتحاد، والمفوضية الأوروبية باعتبارها ذراعه الفنية
والتشغيلية). وتجدر الإشارة في السياق ذاته إلى أن سياسة الأمن والدفاع المشتركة (CSDP) تعتبر جزءاً لا يتجزأ من السياسة الخارجية والأمنية المشتركة
للاتحاد الأوروبي (CFSP)، التي تُعتبَر بدورها الإطار الرئيسي الذي
يمكن من خلاله للدول الأعضاء تطوير ثقافة استراتيجية أوروبية للأمن والدفاع،
والتصدي المشترك للنزاعات والأزمات، وحماية الاتحاد ومواطنيه، وتعزيز السلام
والأمن الدوليين.
ونظراً
إلى السياق الجيوسياسي المتوتر، كانت "سياسة الأمن والدفاع الأوروبية"
من أسرع السياسات نمواً على مدار السنوات العشر الماضية، إلى درجة وصولها حاليّاً
إلى مرحلة الفحص الشامل والمراجعة الجذرية، بما يفرضه ذلك من تساؤل جوهري حول مدى
قدرة الاتحاد الأوروبي على تبني سياسة دفاعية فعَّالة ورادعة، ومدى قدرة صياغة هذه
السياسة وتنفيذها بشكل مستقل عن حلف الناتو وآلياته.
عناصر
رئيسية
لا
تنفصل تطلعات صياغة سياسة دفاعية مشتركة جديدة، أو على أقل تقدير إصلاحها بشكل
جوهري، عن الوضع الراهن والإطار الحاكم الحالي لهذه السياسة المشتركة؛ حيث تتمثل
أبرز خصائص وعناصر سياسة الأمن والدفاع الأوروبية الحالية في الآتي:
1–
المرجعية القانونية للسياسة الدفاعية الأوروبية: تم تفصيل "سياسة الأمن
والدفاع المشتركة" في معاهدة لشبونة المعروفة أيضاً باسم معاهدة الاتحاد
الأوروبي، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 2009؛ فقد تناولت المواد 42–46 من القسم
الثاني للفصل الثاني (تحت الباب الخامس المعنون بـ"الأحكام العامة المتعلقة
بالعمل الخارجي للاتحاد والأحكام المحددة المتعلقة بالسياسة الخارجية والأمنية
المشتركة")، الأحكام المتعلقة بسياسة الأمن والدفاع المشتركة من حيث طريقة
الصياغة واتخاذ القرار فيها، كما تم تحديد دور البرلمان الأوروبي في كلٍّ من سياسة
الأمن والدفاع المشتركة، والسياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي في
الباب الخامس، الفصل 2، القسم 1 (أحكام مشتركة)، وعلى وجه الخصوص المادة 36، ناهيك
عن أن طرق تمويل السياستين محددة في المادة 41.
بالإضافة
إلى ما تقدَّم، تم استعراض مزيد من التفاصيل بشأن هذه السياسة في تعديلات معاهدة
لشبونة وبروتوكولاتها الملحقة، وخاصةً البروتوكولات رقم 1 (بشأن دور البرلمانات
الوطنية في الاتحاد الأوروبي)، ورقم 10 (بشأن التعاون المنظم الدائم الذي أنشأته
المادة 42 من معاهدة الاتحاد الأوروبي)، ورقم 11 (بشأن المادة 42 من معاهدة
الاتحاد الأوروبي)، وكذلك في الإعلانَين 13 و14 (إعلانان بشأن السياسة الخارجية
والأمنية المشتركة).
2–
الإطار التنظيمي للسياسة الدفاعية الأوروبية: يلعب الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي
للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية – الذي يمارس أيضاً وظيفة نائب رئيس المفوضية
الأوروبية – الدور الرئيسي على المستوى المؤسسي في تحريك وتفعيل هذه السياسة.
