المياه والصراعات الإقليمية في القرن الأفريقي
فرع القاهرة

 

 

استحوذت قضايا الأمن المائي في منطقة القرن الأفريقي بصفة عامة، وحوض النيل بصفة خاصة، على اهتمام دوائر البحث وصنع القرار في المنطقة والغرب في العقد الأخير وقد دفعت المتغيرات الجديدة وأهمها توقيع معظم دول منابع النيل على اتفاقية عنتيبي عام 2010 وبناء سد النهضة في العام التالي هذه الدوائر للاهتمام بمدى تأثيرها في توازن القوى في الإقليم وفي الأمن والاستقرار الإقليميين واكبت مفاوضات سد النهضة، خاصة بعد استئنافها عقب توقيع إعلان المبادئ في مارس عام 2015 جهدًا مصريًا دبلوماسيًا مكثفًا، وضع هدف الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل السد على أجندة مباحثات القيادة السياسية ومسئولي الخارجية المصرية مع كافة المسئولين من المنطقة وخارجها.

وبعد فشل جولات التفاوض برعاية أمريكية لجأت مصر إلى مجلس الأمن الدولي في يونيو 2020 لمناقشة هذا الأمر باعتباره مهددًا للسلم والأمن الاقليميين، مع استمرار محاولات التوصل إلى اتفاق عبر وساطة الاتحاد الأفريقي. وبعد الملء الثاني المنفرد للسد، عرضت مصر القضية مرة أخرى على المجلس الذي أصدر بيانًا رئاسيًا في سبتمبر 2021 يدعو الدول الثلاث إلى الانخراط في المفاوضات بشكل بناء للوصول في إطار زمني معقول لاتفاق ملزم حول ملء وتشغيل السد.

وعلى صعيد القوى الغربية، اهتمت الإدارة الأمريكية السابقة (إدارة ترامب) بالوصول إلى تسوية لهذه القضية نتج عنها بالفعل بعد عدة جولات من التفاوض اتفاق أولي وقعت عليه مصر بالحروف الأولى في فبراير 2020 ورفضت إثيوبيا التوقيع عليه بحجة الحاجة إلى مزيد من الوقت للتشاور، بينما فضلت السودان عدم التوقيع عليه.

وقد مارست الإدارة الأمريكية بعض الضغط الرمزي بتعليق جزء يسير من المساعدات لإثيوبيا لموقفها المتشدد في المفاوضات، واستغلت الحكومة الإثيوبية هذا الموقف للادعاء بخضوعها لضغوط للتوقيع على الاتفاق. وعلى جانب آخر، ركز الاتحاد الأوروبي على التعاون الفني في مجال المياه بناءً على قرار أثار الجدل حين صدوره عام 2017 بدعم مبادرة حوض النيل ماليًا وفنيًا والتعاون مع مصر -التي علقت عضويتها في المبادرة عام 2010 احتجاجًا على توقيع معظم دول المنابع على اتفاقية عنتيبي- بشكل منفرد. إلا أن تعثر مفاوضات سد النهضة واتجاه إثيوبيا إلى ملء السد دون الوصول إلى اتفاق مع دولتي المصب دفع الاتحاد الأوروبي إلى إصدار بيان في يوليو عام 2021 يعرب فيه عن أسفه للملء الثاني المنفرد كما عرض أن يقوم بدور أكبر في المفاوضات من كونه مراقبًا. وأشار البيان إلى أن مثل هذا الاتفاق يمكن أن يفتح آفاقًا للاستثمارات الخارجية لدعم الأمن المائي والغذائي وأمن الطاقة في المنطقة. كما ظهر المضمون نفسه في البيان المشترك للخارجية المصرية ومنسق السياسات الخارجية للاتحاد الاوروبي في ختام الاجتماع التاسع للمجلس المصري الأوروبي في لوكسمبورج في يونيو 2022.

