القانون الدولي والاستخدام الآمن للطاقة النووية
فرع بنغازي

في 11 مارس عام 2011 هز زلزال عنيف بقوة 8.9 على سلم ريختر، مناطق عديدة شرق اليابان، متبوعا بموجات تسونامي البحري، وسارعت وكالات الأنباء لتناقل الخبر، ومحاولة تقدير الخسائر البشرية والمادية الناجمة عنه إلا أنه في اليوم الموالي، طغى خبر آخر على خبر الزلزال، إنه خبر إصابة محطة فوكوشيما النووية بأضرار بالغة، وتعطل أنظمة التبريد بمفاعلاتها النووية، الأمر الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى انفجار نووي رهيب، يسبب أضرارا كارثية تتجاوز أضرار الزلزال، وتمتد إلى مناطق بعيدة عن اليابان.

أعاد هذا النبأ إلى الأذهان ذكريات المجزرة التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية بإلقاء القنبلة النووية على مدينتي هيروشيما و ناكازاكي اليابانيتين صيف عام 1945، كما وضع قاب قوسين أو أدنى جهودا دولية حثيثة، بذلت على المستوى الدولي و الإقليمي، و على مدى أكثر من ستين عاما، لإرساء قواعد قانون دولي نووي ينظم مسائل السلامة و الأمن النووي اتضحت قواعده عقب حادثة المفاعل النووي تشرنوبيل بالاتحاد السوفياتي سابقا، عام 1986.

لقد كان إنشاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 1957 حدثا بارزا في مسار تقنين قضايا استخدام الذرة، حيث اضطلعت الوكالة بمهمتين رئيسيتين، تمثلتا في السعي لوقف سباق التسلح النووي، ومنع  انتشار الأسلحة النووية من جهة، و تقديم المساعدة للدول من أجل تسخير الذرة في المجالات السلمية من جهة أخرى، و توجت جهودها بالتوصل لعديد المعاهدات الدولية و الإقليمية تتعلق بمجالات وقف التسلح النووي و الاستخدام السلمي للطاقة النووية.

فرغم المزايا الخاصة و الاستخدامات السلمية المتعددة التي تحققت عمليا في دول كثيرة، خاصة مجالات توليد الكهرباء، و تحلية مياه البحر،و الاستخدامات الصناعية و الزراعية و الطبية الأخرى إلا أن الطبيعة الخاصة للأضرار النووية، و ضيق المساحة الرمادية بين الاستخدام السلمي و غير السلمي لهذه الطاقة كان ملازما للبحث عن تنظيم قانوني دولي يضمن للبشرية الاستفادة من مزايا الطاقة النووية و يجنبها المخاطر التي قد تنجم عن سوء استخدامها.

و يمكن تقسيم محاور الاهتمام الدولي بتنظيم قضايا الذرة إلى ثلاث مراحل أساسية :

-المرحلة الأولى: تبدأ من تاريخ إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما إلى تاريخ حادثة تشرنوبيل ،و تركز فيها الاهتمام على قضايا السلاح النووي ، و إرساء قواعد المسؤولية المدنية عن الأضرار النووية.

-المرحلة الثانية: تبدأ من حادثة تشرنوبيل لتمتد إلى أحداث 11 سبتمبر 2001 ،حيث حازت مسائل الحمايــــة و الأمان النووي قسطا وافرا من الاهتمام الدولي و تم التوصل إلى عدد من الاتفاقيات و الصكوك الدولية في مجالات أمان المفاعلات النووية و أمان النقل و التخزين للمواد النووية،و أمان التصرف في النفايات النووية.

-المرحلة الثالثة: تبدأ مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ،و بروز تحديات جديدة أمام المجتمع الدولي دفعت للبحث عن سبل مواجهة الإرهاب النووي،و التعاون الدولي للتحكم في اليورانيوم عالي التخصيب من خلال محاولات تدويل دورة الوقود النووي.

