سباق الجيل السادس بين الولايات المتحدة والصين
فرع بنغازي

دخلت الولايات المتحدة فترة جديدة من المنافسة مع الصين على التطورات التكنولوجية الحديثة في الذكاء الاصطناعي، تزيد من تعقيد المشهد الدولي، وأدرك العلماء، والسياسيون، وكبار الضباط العسكريين أن دمج الذكاء الاصطناعي هو نشأة ثورة جديدة في الشؤون العسكرية، مع القدرة على تغيير ميزان القوى الاستراتيجي، لكن الولايات المتحدة، المثقلة بسنوات الفشل في الشرق الأوسط، والنزاع الروسي- الأوكراني يعرقلان إستراتيجية ذكاء اصطناعي طويلة المدى تمتد حتى عام 2025، وهي ليست مستعدة لدخول هذا “الجيل السادس” من القدرات العسكرية من أجل تأمين المصالح الاستراتيجية. وستُحدَّد هذه القوة الممكّنة للذكاء الاصطناعي من خلال أنظمة شبه مستقلة ومستقلة، بما في ذلك أنظمة الأسلحة الفتاكة المستقلة، وسيحصل من يطورها ويستخدمها على ميزة إستراتيجية على منافسيه في هذا العصر الجديد. ومع أن الولايات المتحدة تمتلك حاليًا ميزة في الذكاء الاصطناعي، فإنها تنكمش بسرعة بسبب الافتقار إلى التفكير المستقبلي، وسياسة الاستثمار.

السباق الأمريكي  الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي

ابتداءً من التسعينيات، نفذت الحكومة الصينية برنامج تحديث اجتماعي وعسكري ضخمًا مصممًا لرفع الصين إلى مكانة قوة دولية كبرى. وفقًا لبيانات مجلس العلاقات الخارجية، بلغت ميزانية الدفاع للحكومة الصينية عام 1990،  مليار دولار أمريكي. بين عامي 1990 و2018، زادت ميزانية الدفاع الصينية إلى (239) مليار دولار أمريكي، بزيادة قدرها (11) ضعفًا. في الوقت نفسه، ارتفعت ميزانية الدفاع الأمريكية من (574) مليار دولار أمريكي إلى (634) مليار دولار أمريكي، مع زيادة كبيرة بعد عام 2001 للعمليات القتالية المستمرة في أفغانستان والعراق .

بين عامي 2004 و2014، تضاعف عدد مهن العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات تقريبًا من أقل من (400000) إلى (723000)، مع ما يقرب من (75000) براءة اختراع معتمدة في بكين وحدها، ونتيجة لهذا الاستثمار في التعليم ارتفعت تطورات الذكاء الاصطناعي في الصين. عام 1997، نشر العلماء (1086) ورقة بحثية متعلقة بالذكاء الاصطناعي، أو (4.26) في المئة من الإسهامات البحثية العالمية للذكاء الاصطناعي. ارتفع هذا العدد إلى (37347) ورقة بحثية متعلقة بالذكاء الاصطناعي نشرها علماء صينيون عام 2017، ليشكلوا (27.68) في المئة من الإسهامات البحثية العالمية للذكاء الاصطناعي. ويتجاوز هذا الرقم الإسهامات البحثية الأمريكية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي بأكثر من (10000) دراسة .

عام 2018، نشرت (DIU)، وهي منظمة وزارة الدفاع المسؤولة عن “نشر التكنولوجيا التجارية وتوسيع نطاقها” لأغراض الأمن القومي والأغراض العسكرية، دراسة عن إستراتيجية نقل الصين للتكنولوجيا. ليشير التقرير أن بحلول عام 2050 قد ينمو الاقتصاد الصيني إلى (150٪) من الاقتصاد الأمريكي في الإطار الزمني نفسه. بالإضافة إلى أنه ستبلغ سرقة الملكية الفكرية المقدرة من الولايات المتحدة من جانب الصين بـ (300) مليار دولار أمريكي سنويًّا. وعلى المنوال نفسه، ما يقرب من (25٪) من خريجي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات من الجامعات الأمريكية هم من الصينيين. كما أن الصين مندمجة- اندماجًا كبيرًا- في الابتكار التكنولوجي للولايات المتحدة، وتقدر استثماراتهم بين عامي 2006 و2016 في شركات التكنولوجيا الأمريكية بـ (35) مليار دولار أمريكي .