حاليّاً، يشغل جوزيب بوريل هذا المنصب منذ ديسمبر 2019، ويرأس مجلس الشؤون
الخارجية في تشكيله من وزراء الدفاع، وهو هيئة صنع القرار في سياسة الأمن والدفاع
المشتركة؛ حيث يقدم مقترحات للسياسة الأمنية والدفاعية للدول الأعضاء.
أما
عن آلية اتخاذ القرار في هذه السياسة، فيتخذ المجلس الأوروبي ومجلس الاتحاد
الأوروبي القرارات التي تتعلق بها بالإجماع (المادة 42 من معاهدة الاتحاد
الأوروبي)، مع بعض الاستثناءات الخاصة بالقرارات المتعلقة بوكالة الدفاع الأوروبية
EDA (المادة 45 من معاهدة الاتحاد الأوروبي) والتعاون المنظم الدائم
(المادة 46 من معاهدة الاتحاد الأوروبي)؛ حيث يتم التصويت على القرارات الخاصة
بهما بالأغلبية المطلقة. ويشمل نطاق عمليات هذه السياسة نشر مهمات حفظ سلام مشتركة
من جيوش دول الاتحاد، وإطلاق المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة، فضلاً عن
تعزيز أوجه التعاون في مجال الإنتاج الدفاعي المشترك والتخطيط العملياتي، ناهيك عن
بلورة آلية للتنسيق مع حلف الناتو باعتباره الذراع الدفاعية الرئيسية في أوروبا.
3–
آليات تمويل عمليات السياسة الدفاعية الأوروبية: يتم تمويل برامج هذه السياسة من
خلال أداتين رئيسيتين: أولاهما هي مرفق السلام الأوروبي (EPF)،
وهو أداة من خارج الميزانية تحرص على تقسيم أعباء التكاليف بين الدول الأعضاء
وفقاً لحجم ميزانياتها الوطنية. وتُستخدَم اعتمادات المرفق المالية في تمويل
عمليات حفظ السلام داخل وخارج أوروبا، والتدريب وتسليم المعدات العسكرية إلى الدول
الشريكة في قطاعَي الأمن والدفاع. وربما تتمثَّل أهم إسهامات هذا الصندوق في
المساعدات العسكرية التي منحها الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا بمقدار 3.6 مليار يورو
في أغسطس 2023.
وتتصل
الأداة الثانية بصندوق الدفاع الأوروبي (EDF)؛
إذ تبلغ ميزانية الصندوق 8 مليارات يورو – بند فرعي في الميزانية العادية للاتحاد
– للفترة من 2021 إلى 2027، ونحو 2.7 مليار يورو لتمويل الأبحاث الدفاعية
التعاونية، و5.3 مليار يورو مخصصة لتمويل مشاريع تنمية القدرات التعاونية،
بالإضافة إلى المساهمات الوطنية. ويُشجِّع الصندوق التعاون بين الشركات والجهات
البحثية فيما يتعلَّق بالبحث والتطوير. ويدعم الصندوق المشاريع التنافسية
والتعاونية طَوال دورة البحث والتطوير، بهدف إحداث تأثير أكبر على القدرات
الدفاعية الأوروبية.