وإذا كانت قضايا الذرة قد حازت كل هذا الاهتمام، و نالت قسطا معتبرا من التقنين على المستوى الدولــي و الإقليمي، فهل يمكن اعتبار أن القانون الدولي قد توصل إلى حصر مجالات الاستخدام الآمن للطاقة النووية، في ظل التحولات التي تعرفها التكنولوجيا النووية، و الأحداث المفاجئة التي تهز الاستقرار و الأمن النووي؟

تلك هي الإشكالية التي نود مناقشتها في هذه الورقة البحثية من خلال المحاور الأربعة التالية:

أولا: المسؤولية المدنية عن الأضرار النووية

من أولى المسائل التي أثارت الاهتمام في أوروبا نتيجة الانطلاق في مشاريع مشتركة لاستغلال الطاقة النووية السلمية، مسألة تحديد المسؤولية عن الأضرار النووية، فأبرمت في هذا الإطار أربع اتفاقيات دولية هي:

-الاتفاقية المتعلقة بالمسؤولية من قبل الغير في ميدان الطاقة النووية (اتفاقية باريس) عام 1960 تم التوصل إليها بالتعاون المشترك بين وكالة الطاقة النووية(AEN) ومنظمة  التنمية و التعاون في الميدان الاقتصادي ((OCDE، و دخلت حيز النفاذ عام 1968.

– اتفاقية بروكسل المكملة لاتفاقية باريس عام 1963، دخلت حيز النفاذ عام 1974.

– اتفاقية بروكسل المتعلقة بمسؤولية مشغلي السفن النووية عام 1963

– الاتفاقية المتعلقة بالمسؤولية عن الأضرار النووية (اتفاقية فيينا) عام 1963،المبرمة برعاية الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

حددت الاتفاقيات قواعد التعويض عن الأضرار التي يمكن أن تسببها المشاريع المشتركة التي شرع فيها لاستغلال الطاقة النووية في أوروبا ، بتحميل مشغل المنشأة النووية المسؤولية المطلقة عن الضرر الحاصل بما في ذلك الموت، و الأضرار التي تلحق بالممتلكات غير المنشأة النووية ذاتها، و ضمان تعويض كاف و عادل للمتضررين من الحوادث النووية.

و تعد حادثة تشرنوبيل عام 1986 بمثابة منعطف حاسم في تاريخ استخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية إذ  تأكد للعالم أن هذه الطاقة تتطلب إجراءات حماية غير عادية،كما تتطلب تحميل الدولة المسؤولية في حال عدم كفاية الضمان المالي الذي يقدمه مشغل المنشأة النووية بالإضافة إلى واجب الإعلام الذي سنتعرض له لاحقا.

دفع هذا الحادث إلى توحيد قواعد المسؤولية عن الأضرار النووية الواردة في الاتفاقيات سالفة الذكر ،إذ تم إبرام البروتوكول المشترك بين اتفاقيتي باريس و فيينا عام 1988،دخل حيز النفاذ في أبريل 1992، أقر بمسؤولية الأفراد و الدول على السواء،كما أقر نظام التأمين الإلزامي الذي من شأنه أن يكفل تعويضا عادلا للمتضرر من الحادث النووي.

في عام 1997 تم التوصل إلى بروتوكول تعديل اتفاقية فيينا بشأن المسؤولية عن الأضرار النووية، الذي حدد مفهوم الضرر النووي، و وسع النطاق الجغرافي لاتفاقية فيينا،ليشمل أراضي الدول المتعاقدة ،و المناطق البحرية المحمية، و المناطق الاقتصادية الخالصة كما نص على الولاية القضائية للدول الساحلية على الأنشطة التي تلحق بها أضرار نووية خلال عمليات النقل للمواد النووية، و مدد الفترة الزمنية التي يجوز خلالها المطالبة بالتعويض عن الضرر النووي لضمان رصد الموارد المالية الكافية أنشئت تجمعات خاصة بالمؤمنين(pools nucleaires) تتكفل بجمع أقساط التأمين للتعويض عن الأضرار النووية.

