شكل
الإعلام على مدى عقود طويلة أداة رئيسية من أدوات إدارة الحروب والصراعات سواء
كوسيلة من وسائل الحشد والتجنيد وبث روح البطولة والتحفيز في جنود وشعب البلد الذي
ينتمي إليه، أو كوسيلة للحرب النفسية وتزييف الحقائق وإضعاف الروح المعنوية لجنود
وشعب البلد العدو. وزادت أهمية الدور الذي يلعبه الإعلام بصورة كبيرة بعد انتشار
الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي حتى أصبح الأداة الأكثر أهمية ضمن ما
يعرف بحروب الجيل الخامس.
فمنذ
بداية الحرب، قام الكثير من وسائل الإعلام بتعيين مراسليها في المدن الأوكرانية
الرئيسية لتصوير الأحداث بشكل مباشر، وشاركت الوسائل الإعلامية (الصحافة وقنوات
التلفزيون والمواقع الإلكترونية) في تقديم تغطية مكثفة للجمهور في كل أنحاء
العالم.
وفي
الوقت ذاته، استخدم الرئيس الأوكراني وسائل التواصل الاجتماعي - مثل تيك توك وتلغرام
وتويتر- في تصوير المذابح التي ترتكبها القوات الروسية، وبطولات الأوكرانيين في
المقاومة، وأثّر ذلك في اتجاهات الشعوب الأوربية التي اعتبرت أن الأوكرانيين
ينتمون إليها، وافتخرت بمقاومتهم وبطولتهم، وأدي ذلك إلى زيادة الضغوط على
الحكومات الأوربية لتقديم السلاح لهم، واستقبال المهاجرين منهم.
منعت
السلطات الروسية وسائل الإعلام من استخدام معلومات غير البيانات الرسمية حول غزو
أوكرانيا. كما حظرت استخدام كلمات مثل "الحرب" و "الغزو".
يواجه
الصحفيون المستقلون في روسيا ضغوطا متزايدة في ظل رقابة الحكومة على المحتوى
الإعلامي والصحفي لتغطية الحرب الروسية على أوكرانيا. كان آخرها إصدار مجلس النواب
الروسي (الدوما) نصا يتضمن عقوبات بالسجن وغرامات شديدة لكل من ينشر "معلومات
كاذبة" يمكن أن تصل الى 15 عاما إذا أدت "معلومات كاذبة" إلى
"عواقب خطيرة" على القوات المسلحة الروسية.
يقدم
الكرملين ووسائل الإعلام الروسية الرئيسية التي تخضع سيطرتها للحكومة غزو أوكرانيا
على أنه "عملية خاصة" محدودة تهدف إلى "حماية" السكان
الناطقين بالروسية في أوكرانيا من "إبادة جماعية".
ووفقا
لمنظمة مراسلون بلا حدود تفتقر وسائل الإعلام الرسمية الصور والمشاهد الدامية التي
سببتها الهجمات الروسية على الأوكرانيين وكذلك أولئك الذين يعترضون الدبابات
بأجسادهم، وحتى إلقاء قنابل المولوتوف على المركبات الروسية.
على
سبيل المثال تنشر رايا نيوز وهي وكالة أنباء روسية مملوكة للدولة، مزاعم وزارة
الدفاع الروسية بأن أي تصريحات عن فقدان طائرات وطائرات هليكوبتر وعربات مصفحة
روسية هي "أكاذيب كاملة" وزعمت الوكالة أن العسكريين الأوكرانيين
يغادرون مواقعهم "بشكل جماعي" وأن "حرس الحدود الأوكرانيين لا
يبدون أي مقاومة".
الإعلام
الغربي والحرب الروسية- الأوكرانية:
بطبيعة
الحال لم تكن الحرب الروسية- الأوكرانية استثناء من هذا التطور، بل كانت تجسيداً
حياً لكيفية استغلال وتوظيف الإعلام كوسيلة رئيسية من وسائل إدارة الحرب والصراع
بين الجانبين الروسي والغربي (الداعم لأوكرانيا)؛ حيث تعامل هذا الأخير؛ أي
الإعلام الغربي مع الحرب باعتبارها فرصة سياسية، يمكن توظيفها في التحريض ضد روسيا
ورئيسها فلاديمير بوتين من أجل عزلهما دولياً، فعمدت إلى تشويه وشيطنة صورة الرئيس
الروسي وتضخيم خسائر الجيش الروسي من ناحية، وكذلك حجم الدمار الذي خلفته الحرب
على أوكرانيا وشعبها من جهة أخرى، لتصدير صورة تعكس فشل الجيش الروسي في عمليته
العسكرية في أوكرانيا لإصابة الراي العام الروسي بالإحباط واليأس، وكذلك إبراز ما
ترى أنها جرائم حرب غير مبررة ترتكبها القوات الروسية في أوكرانيا.