مقترحات
التطوير
مما
تقدَّم، يتجلَّى بوضوح أن الوضع الحالي لسياسة الأمن والدفاع المشتركة يُعاني من
صعوبات إجرائية وموضوعية هامَّة تُكبِّل قدرتها على مواجهة التحديات الواسعة
النطاق من جانب، وتُكرِّس تبعية الاتحاد لحلف الناتو في مجال ضمان أمنه الذاتي من
جانب آخر؛ فبخلاف العوائق التي تفرضها قاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات، فإن
التوصيات الصادرة عن مجلس الشؤون الخارجية بتشكيله الوزاري من وزراء الدفاع، تفتقر
إلى الآلية الإلزامية الجماعية، وتخضع بشكل كبير للولاية الحصرية للدولة العضو،
سواء في قرار إرسال قوات إلى دولة معينة، أو في الانخراط في جهود التصنيع الدفاعي
المشترك. يُضَاف إلى ذلك أيضاً ضآلة حجم التمويل المتوافر للمرفق الأوروبي للسلام
للقيام بالمهمات الواجبة في إطار سياسة الأمن والدفاع؛ لذا ظهرت في الفترة الأخيرة
مجموعة من الجهود والمقترحات لتحسين هذه السياسة، وبمعنى أصح لضمان استقلاليتها
وفاعليتها الذاتية بعيداً عن الارتباط العضوي بحلف الناتو، وهو ما يمكن تناوله على
النحو التالي:
1–
وثيقة البوصلة الاستراتيجية للأمن والدفاع: في يونيو 2021، أطلق الاتحاد الأوروبي
عملية إعادة التفكير في مستقبل الأمن والدفاع الأوروبي؛ حيث أدت هذه العملية إلى
اعتماد وثيقة تُعرَف باسم "البوصلة الاستراتيجية للأمن والدفاع"، وهي
وثيقة توجيهية لسياسة الأمن والدفاع للاتحاد للسنوات الخمس إلى العشر القادمة. هذا
وقد تمَّت بلورة الوثيقة على ثلاث مراحل؛ هي: تحليل التهديدات، والحوار
الاستراتيجي المنظم، ثم الصياغة والمراجعة قبل اعتمادها.
كما
يعتبر الهدف الرئيسي لهذه الوثيقة هو توفير التصور السياسي لتحقيق ما تُسمَّى
"بالاستقلالية الأوروبية الاستراتيجية" في أربعة مجالات رئيسية: إدارة
الأزمات، والقدرة على الصمود، والقدرات الدفاعية، والشراكات الأمنية. وقد قدَّم
جوزيب بوريل النسخة الأولية من الوثيقة خلال جلسة مشتركة لوزراء خارجية ودفاع
الاتحاد في نوفمبر 2021.
2–
تحفيز الحرب الأوكرانية مسار التعديل: في سياق الحرب الأوكرانية، كان لا بد من
تعديل الوثيقة بشكل كبير لتأخذ في الاعتبار زعزعة استقرار النظام الأمني الأوروبي والتغيرات المتسارعة في بيئته الأمنية. وبعد إجراء مجموعة من التنقيحات
وفي مارس 2022، وافق المجلس الأوروبي على النسخة النهائية لوثيقة البوصلة الاستراتيجية.
ونتيجةً لهذه الحرب ووفقاً للتعديلات، تخلَّت الدنمارك عن سياسة عدم المشاركة في السياسة
الدفاعية للاتحاد، التي تبنَّتها في عام 1992 بعد استفتاء أُجرِي فيها في يونيو
2022 (بنسبة 66.9% من الأصوات المؤيدة)، وبذلك تشارك الآن جميع دول الاتحاد
الأوروبي البالغ عددها 27 دولة في سياسة الأمن والدفاع المشتركة. وتتمثل أهم أوجه
القصور التي سعت الوثيقة إلى معالجتها في تحسين عملية إدارة الأزمات من خلال إنشاء
قوات تدخل سريع جديدة للاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تحقيق التناغم بين نظم قيادة
العمليات في الدول المختلفة.
3–
مقترح تعزيز التصنيع الأمني والدفاعي المشترك (Edirpa): في 19 يوليو 2022، قدَّمت المفوضية اقتراحاً لوضع لائحة بشأن
إنشاء أداة لتعزيز صناعة الدفاع الأوروبية من خلال عمليات الاستحواذ المشتركة (Edirpa)، بعد أن تم منحها تفويضاً للقيام بذلك في قمة فرساي في مارس
2022. وتُمكِّن هذه الأداة الاتحادَ من القيام بعمليات الاستحواذ المشتركة القصيرة
الأجل لأغراض الدفاع بما يبلغ قيمته 500 مليون يورو، كما يهدف المقترح إلى سد
الثغرات الأكثر إلحاحاً وحرجاً في القدرات الدفاعية لدول الاتحاد، وتحفيز الدول
الأعضاء على الشراء المشترك للمنتجات المتعلقة بالدفاع لتحقيق تنسيق عملياتي أكبر
بين أنظمتها الدفاعية.