و ما يمكن الإشارة إليه في هذا الإطار أن كلا من اتفاقية باريس و اتفاقية فيينا تضمنتا إعفاء المشغل من المسؤولية في حالات النزاع المسلح أو الحرب الأهلية أو العصيان المسلح بالإضافة إلى حالة الكوارث الطبيعية كالزلازل و الفيضانات استنادا إلى فكرة القوة القاهرة أما بروتوكول تعديل اتفاقية فيينا فقد استثنى من حالات الإعفاء الحالة المتعلقة بالكوارث الطبيعية  .

و في نفس العام تم التوصل إلى اتفاقية التعويض التكميلي عن الضرر النووي التي أقرت نظاما شاملا للتعويض عن الأضرار النووية ،يأخذ في الاعتبار ضخامة الخسائر التي يمكن أن تنجم عن الأضرار النووية فأقرت الاتفاقية ميكانيزمات التعويض التكميلي عن الضرر النووي على مرحلتين: في المرحلة الأولى تتكفل الدولة التي توجد بها المنشأة النووية بدفع مبلغ أقصاه 300 مليون حقوق سحب خاصة  

باستقراء مجمل الاتفاقيات الإطارية المتعلقة بالمسؤولية عن الأضرار النووية نلاحظ أنها قد عرفت تطورا ملحوظا من خلال بروتوكولات التعديل التي مست جوانب هامة تتعلق برصد المبالغ المالية الخاصة بالتعويض عن الأضرار النووية إلا أن ما يمكن تسجيله بخصوص فعالية هذه الاتفاقيات أنها جاءت منذ البدايات الأولى لاستغلال الذرة في المجتمعات الأوروبية، و بقيت محصورة في هذا النطاق الجغرافي ،أو لم تدخل مرحلة النفاذ ، لكون دول عديدة تطمح للحصول على الطاقة النووية السلمية لكنها لا تستطيع الوفاء بالتعهدات المدرجة في هذه الاتفاقيات ، الأمر الذي يثير تناقضا على المستوى الدولي بخصوص قواعد المسؤولية المدنية و التعويض عن الأضرار النووية في ظل عدم وجود قانون نووي وطني في كثير من الدول النامية، ينظم قواعد المسؤولية المدنية و يكفل التعويض العادل للمتضررين.

ثانيا: منع الانتشار النووي ووقف التفجيرات النووية

تشكل معاهدة عدم الانتشار النووي لعام 1968 أهم وثيقة دولية يقوم عليها النظام القانوني الدولي للحد من انتشار الأسلحة النووية، و وقف سباق التسلح النووي بالإضافة إلى معاهدات إقليمية تتعلق بإخلاء مناطق من العالم من الأسلحة النووية، و معاهدات أخرى تتعلق بوقف التفجيرات النووية.

1- معاهدة عدم الانتشار النووي:

تقوم المعاهدة على أساس التمييز بين الدول نووية التسليح و الدول غير نووية التسليح، حيث اعتبرت المعاهدة صك توافقي بين المجموعتين، تلتزم بموجبه الدول النووية بوقف سباق التسلح النووي، و السعي بحسن نية للتوصل إلى نزع السلاح النووي ، و بالمقابل تلتزم الدول غير نووية التسليح بعدم السعي لامتلاك أسلحة نوويــة و قصر برامجها النووية على الاستخدامات السلمية، مع الاستفادة من مساعدات الوكالـــة الدولية للطاقة الذرية ، و الخضوع لنظام رقابي صارم ،سمي بنظام ضمانات الوكالة .