 

ورغم هذه التعقيدات فإن هناك عدة أسباب تدعو إلى عودة الاهتمام الدولي بملف المياه في منطقة القرن الأفريقي بصفة عامة، وبسياسة إثيوبيا كدولة منبع على عدد من الأنهار الدولية بشكل خاص. ويمكن إجمال هذه الأسباب فيما يلي:

أسباب الاهتمام الدولي بملف المياه في منطقة القرن الأفريقي

- إن السياسة الإثيوبية بإنشاء مشروعات على أحواض الأنهار الدولية التي تنبع من أراضيها دون التشاور مع الدول الأخرى ودون إجراء دراسات التأثيرات البيئية والاجتماعية لهذه المشروعات قد أصبحت سياسة متكررة ونمطًا سائدًا لا يقتصر على حوض النيل فقط، وإنما يمتد إلى الأنهار الأخرى وقد أصدر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري) وهو مركز ذائع الصيت في مجال الأمن ورقة سياسات مهمة عام 2020 بعنوان “الأمن المائي وإدارة المياه في القرن الأفريقي” تناولت سياسة إثيوبيا في حوض نهري “جوبا وشبيلي” وكيفية تأثيرها في الأمن المائي والغذائي في الصومال وقد أكدت الورقة أن الخطط التي طورتها إثيوبيا عامي 2005 و2007 لإنشاء مشروعات للري وتوليد الطاقة الكهرومائية في حوض “جوبا شبيلي” يمكن أن تستخدم “كافة المياه المتاحة في الحوض” تقريبًا وتؤدي إلى “تأثيرات سلبية بالغة” في الصومال والتي يعد الجزء الواقع من الحوض في أراضيها سلة غذائها. وقد بدأت إثيوبيا بالفعل بناء سدود “جينالي داوا” Genale Dawa في بدايات العقد الماضي.

- أن التهديدات للأمن المائي نتيجة المشروعات الإثيوبية لها تداعيات مباشرة على الأمن الإنساني في دول المنطقة. وقد بدأت بعض التقارير الاستقصائية رصد تأثيرات سد النهضة في السودان، وهناك حاجة لتقارير وأبحاث مماثلة حول تأثير السدود الإثيوبية في نهري “جوبا وشبيلي” في الأمن الغذائي والإنساني في الصومال. وقد أشرت في مقال لبرنامج حلول للسياسات البديلة أن هناك حاجة لدراسة التداعيات الاجتماعية والإنسانية لسياسات المياه التي اضطرت الحكومة المصرية لتبنيها لمواجهة الشح المائي الحالي والتداعيات المحتملة لسد النهضة.

- أن قضايا الأمن المائي تتقاطع مع العديد من الصراعات الإقليمية في المنطقة، ويتم تسييسها بشكل واضح فتكون أحيانًا عاملًا إضافيًا يؤثر في علاقات متوترة بالأساس أو يحفز سياسات معينة لبعض القوى. وتوضح ورقة معهد ستوكهولم السابق الإشارة إليها أن السياسة الإثيوبية تجاه الصومال قامت على مبدأ فرق تسد لإضعاف الدولة الصومالية واستمرار السيطرة على الموارد المائية المشتركة التي تنبع من الأراضي الإثيوبية. ومن الواضح أن هذا المبدأ الذي يعتمد على تقوية حكومات الأقاليم على حساب الحكومة الفيدرالية لا يزال يحكم السياسة الإثيوبية تجاه الصومال ولا أدل على ذلك من التفاهمات الإثيوبية الأخيرة لإقامة قاعدة عسكرية في أرض الصومال ومن ملامح تسييس المياه أيضًا استخدام المياه أو التلويح باستخدامها كورقة ضغط في المفاوضات وقد أشار تقرير لمجموعة الأزمات الدولية عام 2021 حول الصراع الحدودي حول الفشقة بين إثيوبيا والسودان إلى تقاطع هذا الملف مع مفاوضات سد النهضة.

- أن الأطراف ذات المصلحة في هذه المنطقة وذات التأثير في تفاعلاتها تتزايد بشكل يؤدي في الغالب إلى تعقيد هذه الصراعات. ومن ذلك دور بعض القوى الخليجية في دعم نظام آبي أحمد في حربه في التجراي والدعم الصيني لمشروعات السدود الإثيوبية على الأنهار الدولية.

 

- أن التغير المناخي سيؤدي إلى زيادة حدة قضايا الأمن المائي، وبالتالي تزايد احتمالات الصراع حوله في المستقبل فهناك اختلاف بين الباحثين بشأن معدلات هطول الأمطار في منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل ولكن المتفق عليه هو زيادة الظواهر المناخية الحادة extreme events أي فترات الجفاف الشديد والفيضانات، وهو ما يفسر حرص المفاوض المصري على الاتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة في هذه الفترات.