4–
مقترح صياغة لائحة تنظيمية لبرنامج الاستثمار الدفاعي الأوروبي: حيث تقوم المفوضية
الأوروبية في الوقت الراهن بالتحضير لصياغة لائحة تنظيمية لبرنامج الاستثمار
الدفاعي الأوروبي (EDIP)، وهي اللائحة التي ستكون بمنزلة أساس
لمشاريع التطوير ومشتريات السلاح المستقبلية. وفي 18 يناير 2023، نشر مقررو اللجنة
الفرعية للدفاع ولجنة الشؤون الخارجية ولجنة الصناعة والبحوث والطاقة، مسودة
تقريرها؛ حيث اقترحت فيه، من بين أمور أخرى، مضاعفة ميزانية (Edirpa) لتصل إلى 1.5 مليار يورو.
إشكاليات
ملحة
بشكل
عام، إن كانت الدول الأوروبية متوافقة حول أهمية تحقيق فاعلية أكبر لأدوات الأمن
والدفاع الخاصة بها بما يجعلها كافيةً لردع أي تهديد خارجي، فإن أسلوب تحقيق هذه
الفاعلية يتعرَّض لمجموعة من النقاط الخلافية – أو حتى الإشكاليات – التي تجعل من
اعتماد أو تمرير هذه السياسة الفعالة أمراً عَسِراً. ويلزم الإشارة في السياق ذاته
إلى أن مفهوم "الفاعلية" ارتبط لدى بعض دول الاتحاد بضرورات تحقيق
"الاستقلالية" عن حلف الناتو، على اعتبار أن ارتباط صنع القرار الأمني
والدفاعي في أوروبا بمركز الثقل الأمريكي عبر الأطلنطي، إنما من شأنه تقييد سرعته
وفاعليته، بل تغيير أولوياته حسب رؤية واشنطن وقوى الحلف غير الأعضاء في الاتحاد
(مثل تركيا). وفيما يلي أهم الإشكاليات التي تطرح نفسها حالياً على مستقبل هذه
السياسة المشتركة:
1–
المفاضَلة بين "سياسة" موحدة و"سياسات" متعددة: ثمَّة إشكالية
إطارية هامَّة أمام المقترحات السالفة الذكر، هي مدى الحاجة إلى تبني
"سياسة" أمن ودفاع مشترك واحدة تشمل كافة مجالات الأمن والدفاع في
أوروبا؛ ففي مقابل الدفع الذي تتبناه بعض الدول (مثل فرنسا وإيطاليا واليونان)
بضرورة صياغة سياسة إطارية تشمل كافة مجالات الأمن والدفاع الأوروبي؛ بحيث ينتج
عنها إنشاء هيئة أركان عسكرية أوروبية مستقلة، فإن بعض الدول الأخرى (مثل ألمانيا
وبولندا والدول الاسكندنافية) تُفضِّل صياغة "سياسات" متخصصة كلما
توصَّلت الدول الأوروبية إلى توافق حول مجال من المجالات الأمنية والدفاعية دون
ربط ذلك بالتوصل إلى اتفاق حول أكثر هذه السياسات حساسيةً.
فعلى
سبيل المثال، يدفع الفريق الثاني بأهمية تحقيق سياسة دفاعية موحدة في مجال الأمن
السيبراني ومكافحة الاتجار في المخدرات، دون الانتظار لتحقيق وحدة القيادة على
المستويين الأمني والدفاعي. ويستند كل فريق إلى تغليب اعتبارات على أخرى؛ ففي حين
يستند الفريق الأول إلى رغبة ملحة لضمان الأمن الأوروبي أمام التهديدات الأخطر على
الإطلاق، المتمثلة في العمليات العسكرية (مثل الخطر الروسي)، يحرص الفريق الثاني
على عدم إجراء تغيير جذري من شأنه إثارة حفيظة واشنطن أو المساس بمجالات معينة قد
تُثير حفيظة الرأي العام الداخلي.