واعتبارا أن المعاهدة أصبحت ابتداء من عام 1995 معاهدة دائمة  ،تقوم على مناقشة المسائل العالقة في مؤتمرات استعراضية كل خمس سنوات فإن أهم القضايا و الطموحات التي قامت عليها مازالت لحد الساعة محل نقاش وعدم توافق في ظل تصلب مواقف الدول بخصوص تفسير نصوص المعاهدة .

من أهم المسائل التي حظيت باهتمام بالغ في المؤتمرات الاستعراضية الأخيرة (2005-2010) مسألة تفسير المادة الرابعة من المعاهدة و حق الدول الأطراف غير نووية التسليح في امتلاك دورة وقود نووية كاملة تؤهلها للانطلاق في برنامج نووي سلمي متكامل. و بالطبع يعتبر البرنامج النووي الإيراني و التجاذبات التي يعرفها على المستوى الدولي واجهة لهذا المطلب الذي ينعكس على أغلب الدول النامية.

بالإضافة للمطلب المتعلق بالحق غير القابل للتصرف في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية أثيرت انتقادات جوهرية أخرى منها ما يلي:

– اعتبار نظام ضمانات الوكالة نظام انتقائي، على اعتبار أن الدول نووية التسليح بمفهوم المعاهدة غير ملزمة بهذا النوع من الاتفاقات كما أن الدول غير الأطراف في معاهدة عدم الانتشار لا تخضع لأي نوع من أنواع الرقابة التي تجريها الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلا بمحض إرادتها في هذا الإطار يشكل البرنامج النووي للكيان الصهيوني حجر عثرة في سبيل التوصل لمعاهدة يتم بموجبها اعتبار منطقة الشرق الأوسط منزوعة السلاح النووي.

– عدم التوصل إلى أي نوع من الضمان السلبي يرقى إلى مرتبة الالتزام القانوني المتعهد به من طرف الدول نووية التسليح بعدم التهديد أو استخدام السلاح النووي ضد دولة لا تملكه.

– عدم وفاء الدول نووية التسليح بتعهداتها بموجب المادة السادسة من المعاهدة رغم الاتفاق في مؤتمر استعراض المعاهدة عام 2000 على مجموعة من الخطوات الواجب إتباعها للنزع الكلي للأسلحة النووية

2- معاهدات المناطق الخالية من الأسلحة النووية:

نتيجة تعثر جهود نزع السلاح على المستوى العالمي في الفترة من 1947 إلى 1958 ، لعدم التوافق بين كلا من الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفياتي، تم التركيز في الفترة التالية على النهج الإقليمي، فعرف العالم لأول مرة فكرة المناطق منزوعة السلاح عام 1959 عندما تم التوصل لمعاهدة “انتراكتيكا” الخاصة بجعل المنطقة القطبية الجنوبية خالية من كافة الاستخدامات العسكرية ، سواء النووية أو التقليدية ،توصلت بعدها عدد من الدول في إطار إقليمي إلى معاهدات اعتبرت بموجبها مناطق من العالم منزوعة السلاح النووي تمثلت أهم المعاهدات فيما يلي:

أ‌- معاهدة تلاتيلولكو :كانت أول معاهدة دولية تتعلق بإخلاء منطقة آهلة بالسكان من الأسلحة النووية ،كما أنها أول معاهدة نزع سلاح تنص على قيام منظمة دولية بعملية التفتيش و التحقق من الالتزام ببنودها . و رغم أن المعاهدة دخلت حيز النفاذ القانوني في 25 أبريل 1969 ،إلا أن تنفيذها فعليا لم يبدأ إلا في ماي 1994 عندما صدقت البرازيل عليها،حيث أن المعاهدة كانت تواجه صعوبات سياسية بين دول المنطقة.

ب‌-معاهدة راروتونغا: أبرمت المعاهدة بين دول جنوب الباسيفيكي في أغسطس 1985 و دخلت حيز النفاذ في 11 ديسمبر 1986،و يمكن تحديد نطاقها الجغرافي بالمنطقة الممتدة من الساحل الغربي لأستراليا إلى الحدود الغربية لمنطقة أمريكا اللاتينية .

