يعد الذكاء
الاصطناعي أحد المتغيرات المؤثرة في ديناميكيات العلاقات الدولية مستقبلا، ويعتبر
الأمن الدولي والدبلوماسية من المجالات التي سيكون لتطور الذكاء الاصطناعي فيها
تأثير كبير. إن تأثير الذكاء الاصطناعي على الأمن والسياسة الدولية، وخاصة في مجال
الدبلوماسية، يأتي لكون السياسة والسلوك السياسي من أكثر السلوكيات الإنسانية
تعقيدا، ويصل هذا التعقيد إلى أعلى مستوياته في الساحة الدولية.
على الرغم من
التقدم الهائل الذي حققه الذكاء الاصطناعي، فإنه من الصعب التنبؤ بالعالم الذي
يعهد فيه القرار وصنع القرار السياسي، خاصة في الأبعاد الدولية، إلى الآلة. ومن
المستبعد أن نتصور رئيسا آليا أو وزيرا للخارجية.
ورغم أنه كان من
غير المعقول تسليم سلطة اتخاذ القرار إلى الذكاء الاصطناعي في مجال العلاقات
الدولية والدبلوماسية؛ يعد تحليل البيانات وطرق اتخاذ القرار وبالتالي طرق اثارة الحرب
وتحقيق السلام وإدارة الصراعات من المجالات التي ستتأثر بالذكاء الاصطناعي.
حيث إن قدرة
الذكاء الاصطناعي على تحليل كميات كبيرة من البيانات واكتشاف أنماط البيانات
واتخاذ القرارات في مجال الدبلوماسية والسياسة الدولية تجعل الذكاء الاصطناعي
مكملا للإنسان في الدبلوماسية ويلعب ثلاثة أدوار تحليلية وتنبؤيه وتشغيلية.
أصبحت القدرات
التي وصل إليها الذكاء الاصطناعي لا تترك مجالاً للشك، بأنه بات مؤثراً في شكل
وأدوات وقضايا العلاقات الدولية، والأمر هنا لم يعد قاصراً على أدوات القوة
التقليدية مثل القدرات العسكرية والاقتصادية للدول، بل قد يمتد ليشمل قضايا أخرى
أكثر عمقاً واتساعاً، كعملية إدارة المفاوضات الدولية التي تغلب عليها دائماً حالة
الشك بين البشر وعدم الثقة بالطرف الآخر، واتخاذ القرار بعيداً عن التأثر بالسمات
والميول الشخصية للقادة السياسيين والوقوع في خطأ التحيز أو الإدراك، وكذلك عملية
تحليل ودراسة السياسة الخارجية للدولة وعلاقاتها بالدول الأخرى. فإذا تحقق ذلك،
فنحن بصدد نوع جديد من الدبلوماسية يقودها الذكاء الاصطناعي.
موضوع
للدبلوماسية
أعاد التقدم
الكبير في نُظم الذكاء الاصطناعي طرح عدد من القضايا التقليدية الخاصة بالعلاقات
الدولية لكن بوجه جديد، مثل قضايا التسلح، وتوازن القوى، والديمقراطية، فهذه
القضايا الثلاث على وجه الدقة تتطلب من الدول كافة إعادة النظر في سياستها
الخارجية وتحديد موقفها بسبب التأثيرات المتزايدة للذكاء الاصطناعي فيها. فمثلاً
أصدر الاتحاد الأوروبي وثيقة بعنوان «Artificial Intelligence diplomacy»، أعرب فيها عن قلقه من استخدام النظم الديكتاتورية للذكاء
الاصطناعي لممارسة مزيد من الديكتاتورية على شعوبها، وتحديداً الصين، من وجهة
نظره.
كما أن دخول
الذكاء الاصطناعي في تطوير أسلحة، سواءً أكانت تقليدية أم سيبرانية، مثل الطائرات
من دون طيار والروبوتات العسكرية والصواريخ، من شأنه أن يُحدث ثورة في الشؤون
العسكرية قد يترتب عليها إما سباق تسلح قد يؤدي إلى حرب، أو اختلال ميزان القوى
الدولي وما يترتب عليه من إعادة تشكيل النظام الدولي.