وفي
هذا السياق نشرت العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية والمحطات التلفزيونية
الغربية مقابلات وتحليلات ومقالات رأي للعديد من الكتاب، ركزت أغلبها على تشوية
صورة روسيا ورئيسها بوتين، والتشكيك في سياساتها الخارجية وأسباب ودوافع حربها على
أوكرانيا، وبدت شبكات إعلامية ضخمة مثل سي إن إن الإخبارية، وفوكس نيوز، ونيويورك
تايمز، وواشنطن بوست، ودايلي نيوز وغيرها وكأنها تقود حملة منظمة للنيل من روسيا
وشحن الرأي العام العالمي ضدها بما يتجاوز الهدف الخاص بدفعها لوقف الحرب في
أوكرانيا أو حتى التعاطف مع أوكرانيا وشعبها في مواجهة ما تصفه بالعدوان الروسي
الذي تتعرض له. وهذا يمكن تفهمه في ضوء السياسية الأمريكية خاصة، والغربية عامة
(مع بعض التباينات) والتي تستهدف إضعاف مكانة روسيا الدولية وإخراجها من دائرة
التنافس على قيادة النظام الدولي القائم والمستقبلي، ولاسيما بعدما أظهرت تحدياً
لواشنطن والغرب في أكثر من مشهد عالمي مؤثر.
وبالرغم
من مزاعم انتهاج الإعلام الغربي لمعايير النزاهة والموضوعية والحيادية، فإن تغطيته
لهذه الحرب أظهرت انحيازاً واضحاً في التعامل مع مجرياتها، فكل ما تم ويتم بثه على
مدار الساعة يصب في اتجاه واحد وهو الرأي الذي يهاجم روسيا ويحملها المسؤولية
كاملة ويشوه صورتها من أجل شحن الرأي العام العالمي ضدها، كما تميز هذا الإعلام
بالانتقائية في نشر ما يخدم توجهات القائمين عليه، واستبعاد أية آراء تحاول عرض
الأمر من وجهة النظر الروسية من حيث أسباب ودوافع ومبررات هذه الحرب والتي يتحمل
الغرب بالتأكيد جزء من مسؤولية إشعالها من خلال عدم النظر بجدية في تهدئة مخاوف
روسيا من تمدد الناتو شرقاً.
ولم
يكتفي الغرب بذلك، بل عمل على تكميم وسائل الإعلام الروسية من خلال حظر القنوات
التي تعبر عن وجهة نظر موسكو مثل روسيا اليوم وسبوتنك، بل وقامت شركات التكنولوجيا
الامريكية الكبرى التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي مثل جوجل وفيسبوك وغيرها بمنع
وسائل الإعلام الروسية التي تمولها الدولة من استخدام تقنيتها الإعلانية لجمع
إيرادات على مواقعها وتطبيقاتها، في حين سمحت هذه الشركات بنشر محتوى غير موثوق
بثته بعض الجهات الإعلامية في أوكرانيا والغرب بما في ذلك فيديوهات وافلام وتقارير
مزيفة حول حالات الذعر التي تنتاب المدنيين عند إطلاق صافرات الإنذار أو تعرض لصور
أسرى جنود روس أو صور لآليات روسية مدمرة تبين لاحقاً أنها جميعها مزيفة وغير
حقيقية وذلك لتحقيق الهدف من هذه الحملة الإعلامية.
الإعلام
الروسي والحرب الروسية- الأوكرانية:
في
المقابل، يمارس الإعلام الروسي الدور ذاته، من خلال تصوير الحرب المستعرة في
أوكرانيا بأنها «عملية عسكرية خاصة» وليست حرباً، واتهام الغرب وتحميله المسؤولية
عن هذه العملية الروسية التي تصفها وسائل الإعلام الروسية بأنها ضرورية لوقف توسع
الناتو شرقاً وتقليل التهديد الأمني للناتو، وإظهار جوانب التفوق الروسي في الحرب
مع التغطية على خسائر موسكو الكبيرة فيها. ووصل الأمر إلى حد قيام السلطات الروسية
بالتحذير من حظر أي وسيلة إعلام روسية مستقلة لا تغطي الحرب بالطريقة التي تريدها
موسكو وسلطاتها العسكرية. كما أعلنت موسكو أنّها فرضت «قيوداً على الوصول» إلى
فيسبوك في روسيا وذلك رداً على القيود التي فرضتها الشركة على المحتوى الروسي.