2–
تشابكات العلاقة مع حلف الناتو: قام الاتحاد الأوروبي والناتو بمأسسة تعاونهما في
أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ وذلك عن طريق مجموعة من الأطر
والاتفاقيات؛ ما أدى إلى تطوير مجموعة واسعة من الأدوات التي تهدف إلى تحقيق
التناسق بين جهود الناتو والاتحاد الأوروبي في مجالَي الأمن والدفاع.
ففي
إعلان مشترك تم التوقيع عليه في يوليو 2018، وضع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال
الأطلسي رؤية مشتركة لكيفية تعاونهما لمواجهة التهديدات الأمنية المشتركة، إلا أنه
بالرغم من مساحة التشابك بين الناتو والاتحاد الأوروبي في هذا المجال، فإن دول
الاتحاد غير الأعضاء في الناتو (5 دول من أصل 27؛ هم: النمسا وقبرص وأيرلندا
ومالطا والسويد، إضافة إلى سويسرا المحاطة بدول الاتحاد دون انضمامها إليه) لطالما
عبَّرت عن شواغلها إزاء ارتباط الأمن الأوروبي عضوياً بحلف الناتو. بالإضافة إلى
ذلك، فإن بعض الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو – على رأسها فرنسا – تدفع بهدوء
في اتجاه تدشين سياسة أمنية ودفاعية مشتركة تتسم بالاستقلالية العملياتية عن الحلف
لانتزاع دور القيادة في أوروبا في المجالات الأكثر حيويةً، خاصةً مع خروج بريطانيا
من الاتحاد واستبعاد قدراتها الدفاعية المُعتبرَة من المعادلة.
3–
إشكالية السيادة الوطنية والمشاركة في صنع القرار: لا تزال الدول الأوروبية تطرح
مجموعة من الشواغل المرتبطة باعتبارات السيادة في حالة إنشاء هيئة مستقلة تدير
عملية الأمن والدفاع في القارة، أو جيش أوروبي موحد تحت قيادة عليا تفوق في
ولايتها قيادات الجيوش الوطنية. وبخلاف ما يمثله ذلك من انتقاص لصلاحية وزراء
الدفاع أنفسهم – الذين يطرحون أفكار الإصلاح في إطار هذه السياسة – فإن عملية
تفويض الصلاحيات ستطول رؤساء الدول والحكومات والبرلمانات كذلك، ما دامت صلاحية
إعلان الحروب وإطلاق العمليات العسكرية تخضع لسلطة البرلمانات أو أعلى سلطة
تنفيذية على أقل تقدير. لذلك فإن شواغل السيادة تفرض نفسها على أعلى مستويات
الإدارة الأوروبية، وتتقاطع مقترحات الاستقلالية مع مقاومة داخلية من أجهزة
الاستخبارات الأوروبية.
4–
إمكانية تحقيق التنسيق العملياتي: تناقش الدول الأوروبية بشكل مُركَّز احتماليات
تحقيق التنسيق العملياتي بين الأنظمة الدفاعية المختلفة في حالة التوافق حول مقترح
تدشين هيئة عمليات مشتركة قتالية لأغراض الدفاع ضد التهديدات العسكرية؛
فالاختلافات الكبيرة في القدرات الدفاعية بين الدول المختلفة من شأنها فرض عقبات
أمام تحقيق الفاعلية من وراء إدماج المنظومات الدفاعية الأوروبية، بما قد يُفرِّغ
عملية الاستقلالية من مضمونها. وينطوي هذا الأمر على تدشين برامج مُعتبرَة للتدريب
المشترك والارتقاء بمستوى القدرات، ربما لا تتوافر الموارد المالية اللازمة
لها.