بين عامي 2010 و2017، بلغ إجمالي استثمارات الذكاء الاصطناعي في الصين 1.3(مليار دولار أمريكي فقط، مع )2.1(بالمئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي الصيني المخصص للبحث والتطوير. وتجدر الإشارة إلى مدى سرعة ارتفاع هذا الاستثمار بين عامي 2015 و2017، لتبلغ (11.52) مليار دولار، جنبًا إلى جنب مع عدد صفقات المشروعات الصينية في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي  .

تضمنت الخطط الخمسية للصين زيادة إلى (2.5) في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2020، أي ما يقرب من 350 مليار دولار أمريكي، في مجال البحث والتطوير. وبالمقارنة، يبلغ إجمالي الإنفاق في الولايات المتحدة نحو (3-4) في المئة من إجمالي الناتج المحلي على البحث والتطوير مجتمعة بين القطاعين العام والخاص، مع توصيات (NSCAI) لاستثمار أقل بقليل من 100 مليار دولار أمريكي على مدى السنوات الخمس المقبلة في الذكاء الاصطناعي. إلى جانب خطوط الابتكار الأخرى، في عام 2015، ارتفعت طلبات براءات الاختراع الصينية بنسبة (19) في المئة، مقارنة بعام 2014، في حين نمت طلبات براءات الاختراع الأمريكية بنسبة (2) في المئة فقط، وأنتجت الصين أيضًا ما يقرب من ضعف عدد الخريجين في مجالات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، مقارنة بنظرائهم الأمريكيين.

عام 2016، قدم الصينيون أسرع كمبيوتر عملاق في العالم، وعرضوا كثيرًا من تقنيات الجيل السادس، بما في ذلك قمر صناعي للاتصالات الكمومية. ويختتم (DIU) تقريره ببعض النتائج المهمة:

ليس لدى حكومة الولايات المتحدة نظرة شاملة عن مدى سرعة حدوث نقل التكنولوجيا، أو مستوى الاستثمار الصيني في التكنولوجيا الأمريكية، أو التقنيات التي يجب حمايتها.

ليس لدى الولايات المتحدة سياسة شاملة، أو أدوات لمعالجة هذا النقل الضخم للتكنولوجيا إلى الصين.

تستثمر الصين في تقنيات المستقبل الحاسمة التي ستكون أساسًا للابتكارات المستقبلية لكل من التطبيقات التجارية والعسكرية، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي  .

وفيما يتعلق بأنظمة الأسلحة الفتاكة الذاتية التشغيل، طورت الصين بالفعل صاروخ كروز شبه مستقل قادرًا على اتخاذ القرار بمساعدة الذكاء الاصطناعي خلال الطيران. بالإضافة إلى ذلك، عام 2017، عرضت جامعة صينية تابعة للجيش سربًا جويًّا بدون طيار مكونًا من أكثر من (1000) طائرة. ويمكن أن تعزى هذه التطورات إلى زيادة بنسبة (620) في المئة في الإنفاق الدفاعي الصيني في الفترة بين عامي 1996 و2005، ثم مضاعفة ميزانية الدفاع ثلاث مرات بين عامي 2007 و2017.

 على النقيض من ذلك، ظل الإنفاق الدفاعي للولايات المتحدة ثابتًا نسبيًّا. لكن وزارة الدفاع الأمريكية طلبت عام 2020 أربعة مليارات دولار أمريكي لبحث الأنظمة الذاتية، بعد إنفاق ما مجموعه (9.7) مليار دولار أمريكي على الأنظمة غير المأهولة والمستقلة عام 2019. تمثل هذه الأرقام زيادة كبيرة في ميزانية الذكاء الاصطناعي العسكري الأمريكي، لكنها لا تقترب من التوصيات التي قدمتها (NSCAI) بشأن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2026، وأقل كثيرًا من الاستثمارات الصينية المخطط لها خلال الفترة الزمنية نفسها.

