النظام
الدولي هو الإطار المؤسسي والدبلوماسي والسياسي والقانوني الناظم للعلاقات الدولية
خلال فترة تاريخية معينة. ويعد تفاعل الوحدات السياسية لهذا النظام (دول العالم)
تعاونا وتنافسا وحربا هو المحرك الأكبر فيه، إضافة إلى كل إطار تنظيمي قادر على
التأثير في واقع العلاقات الدولية، مثل المنظمات والحركات السياسية والشركات
الكبرى ذات النفوذ العابر للحدود.
في
كل منعطف تمر به الحياة البشرية، وسواء أكان صراعًا، أم أزمة، أم اكتشافًا، بحيث
يطرح التوقع الأولى أن العالم لن يصير بعد ذلك كما كان من قبل؛ فإن السؤال الذي
يطرحه كل المهتمين بالمستقبل يكون: كيف سيكون النظام الدولي؟
النظام
أولًا هو عبارة عن مجموعة من المتغيرات التى يتفاعل بعضها مع بعض تفاعلًا نمطيًّا
متكررًا، بحيث يمكن مراقبته، وملاحظته، ومعرفة مدخلاته ومخرجاته. وعندما يكون
«النظام» مرتبطًا بالدول فإنه غالبًا ما يتسم بالفوضوية، أى أنه نظام سياسى دون
حكومة، ودون قواعد مستقرة، وقيم راسخة.
وتحدث
هذه الفوضى العالمية لأن كل الدول تتصرف حسب مصلحتها الذاتية، وليس من منطلقات
أخلاقية. وباختصار، فإن الجزء الأهم فى تعريف أى نظام هو توزيع القدرات العسكرية
والاقتصادية بين الوحدات المشكلة له، وهو الأمر المحدد لعلاقات الدول بعضها مع
بعض، خاصة تلك القوى الدولية التى يتعدى تأثيرها حدود دولتها إلى بقية دول العالم،
وهذه تعرف بالأقطاب، ومنها يستمد شكل النظام الكلى، وعمّا إذا كان ذا قطب واحد
مهيمن، أو ذا قطبين متنافسين، أو متعدد الأقطاب، بحيث يسود بينها تحالفات وتحالفات
مضادة. وتكون النظرة إلى هذه الأشكال من «النظام الدولى» على أساس من الصراع
والتعاون، ومدى الاعتماد المتبادل، ودور التكنولوجيا وعلاقتها بالوفرة والندرة،
ومدى التأثير الذى تقوم به الفواعل من غير الدول فى داخل النظام.
ويصبح
السؤال عن مستقبل النظام ملحًا عندما يكون هناك منعطف كبير من ذلك النوع الذى يشير
إلى فشل النظام القائم فى القيام بمهمته فى تحقيق الاستقرار أو التوازن اللازم
للاستمرار، وهذه توافرت فى عصرنا مع تراكم أزمات المناخ، وكورونا، والحرب
الأوكرانية، وحرب غزة الخامسة المهددة بحرب إقليمية كبرى، مصاحبةً بالثورتين
الصناعيتين الثالثة والرابعة.
وعندما
تكون الحال كذلك، فإن التغيير يبدأ من انطلاق فكرة «المراجعة» للنظام كله.
و«المراجعة هى جزء أساسى من الفكر السياسى الدولى الذى ينظر فى التغيرات المختلفة
لتوازنات القوى التى يمكنها أن تأخذ نظامًا إلى آخر. القاعدة هنا هى أنه لا يوجد
نظام دولى يدوم إلا بالقدر الذى مكنته «القوة» من ظروف تأتى من العصر، ومن
توازناته، وما جاء فيه من تكنولوجيا، وقادة من بشر.
وقبل
أكثر من قرنين، واجهت أوروبا ثورتين متزامنتين مع نهاية القرن الثامن عشر والقرن
التاسع عشر؛ هما: الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية والتكنولوجية، وكانت الثورة
الأولى هى التى استهدفت- عمدًا ومباشرة- تحطيم الهياكل والنظم السياسية للدول
الأوروبية بأفكارها عن «الحرية»، و«الإخاء»، و«المساواة»، وهى أفكار حملها معه
نابليون بونابرت حينما توسع شرقًا حتى وصل إلى موسكو.
لكن
الثورة الثانية كانت هى التى أصلت عملية تغيير أوروبا- ومن بعدها- العالم
اقتصاديًّا واجتماعيًّا ثم سياسيًّا؛ من خلال الإصلاح، والحداثة، والتقدم بصفة
عامة.
كلتا
الثورتين كانت وراء تكوين العالم المعاصر، حتى بعد أن هُزِمَ نابليون عام 1815. وفى أعقاب الهزيمة، قامت أربعة من القوى المحافظة (روسيا، والنمسا،
وبروسيا، وبريطانيا) بعملية لإدارة التغيير، والحفاظ على توازن القوى فى القارة
الأوروبية لقرابة 100 عام، حتى نشبت الحرب العالمية
الأولى عام 1914
وفيما
بعد أضيفت فرنسا إلى القائمة، وشكلت القوى الخمس ما أصبح معروفًا باسم “منظومة
أوروبا” لإدارة التغيير، ومواجهة نشوب ثورة أخرى. كلتا الثورتين كفلت مراجعة عميقة
بالسلاح والسياسة والدبلوماسية للنظام الدولى السابق على القرن التاسع عشر، وكانت
مؤسسة لمنظومة توازن القوى، وحارسة على عمليات إصلاح عميقة للنظم السياسية والاجتماعية،
ودافعة إلى التقدم غير المسبوق تاريخيًّا بفعل الثورة الصناعية الأولى.