5–
القدرة على التحقق والمساءلة: يستلزم الخروج بسياسة أمنية ودفاعية مستقلة
وفعَّالة، وجود آلية للتحقُّق والمساءلة من التزام كافة الدول بدعم هيئة العمليات
المشتركة وتقديم الدعم العملياتي إذا ما استلزم الأمر، كما يرتب ذلك على الدول
أيضاً التزامات خاصة بفتح مجالها الجوي، ومياهها الإقليمية بناءً على طلب هيئة
العمليات المشتركة عند الضرورة، بما يفرضه ذلك من وجوب أن تكون هذه العملية قابلة
للتحقق.
ويُشَار
في هذا السياق إلى أنه وفقاً للإطار القانوني الحالي، لا يمكن لمحكمة العدل
التابعة للاتحاد الأوروبي إدانة الدول إذا لم تحترم التزاماتها الأمنية والدفاعية؛
لأنه تم استبعاد هذا الخيار صراحةً (المادة 24 من معاهدة الاتحاد الأوروبي). من
الناحية النظرية، سيكون من الممكن إدانة دولة إذا لم تحترم مبدأ التعاون الصادق
(المادة 4/3 من المعاهدة نفسها)، وهي حالة فضفاضة تخضع لتقييم الدول أنفسها
وتصويتها داخل المجلس.
6–
معضلة تحديد ميزانية السياسة الأمنية والدفاعية الموحدة: في مقترحات السياسة
المستقبلية المطروحة، يُعتبَر تحديد الميزانية المقترحة من الالتزامات ذات الطبيعة
الغامضة إلى حد ما؛ حيث إن مقترح "البوصلة الاستراتيجية" يشير إلى ضرورة
زيادة الإنفاق الدفاعي "بشكل معتبر"، وهو مصطلح فضفاض لا يحدد المساحة
المقبولة والمساحة غير المقبولة في هذه السياسات.
محددات
النجاح
إن
حدود نجاح الاتحاد الأوروبي في تبني سياسة أمنية ودفاعية مستقبلية تستجيب لتطلعاته،
لا تخضع فقط لمدى القدرة على الوصول إلى تفاهمات بشأن الإشكالات السالفة الذكر، بل
تخضع أيضاً لإدراك صناع القرار الأوروبيين للقيود والمحددات الواجب مراعاتها عند
النظر في صياغة هذه السياسة. ومن أهم هذه المحددات:
1–
الالتزام بواقعية التطلعات: تدرك دول الاتحاد الأوروبي أن الدول تتعاون بشكل أقل
في المسائل الدفاعية مقارنةً بالمجالات الأخرى؛ نظراً إلى حساسيته الكبيرة. لذلك
لا يمكن القول إن مقترح البوصلة الاستراتيجية قد غيَّر هذا الوضع جذريّاً، وهو أمر
لا يثير الدهشة نظراً إلى تاريخ البناء الأوروبي الطويل الذي يعاني من طول المدة
بين الوصول إلى اتفاقات وبين تنفيذها؛ فبعدما تم التوقيع على معاهدات التعاون
الاقتصادي الثلاث الأولى في عامي 1951 و1957، تم استخدام عملة اليورو الموحدة بين
عامي 1999 و2002.
لذلك
يجب أن تؤخذ البوصلة الاستراتيجية على النحو المراد أن تكون عليه: نص جديد واعد،
يسعى إلى توفير إطار للتعاون على المديَين القصير والمتوسط، ويساهم في بناء ثقافة استراتيجية مشتركة على المدى الطويل. من وجهة النظر هذه،
يمكن لهذا المُقترَح أن يؤدي دوره بفاعلية، ويُحقِّق التحول التدريجي المنشود بمعاهدة
الاتحاد الأوروبي، الذي يفترض الوصول إلى هذه السياسة الموحدة بالتدريج، وعن طريق قاعدة
الإجماع (المادة 42.2 من معاهدة الاتحاد الأوروبي).