لكن الاستثمارات الأمريكية أدت أيضًا إلى زيادات كبيرة في القدرات. وقامت كثير من الفروع العسكرية الأمريكية، بالاشتراك مع الجامعات المدنية، و (DARPA)، وغيرها من مراكز البحوث المدنية والعسكرية، بتطوير تكنولوجيا الأسراب والطائرات بدون طيار، مثل (Gremlin) التابعة لـ (DARPA)، التي يمكن إطلاقها من طائرات أكبر، والتنسيق مع الأصول المقاتلة المحمولة جوًّا. وتتمتع هذه الطائرات بدون طيار بالقدرة على الانخراط في تكتيكات الأسراب الهجومية المصممة لإرباك الدفاعات، مع توفير أخطار منخفضة للمشغلين من البشر. ولن تمر هذه التطورات الأمريكية بدون منافسة؛ حيث يعمل “مجمع تطوير الذكاء الاصطناعي الصيني” الذي يقدر رأس ماله بنحو (2.12) مليار دولار أمريكي، على خطط مماثلة، ومن المتوقع أن يرتفع رأس مال المجمع إلى (15) مليار دولار  .

تتطلب هذه الزيادات في القدرة بسبب التكنولوجيا المدعومة بالذكاء الاصطناعي، أو التي يحركها الذكاء الاصطناعي، جيلًا جديدًا من القادة العسكريين من أجل الاستفادة- بشكل مناسب- من القوة المتطورة. وطوّر مركز التقييمات الاستراتيجية (CSBA)، بالاشتراك مع (DARPA)، في الآونة الأخيرة، مفهومًا جديدًا لحرب الفسيفساء” . وكانت العمليات العسكرية السابقة “تتمحور حول الشبكة”، وتتطلب كميات ضخمة من البيانات ليجمعها ويحللها قائد يمكنه بعد ذلك توصيل الاستراتيجية التشغيلية إلى المرؤوسين. يتطلب هذا الشكل من صنع القرار مستويات وعي ظرفي عالية لفهم الطبيعة الكاملة للبيئة الاستراتيجية والتشغيلية، وربما حتى التكتيكية. وصُممت التطورات الحديثة في الحرب الإلكترونية خصيصًا لتقويض القيادة، والسيطرة، والاتصالات، وأجهزة الكمبيوتر، والاستخبارات.

وتدرك (CSBA) الحاجة إلى التحول إلى أسلوب الحرب المعزز بالذكاء الاصطناعي “المتمحور حول القرار”؛ لذا فإن نموذج حرب الفسيفساء، حيث يتم تحديد هدف من جانب قائد، ثم تطلق أنظمة الذكاء الاصطناعي مجموعة من “سلاسل القتل” المستقلة على المستوى التشغيلي والتكتيكي، هو مفهوم ثوري في الحرب، ويتعارض مع عقيدة الحرب الأمريكية، ويتركز على المناورة والاستنزاف.

إن سباق التسلح بين واشنطن وبكين في مجال الذكاء الاصطناعي العسكري يعطي لكل منهما المزايا الجيوستراتيجية في مناطقهما الخاصة، ما يجعل تطويق الحدود الصينية من جانب القطع العسكرية الأمريكية التقليدية “مسارًا غير مستدام”، ويوفر تطوير الأسلحة غير المأهولة، والفتاكة القائمة على الذكاء الاصطناعي القدرة المستدامة على العمل في ظل تغيرات البيئة الدولية، وسيكون له تأثير عميق في توازن القوى الجيوستراتيجي.

ختاما: وضوح موقف الولايات المتحدة والصين من أنظمة الأسلحة الفتاكة الذاتية التشغيل في ضوء استغلال الذكاء الاصطناعي. كما أنها وضعت التصريحات الأيديولوجية والدبلوماسية والمشروعات العسكرية للبلدين في سياق إعادة سرد مشهد القوة الصلبة الذي تشكل عبر المحيطين الهندي والهادئ.