الإعلام
وإدارة الصراعات السياسية:
لقد
أظهر تعامل الاعلام الغربي والروسي على السواء طبيعة الدور الذي يمكن أن يقوم بها
الإعلام في إدارة الصراعات السياسية بين الدول، وأكد بأنه يمكن أن يكون سلاحاً
مدمراً للصورة الذهنية إذا لم يكن للدولة رصيد من شبكة العلاقات العامة مع الدوائر
الاعلامية في العالم. كما أكدت هذه الحرب من جديد حقيقة أن الإعلام بات سلاحاً
فعالاً يمكن توظيفه لقلب موازين القوى، وأنه أصبح أحد أهم أدوات الاشتباك الجديد
بين الدول، ليتجاوز بكثير دوره التقليدي باعتباره وسيلة لنشر الأخبار أو تسليط
الضوء على قضية إنسانية أو أمنية فقط، وإنما هو رأس الحربة في إدارة الحروب
والأزمات السياسية بين الدول.
كما
كشفت الحرب غياب المصداقية لصالح التهويل والإثارة، ففي الحروب والصراعات لا تلتزم
أغلب وسائل الاعلام وحتى التي توصف أحياناً بـ «المحايدة» بالموضوعية، وتقع في
دائرة فخ «الكذب الاعلامي» وهذا يكون مقصوداً في أغلب الأحوال، لأن الإدارة
الاعلامية تكون هنا «مسيسة» وليس أدل على ذلك الطريقة التي تعاملت بها وسائل الاعلام
الغربية والروسية والتي اعتمدت في كثير من الأحيان على مصادر «مجهولة» في نشر
العديد من تقاريرها التي امتلأت بالمغالطات والأكاذيب، متجاوزة في ذلك قواعد وأصول
العمل الاعلامي، التي تنحاز دوماً للحقيقة على حساب اي اعتبارات أخرى.
العالم
يحتاج إلى تغطية جديدة:
إن
العالم يحتاج إلى نوعية جديدة من التغطية المتعمقة تقوم على عرض المناظير المختلفة
وتفسير الأحداث وتوقع نتائجها، فالتغطية التي تحتاج إليها الجماهير يجب أن تكون
أكثر وضوحا، وأن لا تقتصر علي المعلومات فقط، وأن تكون من مصادر متعددة ومتنوعة.
كما
أن التغطية الحالية التي تقدمها وسائل الإعلام يمكن أن تؤدي في المستقبل إلى زيادة
سخط الجماهير على هذه الوسائل لأنها متحيزة للمنظور الأمريكي، وتستخدمها أمريكا في
إدارة الصراع.
نظام
إعلامي جديد.. لماذا؟:
هذه
التساؤلات يمكن أن تفتح لنا المجال لمناقشة جديدة حول النظام الإعلامي العالمي،
والسيطرة الأمريكية على تدفق الأنباء، والبحث عن وسائل جديدة لحماية حق الجمهور في
المعلومات والمعرفة، وضمان حق الاتصال لكل الشعوب.
كما
يوضح ذلك أن العالم يحتاج إلى وسائل إعلامية جديدة تغطي له الأحداث من مصادر
متعددة ومتنوعة، ومن مناظير مختلفة، وإدارة مناقشة حرة حول هذه الأحداث.
وإذا
كانت الشعوب الأوروبية هي صاحبة المصلحة في نجاح الدور التركي في البحث عن حل سلمي
للصراع، فإنها أيضا تحتاج إلى وسائل إعلامية حرة توفر لها المعرفة عن هذا الدور،
وتعبئ الجماهير لمساندته، ومن حق الجماهير أيضا أن تعرف القادة الذين يمتلكون رؤى
ومشروعات حضارية يمكن أن تنقذ البشرية من الكوارث.
خاتماً:
لقد بات الاعلام في عصر الأزمات أهم أدوات إدارة الحروب والخلافات السياسية بين
الدول، وتهديد أمنها القومي، لهذا من الضروري أن يلتفت القائمون على الاعلام إلى
هذه الحقيقة من خلال الاعلام الخارجي، وبناء كوادر متخصصة فيه تستطيع مخاطبة
الخارج والتواصل مع الرأي العام الدولي والتأثير فيه.
المراجع:
يوسف جمعه الحداد، 2022-04-03، الإعلام
كوسيلة من وسائل الحرب الروسية- الأوكرانية، مجلة درع الوطن.
د. سليمان صالح، 22-10-2022، كيف غطت وسائل الإعلام
الحرب الروسية الأوكرانية.. ولماذا تجاهلت الدور التركي؟، موقع الجزيرة.
ديمتري كيسيليف، 04/03/2022، كيف
تغطي وسائل الإعلام الروسية الحرب في أوكرانيا؟، قناة يورونيوز.