التدميرَ الذي يطال غزّة هو- في الحقيقة- تدميرٌ
لأشياء بدواخلنا، تدميرٌ للثقة التي وضعناها في المجتمعات المسماة متحضّرة أو
متقدّمة، تهشيمٌ للصورة التي ثَبتَت في مخيلتنا عن منظومة كنا نحسَبُها تقوم على
حقوق الإنسان. لم تَعْظُم مصيبة علينا مثل مصيبة غزّة، التي جعلتنا نستيقظ على دوي
سقوط النموذج الحضاري والثقافي الغربيّ. ليس من المبالغة القول إنّ الغرب، مع
مواقفه مما يحصل في غزة، لن يعود- كما كان- يرسم للكثير من العرب والمُسلمين
أفقَهم الفكريّ والأخلاقيّ. وكأنّنا بلسان حال أميركا وأوروبا يقول ما قالَه
هانتغتون قبل عقدَين من الزّمن: "إنّ القيم التي نبشّر بها قيمٌ مخصوصة بنا،
لا بغيرنا، قيم تنسحب أفضالُها علينا، لا على غيرنا".
إنَّ
ما يحصل في غزة يؤكد لنا بالملموس أنّ سعي الغرب لفرض نمطه الحضاريّ لا يدخل في
إطار حرصه على إعلاء قيم أخلاقية؛ تعميمًا للمصلحة أو جلبًا للمنفعة؛ بل إنّ
المصلحة عنده لازمة، غير متعدّية. ذلك ما يتجلّى لنا اليوم على مستوى التكنولوجيا
في المقام الأوَّل. فالوسيلةُ التكنولوجيةُ- في يد القوى الغربيّة المهيمنة- ليست
وسيلةً محايدةً، تنقل حقيقةَ ما يقعُ؛ بل صارت مجرّد خوارزميات يتمُّ بواسطتها التحكم
في صناعة الواقع والترويج لصورةٍ من صوره. فلعلّ الدرس الأول المستفاد من حرب غزة،
هو أنَّ التكنولوجيا ليست مجرد أدوات نستعملها لنقل الواقع؛ بل هي على الحقيقة
أداة في خدمة منظومة أخلاقيَّة تبيح "حجب المحتوى" الذي لا يتناسبُ مع
الواقع كما يُرادُ له أن يكون، لا كما هو في حدّ ذاته.
هذا
فيما هو مرتبطٌ بمؤسّسات التكنولوجيا الغربية اليوم، وعَلاقتها بصناعة الواقع
وتشكيل الوعي به داخل عوالم التواصل الاجتماعيّ. أمّا الإعلام التقليدي- الذي
يعتبر جهازًا من أجهزة الدول الأيديولوجيّة- فقد أثبتت الحرب على غزة، بما لا يدع
مجالًا للشكّ، أنَّ دوره صار مقصورًا على تأطير الوعي، وقوفًا عند أسئلة معيّنة
تحدّد وجهة للأجوبة. لقد صارت القنوات التلفزيونية الأوروبية والأميركية توظف
مهنيّتها العالية بغرض التعتيم على الخبر الذي لا يخدم السردية الرسمية المبرِّرة
لمنطق الهجوم العسكري الصهيوني
الذي لا يقفُ عند حدّ.
ليتَ
ضرر الإعلام الرسمي الغربي يقف عند حدّ التعتيم على ما يجري في غزة من أحداث، لا
يقبلها الضمير الإنساني؛ بل إنّ هذا الإعلام صار الراعي الرسمي لما يقعُ من انزلاق
بلاغي خطير تُمحَى معه الخطوطُ الفاصلة بين الإرهاب والمقاومة، ومعاداة السامية
والإسلام والمُسلمين. لقد ساهمت أحداث غزة في حلّ عقدة ألسنة لا ينهاها الحياء عن
اعتماد بلاغة استعمارية إمبريالية، كنا نظنّ أنَّ البشرية قطعت شوطًا في الابتعاد
عنها. ما معنى أن يتجرأ "فريدريش ميرتس" رئيس الحزب المسيحي الديموقراطي
الألماني ليصرِّح بالتّالي: "إذا كان هناك لاجئون من قطاع غزة، فهذا أمر يخصّ
دول الجوار. أمّا ألمانيا فهي غير معنية بذلك، ولا تستطيع استيعاب مزيدٍ من
اللاجئين؛ ذلك أن لدينا ما يكفي من الشباب المُعادي للسامية".