دخلت الولايات المتحدة فترة جديدة من المنافسة مع الصين على التطورات التكنولوجية الحديثة في الذكاء الاصطناعي، تزيد من تعقيد المشهد الدولي، وأدرك العلماء والسياسيون وكبار الضباط العسكريين أن دمج الذكاء الاصطناعي هو نشأة ثورة جديدة في الشؤون العسكرية، مع القدرة على تغيير ميزان القوى الاستراتيجي،

لكن الولايات المتحدة، المثقلة بسنوات الفشل في الشرق الأوسط، والنزاع الروسي- الأوكراني يعرقلان إستراتيجية ذكاء اصطناعي طويلة المدى تمتد حتى عام 2025، وهي ليست مستعدة لدخول هذا “الجيل السادس” من القدرات العسكرية من أجل تأمين المصالح الاستراتيجية. وستُحدَّد هذه القوة الممكّنة للذكاء الاصطناعي من خلال أنظمة شبه مستقلة ومستقلة، بما في ذلك أنظمة الأسلحة الفتاكة المستقلة. وسيحصل من يطورها ويستخدمها على ميزة إستراتيجية على منافسيه في هذا العصر الجديد. ومع أن الولايات المتحدة تمتلك حاليًا ميزة في الذكاء الاصطناعي، فإنها تنكمش بسرعة بسبب الافتقار إلى التفكير المستقبلي، وسياسة الاستثمار، في حين يعمل جيش التحرير الشعبي الصيني- بقوة- على تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي الروبوتية والبرمجية، لكن لا توجد أنظمة أسلحة صينية معروفة حاليًا تعمل في الميدان، أو قيد التطوير، وتتمتع بالاستقلالية الكاملة، ولكن بعضها يتمتع بالفعل بدرجة عالية من الاستقلالية، ويمكن أن يعمل- على الأرجح- بدون وجود إنسان. وإذا سلك جيش التحرير الشعبي هذا الطريق، فسيواجه التحديات نفسها التي تواجهها الولايات المتحدة في تحديد المسؤولية والمساءلة عن سلوك أنظمة الأسلحة الفتاكة الذاتية التشغيل.

ويجري جيش التحرير الشعبي حاليًا أبحاثًا في تقنيات تحديد الهدف بواسطة الذكاء الاصطناعي، يمكن أن تجعل أسلحتها أكثر استقلالية عن المشغلين. وتعمل بكين أيضًا على مجموعة متنوعة من الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي؛ لدمج البيانات بشكل مستقل من مجموعة واسعة من أجهزة الاستشعار لتحديد الأهداف المخفية، وتوفير صورة شاملة للقادة لتمكين اتخاذ القرارات بسرعة. ويأمل جيش التحرير الشعبي في المستقبل أن يعمل هذا النظام كـ “ضابط أركان رقمي”؛ لتوفير المعلومات، والتوصيات، واقتراحات التخطيط للقادة.

مع أن بكين دعت رسميًّا إلى فرض حظر على أنظمة الأسلحة الفتاكة الذاتية التشغيل، فإن الطريقة التي تقترحها لتعريف تلك الفئة من الأسلحة ضيقة جدًّا، إلى درجة أنه حتى لو تمت الموافقة على هذا الحظر، فمن المحتمل ألا يؤثر كثيرًا في أي نظام قيد التطوير حاليًا في أي من الولايات المتحدة أو الصين. ومع ذلك، ليس لدى الولايات المتحدة الكثير لتخسره في إشراك الصين في مفاوضات بشأن اتفاقية دولية لتقييد تطوير أو استخدام أنظمة الأسلحة الفتاكة الذاتية التشغيل. ولا يبدو أن الحظر الذي اقترحته بكين محاولة مقنعة لتقييد تطوير الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة؛ ومن ثم فقد تستفيد واشنطن من الدخول في مفاوضات، ومحاولة ضمان أن يكون تعريف منظومات الأسلحة الفتاكة الذاتية التشغيل، الذي اعتمدته الأمم المتحدة، أقرب إلى وقف سباق تسلح مع بكين.






المراجع

مصطفى شلش، 8/ 4/2023، سباق الجيل السادس بين الولايات المتحدة والصين، مركز الدراسات العربية الاوراسية.

عمرو علاء، 22/ 8/2023، صراع النفوذ بين الولايات المتحدة والصين، السياسة الدولية.

المقالات الأخيرة