2–
مدى القدرة على البناء على المبادرات السابقة: من الجدير بالذكر أن البوصلة
الاستراتيجية تقوم على آليات موجودة منذ عدة سنوات، وتهدف في الأساس إلى تعزيزها،
أي أنها لا تخلق أدوات جديدة من المحتمل أن تصبح غير صالحة للاستخدام؛ فعلى سبيل
المثال، فإنها تقترح تعزيز دور الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية
والسياسة الأمنية، أو دور وكالة الدفاع الأوروبية التي تُساعِد الدول على تطوير
مواردها العسكرية من خلال التعاون.
لذلك
تُعتبَر قدرة دول الاتحاد على البناء على ما تم تحقيقه من أهم المحددات المتحكمة
في احتماليات نجاح أي سياسة مستقبلية؛ وذلك من منطلق أن كل مجموعة من الدول تبنَّت
مساراً سابقاً ستكون حريصة على البناء عليه، أو على أقل تقدير الاعتراف برجاحته،
وهو ما يتطلَّب أيضاً أن يكون أي اقتراح جديد متسقاً مع ما تم تحقيقه.
3–
التأثيرات المحتملة لطول أمد الحرب الأوكرانية: مما لا شك فيه، أن الحرب الروسية
الأوكرانية تُعتبَر إحدى العقبات أمام إمكانية تنفيذ هذه المشروعات الطموحة؛ إذ لم
تسفر حتى الآن "خطة تغير الزمن" الألمانية التي تم الترويج لها كثيراً،
والتي وعدت بزيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي، سوى عن مبالغ قليلة من الاستثمارات
الجديدة الملموسة في القدرات العسكرية، وقد طغت عليها المراوغات الحكومية المختلفة
المرتبطة بالتزامات تسليح أوكرانيا.
كما
أن مخازن الجيوش الأوروبية من الذخائر والمعدات الهامة، تعاني بشدة وسط الاندفاع
لدعم كييف، وتواجه قاعدتها الصناعية الدفاعية تحديات كبيرة في زيادة الإنتاج
لتجديد، مخزونات عملائها ناهيك عن نموها. لذلك فإن خطط الاستقلالية الطموحة
للسياسة الأمنية والدفاعية ستكون محكومة بمدى طول هذا الصراع، ومدى استمرار الدول
الأوروبية في الحفاظ على مستويات دعم معينة لأوكرانيا.
4–
تعقيدات العلاقة مع الولايات المتحدة: تعتبر العلاقة مع الولايات المتحدة في أي
نمط أوروبي جديد للسياسة الأمنية والدفاعية، من العوامل الجوهرية في تحديد
احتماليات النجاح؛ حيث يدفع عدد من المحللين، من ضمنهم ماكس بيرجمان من مركز
الدراسات الاستراتيجية والدولية، وصوفيا بيش من مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي
مؤخراً بأن كل عملية بيع أسلحة أمريكية إلى أوروبا، تُضعِف القاعدة الصناعية
الدفاعية الأوروبية؛ ما يساهم في الاعتماد الطويل المدى على الولايات المتحدة.
وفي
حالة تطوير أوروبا سياسة دفاعية، فإن الولايات المتحدة سيجب عليها وضع قيود على
شركات الدفاع الخاصة بها، إذا ما رغبت في دعم جهود التكامل الدفاعي في أوروبا؛
لذلك لا تنفصل مثل هذه السياسة المستقلة عن اعتبارات وحدود الضغوط التي ستتعرَّض
لها الإدارات الأمريكية من شركات تصنيع السلاح وقطاع الإنتاج الدفاعي الضخم، فضلاً
عن اختلاف التوجهات التقليدية بين الديمقراطيين والجمهوريين في هذا المجال، ومدى
تمسكهم بدعم مصالح جماعات الضغط الأمريكية العاملة في هذا المجال.
ومن
ثم، فإن طريقة تعاطي الاتحاد الأوروبي مع الشواغل الأمريكية في هذا الصدد، وبلورة
خطة تحرك للاستجابة لهذه الشواغل – بما قد يخلق نمطاً مستحدثاً تماماً من العلاقات
الأوروبية الأمريكية – يجب أن تكون حاضرة على مائدة النقاش، جنباً إلى جنب مع
عمليات مراجعة السياسة الأمنية والدفاعية الأوروبية المستقبلية.