لقد
ساهمَ الإعلام الغربيّ، بانزلاقاته البلاغية الخطيرة، في التمكين لخطاب متطرف
تملؤُه الكراهية والخلط والتعميم. وإلا فما الذي يُجرّئ سياسيًا، محسوبًا على
العمل السياسي المعتدل، على التلفظ بما تلفظ به من عبارات لا تقف عند حدّ تصوير
الشعب الفلسطيني وكأنه وحدة متجانسة لا يجمعها سوى معاداة السامية، بل تتعدّى ذلك
إلى الهمز واللمز بالدول المجاورة، بوصفها المكان المناسب لاستقبال هذا الصنف من
الشعوب، ثمَّ الإشارة إلى وجود فئة عريضة من المواطنين داخل ألمانيا- "ما
يكفي"- ممن يحسبون على معاداة السامية.
هذا
غيض من فيض من ضروب التجاوزات البلاغية التي أصبحت تطبع الخطاب السياسي المهيمن،
وهي تؤشر على أوقات عصيبة تنتظر المسلمين عمومًا في السياق الغربيّ، وكأننا بقوى
خفية تستدرجنا نحو حرب حضارية، طرفاها الغرب من جهة، والإسلام من جهة أخرى. إن
أخطر ما يمكن أن يقع قد وقع، ألا وهو التمكين لبلاغة تصور بأن الصراع الدائر بين الصهاينة
والفلسطينيين هو صراع بين الحضارة
والتوحّش، بين قوى الديموقراطية وقوى تعادي الديموقراطية. لقد أصبح العالم بموجب
هذا الوعي المانوي الخطير يستسيغ بلاغة أشبه بالبلاغة النازية، وهي تحرّض ضد
اليهود قبل المحرقة، حتى صرنا نسمع عبارات في حق المسلمين من قبيل: "أغلقوا
مساجدهم"، أو "أغلقوا متاجرهم"، أو "أخرجوهم من بين
ظهْرانَيكم".
إنَّ
تحليل الخطاب الإعلامي الغربي يَشي بأنَّ أميركا وأوروبا تفقدان كلّ نقاط
الاسترشاد للسير في طريق المستقبل، ولذلك نراهما تتمسكان ببلاغة هي أقرب إلى بلاغة
إمبريالية القرن التاسع عشر، منها إلى بلاغة جديدة تفتح أفقًا سياسيًا يضمن
التعايش بين مختلف مكوّنات المنطقة.
إذا
كان ما يصدر عن النّخب السياسيّة الغربيّة المتحكّمة اليوم يدعو إلى القلق
والتشاؤم، ويعِد بمزيدٍ من الدمار والإبادة، فإنَّ ما يصدر عن الشعوب- هنا وهناك،
من ردود أفعال طبيعية تشجب ما يحصل في غزة من قتل بطيء للأبرياء- يبعثُ على الأمل،
الأمل في أن يلتحم الناس، بغض النظر عن انتماءاتهم الجغرافيّة والثقافيّة
والحضارية؛ بحثًا عن أفق جديد للتعايش، واستشرافًا لنظام عالمي يخلُف النظام
المتهالك.
سمات
الخطاب الإعلامي الغربي تجاه الأزمة الراهنة
من
الملاحظ أن تناول الإعلام الغربي للأحداث الأخيرة يقوم على عدد من السرديات أو
الثيمات التي يروج لها الكيان الصهيوني ، ويتم تناولها بشكل متكرر في الإعلام
الغربي، في محاولة لتشكيل خطاب ذي سمات محددة حول الصراع الحالي في الأراضي
المحتلة. ونرصد هنا "ثيمات" تضمنها الخطاب الإعلامي الغربي منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى تاريخ كتابة هذا التحليل:
-
هجوم7 أكتوبر إرهابي: حرصت وسائل الإعلام الصهيونية
والغربية على وصف هجوم حماس على عدة مواقع للكيان الصهيوني بأنه "هجوم
إرهابي" من قبل "مليشيا" أو "جماعة مسلحة" ضد مدنيين
عُزل.
-
هجوم حماس غير مبرر: ردد الإعلام الغربي، خاصة الأمريكي، سردية أن حماس هي التي
بدأت بـ "العدوان" وأن هجوم حماس هجوم غير مبرر، دون أي إشارة إلى
مسئولية السياسات الصهيونية عما وصلت إليه الأمور وصولاً إلى هذا الهجوم، وأنها
بالتالي (أي الكيان الصهيوني ) لها كامل الحق في الرد على هذا الهجوم كيفما تشاء.