ففي تصريح سابق
له، قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إن «من يسيطر على الذكاء الاصطناعي سيسيطر
على العالم». وأشار تقرير للجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي «الناتو»، في
أكتوبر 2022، إلى أن «للذكاء الاصطناعي آثاراً مدمرة على
القدرات العسكرية، ومن المتوقع أن يزداد هذا الأثر بشكل كبير خلال السنوات الخمس
إلى الـ 10 المقبلة». كما حذّر تقرير صدر في مارس 2021 عن لجنة الأمن القومي للذكاء الاصطناعي الأميركية، من «أن الصين
قد تحلّ قريباً محل الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى للذكاء الاصطناعي في
العالم، وأن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستُستخدم في السعي وراء السلطة، وأن الذكاء
الاصطناعي لن يبقى في مجال القوى الخارقة أو عالم الخيال العلمي».
فقد أصبح الذكاء
الاصطناعي نفسه أحد موضوعات الدبلوماسية والعلاقات الدولية، ونجم عنه في بعض
الأوقات توتر في العلاقات بين الدول، خصوصاً بين الصين والدول الغربية، فقد اتخذت
الولايات المتحدة إجراءات مضادة تجاه بكين، كي تبطئ من قدرات الشركات الصينية على
تطوير نُظم الذكاء الاصطناعي، ومارست ضغوطاً كبيرة على الدول الأوروبية حتى لا
تستخدم التكنولوجيا الصينية، تخوفاً من استخدام الصين هذه التكنولوجيا في التجسس
على الولايات المتحدة وحلفائها، وهو ما بات أشبه بحالة حرب باردة وسباق تسلح علني
حول الذكاء الاصطناعي.
المفاوضات
الدولية
إلى جانب كونه
موضوعاً للدبلوماسية بين الدول، فإن الذكاء الاصطناعي أصبح قادراً أيضاً على تغيير
أدوات ممارسة الدبلوماسية بين الدول، سواءً على مستوى المفاوضات الدولية أو على
مستوى الدبلوماسية الرسمية والشعبية، فعلى مستوى عملية إدارة المفاوضات الدولية،
فإن الذكاء الاصطناعي يمكنه القيام بمهام عدة، منها على سبيل المثال ما يلي:
-
مساعدة المفاوضين الدبلوماسيين: وذلك عبر توفير
معلومات آنية وفورية ودقيقة حول القضايا الخلافية أو التفصيلية، أو حتى الطارئة
على طاولة المفاوضات، والتي قد تحتاج إلى فرق متخصصة أو محلية، مثل المفاوضات
الخاصة بالتجارة الدولية مثلاً، وهو ما يوفر الوقت والجهد في عملية التفاوض.
-
تقريب وجهات النظر بين المفاوضين: وذلك بتقديم
اقتراحات وتوصيات تحقق مكاسب للأطراف، وتضمن تصحيح وجهات النظر أو الأخطاء التي
يمكن أن يقع فيها الدبلوماسيون دون قصد.
-
تحقيق ميزة نسبية لأحد أطراف المفاوضات: باعتباره
عقلاً ذكياً يُضاف إلى فريق التفاوض وقادراً على تحليل الأمور الجزئية والتفاصيل
الدقيقة.
-
تقييم مدى جدية الأطراف المتفاوضة: من خلال
دراسة الفرص البديلة والمحاور التي كان يمكن الاتفاق حولها وتم تجاهلها، وبحث نيات
الأطراف المتفاوضة وتقييم مدى جديتها ورغبتها في تحقيق إنجاز حقيقي على الأرض أو
وضع عقبات تعوق عملية المفاوضات، فإذا كان هناك طرف متلاعب ويسعى فقط لكسب مزيد من
الوقت، من الوارد أن يتسبب الذكاء الاصطناعي في هذه الحالة في إحراجه أمام الرأي
العام الدولي، ومن ثم يتعرض لمزيد من الضغوط الدولية.