كيف
وصلنا إلى الآن؟
مع
مطلع القرن العشرين ذهب العالم الذى كان يدور حول أوروبا بالقوة وعناصرها إلى
العالم الجديد، حيث الولايات المتحدة الأمريكية؛ بفعل الوهن الذى حل بالإمبراطوريات
العثمانية، والنمساوية المجرية، والروسية، والضعف السياسى الفرنسى فى جمهوريته
الثالثة؛ ووهج الوحدة الألمانية الذى يبحث لألمانيا عن مكان تحت الشمس؛ ونشوب
الثورة البلشفية فى روسيا، مبشرة بعالم لم تعرفه البشرية من قبل.
أصبح
العالم هكذا مختلفًا، وعندما يختلف العالم لا بد أن يتغير النظام الدولى، وهو ما
حاوله الجميع بعد الحرب العالمية الأولى؛ من خلال إنشاء «عصبة الأمم» لكى تقود
نظامًا دوليًّا جديدًا قائمًا على القانون الدولى، وتسعى إلى عدم تكرار الحرب
العالمية مرة أخرى.
لكن
الحالة الدولية التى سمحت بتعدد الأقطاب سرعان ما تبين عدم قدرتها على التوافق بعد
انسحاب الولايات المتحدة إلى ما وراء المحيط؛ وضعف ذكائها فى التعامل مع الدول
المهزومة قادها إلى إشعال شعلة الفاشية والنازية فى أوروبا، التى حاولت مراجعة
النظام الدولى للمنتصرين، ولكن النتيجة كانت كسادًا عظيمًا أعقبته حرب عالمية
ثانية حدث فى أثنائها أكبر عملية لمراجعة النظام الدولى القائم على تعدد الأقطاب.
كان
العالم هذه المرة أكثر ذكاء فى مراجعاته عما حدث من قبل، وكان من الطبيعى أن يعكس
النظام الدولى الجديد حالة المنتصرين فى الحرب، فكان التسليم بالمكانة الخاصة
للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، وقيام تنظيم دولى جديد متشعب
الفروع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو نظام «الأمم المتحدة»، الذى ضم
الدول المستعمَرة سابقًا.
وفى
العقود الأربعة التالية للحرب بدا أن النظام الدولى قابل للاستقرار القائم على
«الوفاق» أحيانًا بين القطبين الرئيسين، و«الحرب الباردة» فى معظم الأحيان. كان
للنظام أزمته الحادة أحيانًا، ولكنه بات أكثر إدراكًا لأخطار الحرب النووية، فتوصل
القطبان إلى اتفاقيات للحد من التسلح، وتوصل العالم كله إلى اتفاقية منع انتشار
الأسلحة النووية.
ولأسباب
كثيرة، دخل الاتحاد السوفيتى فى حالة من الوهن السياسى، والاقتصادى، والتكنولوجى
خلال سبعينيات القرن الماضى وثمانينياته؛ مما أدى إلى انتهاء الحرب الباردة، وسقوط
الاتحاد السوفيتى، وحلف وارسو التابع له. على الجانب الآخر، كانت الولايات المتحدة
قد تخلصت من نتائج حرب فيتنام، ودخلت إلى أعماق الثورة الصناعية الثالثة. عمليًّا،
فإن النظام الدولى بات نظامًا للقطبية الأحادية ممثلة فى الولايات المتحدة، ومن
ورائها حلف الأطلنطى، والمعسكر الغربى فى عمومه، وبات عليها أن تعيد تنظيم العالم
وفق رؤاها الخاصة، وهو ما سُمى «العولمة».
وعلى
مدى العقود الثلاثة الثانية (1990-2020) كانت قسمات القطبية الأحادية والعولمة هما المحددان
الأساسيان للنظام الدولى فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولكنَّ العامين الأخيرين
شهدا تغيرات جوهرية، وقع فى مقدمتها أن المعسكر الغربى فى عمومه، والولايات
المتحدة خاصةً، واجه قدرًا كبيرًا من الوهن، تجسد فى هزيمة الولايات المتحدة
وتراجعها وخروجها من الشرق الأوسط.
فضلًا
عن تقلبها السياسى الداخلى بين مذاهب سياسية متعددة أدت فى النهاية إلى انقسام
وتشرذم، وعجز عن التوافق المطلوب فى مجتمع سياسى ليبرالى ديمقراطى. وثانيها أن
مجىء «الجائحة»، وفشل الولايات المتحدة، ومعها المعسكر الغربى، فى مواجهتها، فضلًا
عن قيادة العالم فى التعامل معها أخذ كثيرًا من سمعة القوة والتكنولوجيا
الأمريكية.
وثالثها أن الصين التى أخذت فى الاستفادة من العولمة خلال العقود الثلاثة السابقة، صعدت مع الأزمة إلى مكانة القوة العظمى فى النظام الدولى؛ ومن ثم بدأت بدعوات إلى مراجعة النظام الدولى، بحيث تقوم فيه شراكات جديدة تختلف عن الانفراد الأمريكى. ورابعها أن روسيا التى عانت كثيرًا المهانة خلال العقود الثلاثة السابقة، عادت إلى العالم مرة أخرى تحت قيادة فلاديمير بوتين؛ لكى تراجع نظام ما بعد الحرب الباردة. عمليًّا، أصبح هناك نظام جديد ثلاثى الأقطاب، يضم الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وما بقى هو: كيف تجرى التفاعلات والعلاقات بينهم حتى نتحدث عن نظام دولي جديد؟
المراجع:
عبد
المنعم سعيد ،12،5،2024، كيف يتغير النظام الدولي، العربية نت.
ب،
ن، 23.12.2015، النظام الدولي، موقع الجزيرة نت.