-
هجوم 11سبتمبر جديد: شبهت وسائل الإعلام الغربية هجوم7 أكتوبر 2023 بأحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية ولقبته بـ "هجوم11 سبتمبر الصهيوني ، مع التأكيد على التشابه بين
الحدثين من حيث قيام "جماعة إرهابية" باستهداف مواطنين عزل، ونجاحها في
قتل عدد كبير منهم تدفعهم أيديولوجية دينية متطرفة. ويهدف هذا التشبيه إلى خلق
حالة من التعاطف والتماهي بين المواطن الأمريكي والمواطن الصهيوني، وخلق انطباع
بأن الطرفين يواجهان نفس العدو ونفس المخاطر؛ حيث يصبح الاستنتاج المنطقي -وفق هذه
السردية الغربية- وجوب التضامن مع الكيان الصهيوني .
-
حرب بين حماس والكيان الصهيوني : هناك حرص على تصوير الأحداث الراهنة على أنها حرب
بين حماس والكيان الصهيوني وليست حرباً بين الكيان الصهيوني والشعب الفلسطيني
المحتل، بل هناك حرص على تصوير هذا الصراع على أنه صراع بين "دولة
ديمقراطية" ذات سيادة من ناحية، و"جماعة إرهابية" من ناحية أخرى.
-
حماس جماعة إسلامية متطرفة: قام الإعلام الغربي بتصوير حركة حماس على أنها امتداد
لجماعات إسلامية متطرفة مثل "القاعدة" و"داعش"، تدفعها
أيديولوجية دينية متشددة معادية للغرب وللسامية، وتتبنى رؤية دينية راديكالية
تتجاوز الواقع الفلسطيني وخصوصيته، وذلك في محاولة للفصل بين حماس من ناحية وبين
أهداف مقاومة الاستعمار والتحرر الوطني من ناحية أخرى.
-
حماس لا تمثل الفلسطينيين أو القضية الفلسطينية: هناك حرص على التأكيد على أن حماس
"جماعة إرهابية" لا تمثل المواطن الفلسطيني، وأنها قامت باختطاف غزة
وبفرض إرادتها على سكان القطاع، وأن الهجوم الذي قامت به لا يمثل جزءاً من
المقاومة الشرعية للاحتلال.
-
غزة ليست محتلة وحماس كان لديها خيارات أخرى: هناك سردية يتم التأكيد عليها في
الإعلام الغربي بأن الكيان الصهيوني قام بالانسحاب من غزة عام 2005، وبالتالي فإن قطاع غزة لم يعد محتلاً من جانبه ؛ لذا فإن هدف
مقاومة الاحتلال- وفقاً لذلك- لا ينطبق على حالة غزة.
أهم
اتجاهات تغطية الإعلام الغربي
ظهرت
اتجاهات أساسية لتغطية الصحف ووسائل الإعلام الغربية منذ بدء عملية “طوفان الأقصى”
في صباح يوم 7 أكتوبر 2023 عكست بشكل واضح مدى الصدمة التي تعرضت له الكيان الصهيوني ومن ورائها العالم الغربي جراء الهجوم، ومدى
الاندفاع في تبني الرواية الصهيونية إزاء
ما يحدث، وصولًا إلى محاولة تحليل ذلك الهجوم ومساراته المستقبلية. وتتمثل هذه
الاتجاهات فيما يلي:
-
الحديث عن جرائم بحق المدنيين الصهاينة
-
الإخفاق الاستخباراتي والأمني الصهيوني
-
كيفية تنفيذ الهجوم
-
دوافع الهجوم
-
تبرير الجرائم الصهيونية
أدوات
الانحياز للكيان الصهيوني
-
توظيف
مصطلحات “الحرب على الإرهاب
-
تزييف
الحقائق وترويج الأكاذيب
-
توظيف الصورة
-
الحياديّة الشكلية
الإشكاليات
والأبعاد الأيديولوجية لتغطية الإعلام الغربي للحرب الصهيونية
لعل
السبب الواضح في تحيز الإعلام الغربي للكيان الصهيوني، يعود في مجمله إلى القوة
غير المتوازنة بين فلسطين والكيان الصهيوني. فالكيان الصهيوني وللأسف دولة معترف
بها دولهم وتتمتع بعلاقات
تجارية وعسكرية ودبلوماسية قوية مع الغرب، على عكس فلسطين. كما يُنظر إلى ما يسمي
دولة الكيان الصهيوني على أنه ديمقراطية غربية وحيدة الشرق الأوسط، وذلك على الرغم
من أنها قوة احتلال وتحتجر الملايين من السكان الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية،
في ظروف وصفتها جماعات حقوق الإنسان والأمم المتحدة بـ ” فصل عنصري”، لا يتمتع فيه
الفلسطينيون حتى بالحقوق الأساسية.