5–
إشكالية تفضيل بعض الدول منظومات التسليح الأمريكية: فيما يتعلق بالعلاقة مع
الولايات المتحدة، تبرز عقبة إضافية في هذا الصدد، وتتمثل في تفضيل واتجاه بعض
الدول الأوروبية للتعامل بشكل أكبر مع القاعدة الصناعية العسكرية الأمريكية،
واستيراد منظومات التسليح الأمريكية الأكثر تطوراً، وهو أمر راجع إلى سببين
رئيسيين: أولاً– إدراك هذه الدول أن خطط تنمية التصنيع العسكري الأوروبي المشترك
للمنظومات الأكثر تطوراً ستستغرق وقتاً كبيراً، وهو ما لا يتلاءم مع احتياجاتها
الأمنية الآنية، وثانياً– أن بعض هذه الدول تجد صعوبة في إدماج منظومات الدفاع
الأوروبية الحديثة مع الجزء المعتبر الذي تستحوذ عليه نظم التسليح الأمريكية؛ لذلك
تُفضِّل – توفيراً للنفقات – الاستمرار في تحديث منظوماتها بالمعدات الأمريكية
لحين الوصول إلى رؤية متكاملة بشأن السياسة الأوروبية الدفاعية المستقلة
المُزمَعة.
وبذلك
تدخل هذه الدول في حلقة مفرغة من الجدل بشأن إذا ما كان من الأولى البدء في التخلي
عن الاعتماد على منظومات التسليح الأمريكية أولاً في سبيل توفير موارد لدعم
الصناعة العسكرية الأوروبية المستقلة، أم البدء في تطوير هذه الصناعة المستقلة؛
أملاً في أن تسهم هي في فك الارتباط مع الولايات المتحدة في هذا المجال؛ فعلى سبيل
المثال، تخلَّت الحكومتان النرويجية والسويدية عن استيراد طائرة الهليكوبتر NH90 المتعددة المهام، التي يُنتجها اتحاد صناعي أوروبي لصالح American Blackhawk.
في
بعض الحالات الأخرى، تخسر الصناعة الأوروبية للسلاح ببساطة بسبب اعتبارات التكلفة،
مثلما حدث في عام 2021؛ عندما اختارت كل من سويسرا وفنلندا الطائرة المقاتلة F–35 وفضَّلتها على البدائل الأوروبية مثل Eurofighter وFrench
Rafale وSwedish Gripen.
6–
معالجة أزمة الثقة بين دول الاتحاد الأوروبي: تُعتبَر مسألة اختلاف السياسات التي
تتعامل بها دول أوروبا نفسها مع اعتبارات الأمن، مسألة جوهرية أمام الوصول إلى
توافق حول السياسة الأوروبية الأمنية والدفاعية المستقلة؛ حيث تختلف مثلاً هذه
المقاربة جذرياً بين دول خط المواجهة المباشرة في الجناح الأوروبي الشرقي، وبين
الدول الغربية البعيدة نسبياً عن نطاق العمليات الروسية. وقد ولَّدت هذه
الاختلافات والتفاوتات في ترتيب الأولويات، نوعاً من أزمة الثقة بين الدول
الأوروبية بعضها وبعض، ومدى التزام كلٍّ منها بتقديم الدعم اللازم في وقت الأزمات،
وهو الأمر الذي يضع مسألة علاج أزمة الثقة بين الدول الأوروبية أنفسها أولويةً قبل
الحديث عن العراقيل الأخرى، سواء كانت إجرائية أو خارجية.
المراجع:
_
ب، ن , 3،7،2023 , هل ينجح الاتحاد الأوروبي في بناء سياسة دفاعية مستقلة؟،
انترريجونال.
_
طارق الشامي، 27.3.2022، هل يستطيع الاتحاد الأوروبي وحده أن يجعل القارة آمنة؟،
انزبنت.