-
متحدث غير رسمي باسم الدولة: فمثلاً تُحرج بعض
الدول في الإعلان عن موقف رسمي تجاه بعض القضايا كأن تصدر بياناً رسمياً حولها،
فيقوم بعض المحسوبين على النظام السياسي بكتابة بعض التغريدات أو التدوينات التي
تعكس وجهة نظر دولة ما ولكن بصورة غير مباشرة، وهنا قد تستطيع نُظم الذكاء الاصطناعي
القيام منفردة بذلك دون التسبب في حرج لأي من الأشخاص أو لصورة الدولة المعنية،
فإذا سألها أحد الصحافيين عن موقف هذه الدولة إزاء قضية ما، تستطيع الإجابة دون أن
تُحسب على الدولة.
-
الحياد والعلانية في اتخاذ القرار: فغالباً ما
قد يتأثر بعض القادة بالسمات والميول الشخصية لهم عند اتخاذ القرار، أو يتأثرون
بضغوط الرأي العام سواءً المحلية أو الدولية، وفي هذا الصدد، قد تساعد هذه النُظم
في تقديم توصيات بعيدة عن هذه المشاعر والضغوط، مع الأخذ في الاعتبار التداعيات
الخاصة بهذا القرار كأن يرفضه الرأي العام على الرغم من كونه يحقق مصلحة.
مهام
دبلوماسية
على مستوى
استخدامات الذكاء الاصطناعي في الدبلوماسية الرسمية والشعبية، فقد يتم استخدامه في
مهام عدة، منها الآتي:
_ تسهيل عملية
إدارة الجاليات الوطنية.
_ المساعدة في
مهام البعثات الدبلوماسية.
_ القيام بمهام
الدبلوماسية الشعبية.
وعلى الرغم من أن
الأمر يبدو في ظاهره إيجابياً، فإنه يشوبه كثير من التحديات، من أهمها مشكلة تعلم
نظم الذكاء الاصطناعي، حيث تتطلب قدراً كبيراً جداً من البيانات الدقيقة التي يجب
أن تكون ذات طبيعة استخباراتية حتى تتمتع بقدر كبير من الموثوقية بعيداً عن
البيانات الرسمية التي تتسم بالمجاملة، وهو تحدٍ كبير بالنسبة للشركات التي تقوم
بتطوير هذه النظم، وتحدٍ أكبر على مستوى المؤسسات الأمنية المعنية بجمع معلومات
كثيرة للغاية بغض النظر عن ترتيب أولويتها. حتى وإن تم جمع هذه البيانات وتحديثها بصورة
آنية وفورية، فقد تحدث ثورة أو تغيير سياسي يجعل البيانات التي استخدمها النظام
غير صالحة للاستخدام مستقبلاً.
فاعل دولي
هنا يسمح المجال
بالتفكير في سيناريو قد يكون بعيداً عن الواقع حالياً، لكنه قد يصبح يوماً ما أقرب
إلى الحقيقة، وهو أن يتولى الذكاء الاصطناعي مهمة إدارة العلاقات الدولية بدلاً من
البشر فعبر عقود من الزمن، عجز النظام الدولي بشكله الحالي عن منع كثير من الحروب
والصراعات، واصطدمت مصالح الغرب مع الشرق، فعجز مجلس الأمن عن حفظ الأمن والسلم
الدوليين. فهل من الممكن أن يتولى مهمة تنظيم وإدارة العلاقات الدولية «نظام» أكثر
رشادة وكفاءة من البشر، لا يتأثر بالأهواء الشخصية ويتخذ قراراته بما يحقق مصلحة
الجميع؟ ولا عجب أن يكون هذا النظام قائماً على الذكاء الاصطناعي.
المراجع
_ خالد حاجي، 24\8\2023، الدبلوماسية
والذكاء الاصطناعي، الجزيرة.
_ رزان بالنورين، 2\8\2023، هل
يقود الذكاء الاصطناعي المهام الدبلوماسية؟، الشروق.