التحيزات
المؤيدة للكيان الصهيوني في وسائل الإعلام
الغربية تعد انعكاسًا للارتباط السياسي الأوسع بين الكيان الصهيوني والحكومات الغربية، ويساعد الكيان الصهيوني ، عن
عمد أو غير ذلك، على الإفلات من جرائمها التي لا يتم حتى الاعتراف بها كجرائم، في
ظل الدعم الأمريكي والغربي والصمت الدولي. وبينما تقوم الولايات المتحدة بإرسال
الأسلحة والذخيرة إلى الكيان الصهيوني ، توقفت المساعدات الغربية عن التدفق إلى
غزة حيث الأسر والأطفال في أمس الحاجة إليها. وخلق المزيد من عدم التوازن لن يؤدي
إلا إلى التصعيد وخسارة الأرواح البشرية، كما أنه يؤخر أي إمكانية للتوصل إلى حل
شامل.
هذا
إلى جانب أن الإعلام يقوم في دعايته على تصوير الكيان الصهيوني بأنه دولة حرة وديمقراطية ذات سيادة، وتبذل
قصارى جهدها للحد من الخسائر في صفوف المدنيين. حيث تستهدف القضاء على البنى
التحتية والعسكرية لحماس والفصائل الفلسطينية مثل منصات إطلاق الصواريخ ومستودعات
الأسلحة. وتتبع تكتيك “طرق الأسطح” لتحذير المدنيين من خلال الرسائل النصية أو
المكالمات الهاتفية لإخلاء مبنى قبل استهدافه للتدمير. بينما تتعمد حماس تعريض
المدنيين الفلسطينيين للخطر، وتخزين الأسلحة في المناطق المدنية، حول المنازل
والمدارس والمساجد والمستشفيات.
فقد
تجاهلت المواقف المبدئية للإعلام الغربي، في تغطيته للحرب في غزة، دوافع الصراع
الفلسطيني الصهيوني والانتهاكات التي
تمارسها قوات الاحتلال بحق الفلسطينيين يوميًا، والاعتداءات على المسجد الأقصى.
ولو ابتعدنا قليلًا، سندرك أن الإعلام الغربي تناسى أن هناك 75سنة من الاحتلال والقهر والإذلال والتنكيل، وتناسى أن هناك 16 عامًا من حصار غزة غير الإنساني وغير الشرعي. والتزم الصمت لعقود
بشأن الاحتلال العسكري الوحشي والفصل العنصري الذي يمارسه الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين. وبالتالي فإن التحيز المؤيد
لإسرائيل يظل منهجًا، وهو سمة، وليس خطأ في وسائل الإعلام الغربية.
لكن
رغم هذا يمكن أن نعتبر أن تغيرًا لافتًا بدأ في التشكل تدريجيًا في نظرة الإعلام
الغربي للملف الفلسطيني، بالنظر إلى تفضيل معظم وسائل الإعلام الغربية عدم الإشارة
إلى عناصر الفصائل الفلسطينية على أنها عناصر إرهابية، رغم أن بعض الدول التي
تنتمي لها وسائل الإعلام هذه، تصنف الحركة كتنظيم إرهابي. هذا التوجه يعتبر
إيجابيًا من حيث المبدأ، ويضاف إليه بدء الفتح التدريجي لبعض الأصوات الفلسطينية
كي توضح وجهة النظر الفلسطينية، وهي جميعها تطورات لا يمكن أن تتوازن مع التأثير الصهيوني
الطاغي على وسائل الإعلام الغربية، التي لا يمكن تصنيف تغطيتها للملف الفلسطيني
إلا كتغطية منحازة للصهاينة إلا أن
التغيرات السالف الإشارة إليها تبقى مهمة ويمكن البناء عليها في قادم الأيام،
خاصةً مع توالي الانتهاكات والجرائم الصهيونية في قطاع غزة، بما يحتم وضع هذه الفظائع
الإنسانية في مقدمة التغطية خلال الفترة المقبلة.
المراجع
_ خالد حاجي، 29.10.2023، كيف
نقرأ الإعلام الغربي في زمن الحرب على غزة، الجزيرة.
_ دينا شحاتة، 23.10.2023، الإعلام
الغربي تجاه الأزمة الراهنة في غزة، مركز الاهرام.
_ محمد عبد الرازق، 14.102023، اتجاهات
الصحف الغربية في ظل الحرب على قطاع غزة، المركز المصري.