غضب مصري وقلق سوداني

منذ فور الإعلان عن الملء الرابع لسد النهضة، نددت مصر بالتصرف "الأحادي" لأديس أبابا، مؤكدة أن هذا الإجراء يشكل "مخالفة قانونية". وقالت الخارجية المصرية في بيان إن "اتخاذ أثيوبيا لمثل تلك الإجراءات الأحادية يُعد تجاهلا لمصالح وحقوق دولتي المصب وأمنهما المائي الذي تكفله قواعد القانون الدولي"، في إشارة إلى مصر والسودان.

وتخشى مصر والسودان أن يؤدي ذلك إلى تقليل إمدادات المياه لديهما. وتعتبر مصر هذا السد الكبير تهديداً وجودياً لأنها تعتمد على نهر النيل في 97 في المئة من احتياجاتها المائية. أما الخرطوم، فقد تباين موقفها في السنوات الأخيرة.

يقول الدكتور فؤاد إبراهيم أستاذ الجغرافيا في جامعة بايرويت بألمانيا إنه مع استمرار ملء السد الأثيوبي ستعاني مصر  الفقيرة مائيا بالأصل من عجز في المياه، لأنه حصتها من مياه النيل تبلغ 55.5 مليار متر مكعب في السنة، وأي اقتطاع من هذه الكمية من المياه سيكون بمثابة خسارة من كافة النواحي لمصر، لأن السودان سيستغل نصيبه بشكل طبيعي خصما أيضا من حصة مصر" وقدر حجم هذه الخسارة خلال فترات ملء السد بنحو 30 في المائة من حصة مصر

وعن الموقف السوداني كتب الدكتور عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا ومصادر المياه بجامعة القاهرة أنه باكتمال التخزين الرابع للمياه خلف سد النهضة يكون نظام الزراعة الفيضية على جانبي النيل الأزرق فى السودان قد انتهى، ويتطلب ذلك إقامة السودان لشبكة ري من ترع وماكينات رفع المياه، واستخدام الأسمدة لتعويض فقد الطمي الحادث بسبب سد النهضة مما يزيد من تكلفة الإنتاج الزراعي السوداني في المستقبل.

التأثيرات السلبية على كل من مصر والسودان

إن سد النهضة سيؤدي لعدة آثار سلبية منها انخفاض تدفق المياه، حيث سيقوم سد النهضة بتخزين المياه خلال موسم الأمطار وإطلاقها خلال موسم الجفاف (وهذا الأمر أصبح الآن رهن الإرادة الأثيوبية فقط) الأمر الذي قد يقلل من كمية المياه التي تتدفق إلى مصر والسودان في الأوقات الحرجة وهو أكثر ما يثير قلق البلدين.

وفي المقام الثاني، تعتمد كل من مصر والسودان على نهر النيل للري ويمكن أن يؤدي انخفاض تدفق المياه من سد النهضة إلى مشاكل في الري، مما قد يؤدي إلى تلف المحاصيل وتقليل الإنتاج الزراعي. ويقول علماء إن سد النهضة سيمنع هجرة الأسماك بين النيل الأزرق والنيل الأبيض وقد يؤدي ذلك إلى تقليل أعداد الأسماك والإضرار بصناعة صيد الأسماك في مصر والسودان.

حذر خبراء مصريون من أن مخزون مصر من المياه في حالة حرجة بسبب الإجراءات الأثيوبية فجعلت مصر تلجأ لاتخاذ قرارات في غاية الأهمية لتقليل الفاقد من المياه لديها، وهي إجراءات ترى أثيوبيا أن مصر كان عليها تلجأ إليها منذ زمن طويل، أهمها قضية إصلاح الترع ومصارف المياه في مصر لأن المياه المهدرة من منظومة الترع الحالية كانت تصل لأكثر من تسعة عشر مليار متر مكعب، وأيضا لجأت مصر إلى إعادة تكرير واستخدام المياه مرة أخرى.

ويضيف الباحث والخبير الاريتري أن "مصر بدأت في التفكير باحتجاز المياه عند المصب أي قبل الدخول إلى البحر الأبيض المتوسط وإقامة أماكن لاختزان المياه في تلك المناطق وليس فقط في توشكا. بالتالي مجموعة الإجراءات هذه التي اتخذتها مصر تقول إن هنالك فعلا تغير في السياسة المائية المصرية نتيجة لبناء السد الأثيوبي واحتجاز المياه خلفه".

 

 

 

المصدر: مركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الكاتب : د. راوية توفيق

التاريخ : 21/7/2024

---------------------------------------------

المصدر: أكاديمية دويتشه فيله للتنمية والاستشارات الإعلامية

الكاتب : عماد حسن

التاريخ : 19/9/2023

 

المقالات الأخيرة