ج- معاهدة بليندابا: تتعلق المعاهدة باعتبار القارة الإفريقية منطقة منزوعة السلاح النووي،تم التوقيع عليها   إبريل عام 1996 ،في إطار منظمة الوحدة الإفريقية، إلا أنها لم تحظ بتصديق سوى دولة لحد الآن ،في حين أنها تستلزم تصديق 28 دولة لتدخل مرحلة النفاذ.

بالإضافة للمعاهدات الثلاثة أبرمت معاهدات أخرى لاحقا منها معاهدة بانكوك بين دول منظمة الآسيان (ASEAN) جنوب شرق آسيا (1997)،و المعاهدة بين دول آسيا الوسطى و هي الدول الناشئة عن تفكك الاتحاد السوفياتي سابقا (2006).

و ما يمكننا إثارته بشأن هذه المعاهدات أنها تجنب مناطق كبيرة من العالم خطر الأسلحة النووية ،كما أنها تمكن الدول من تسخير مواردها المالية لجهود التنمية ،و مواجهة الفقر و الجوع و الأمراض التي تعتبر مظاهر مميزة لهذه المناطق.

أما بخصوص فعاليتها على المستوى الدولي فإنها تبقى ناقصة ما دام أنها لا تضم في عضويتها دولا نووية التسليح،أو دولا عظمى لذلك أرفق أغلبها ببروتوكولات إضافية تتعلق بتعهد الدول نووية التسليح بعدم الاعتداء بالسلاح النووي على هذه المناطق،و عدم مساعدة أي دولة من الدول الأعضاء على امتلاك تقنية الأسلحة النووية.

3- معاهدات حظر التجارب النووية

أبرمت عدة معاهدات للحد من التجارب النووية أهمها ما يلي:

أ‌- معاهدة حظر تجارب الأسلحة النووية في الجو و في الفضاء الخارجي و تحت الماء (1963)

وقع على المعاهدة كلا من الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفياتي سابقا و المملكة المتحدة،دخلت حيز النفاذ ابتداءا من 10 أكتوبر 1963 ،انضم إليها فيما بعد أكثر من 100 دولة.

تحظر المعاهدة على أطرافها القيام بأي تفجيرات لتجارب أسلحة نووية في المجالات الثلاث إذا كان التفجير يؤدي إلى وجود مخلفات مشعة خارج الحدود الإقليمية للدولة التي يجري فيها التفجير .

ب ‌-معاهدة التفجيرات النووية السلمية (1976):هي معاهدة ثنائية بين الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفياتي سابقا،وقعت عام 1976 ، هدفها تحديد التفجيرات النووية السلمية ، و لم تدخل مرحلة النفاذ في 11 ديسمبر1990 إلا بعد الاتفاق على بروتوكول إضافي حسم مسألة الرقابة المتبادلة على التفجيرات.

ج- معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (1996): فتح باب التوقيـع على المعاهدة في أول سبتمبر 1996، و رغم أن عدد الدول الموقعة عليها في تزايد مستمر27، إلا أنها لم تدخل حيز النفاذ لعدم اكتمال تصديقات الدول الأربعة و الأربعين المنصوص عليها في المعاهدة.و رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تجر أي تفجير نووي منذ التوقيع على المعاهدة، إلا أنها تمتنع عن التصديق عليها ومن شأن هذا التصديق أن يبعث الثقة في المجتمع الدولي و يوفر إمكانية حقيقية للتوصل إلى التزام قانوني نهائي يضع حدا للتجارب النووية .

و على الرغم من العدد المعتبر من المعاهدات المتعلقة بوقف التجارب النووية،فقد تم إجراء أكثر من 2000 تفجير نووي في الفترة من 1945 إلى 1998 ،كان للولايات المتحدة الأمريكية النصيب الأوفر منها بمجموع 1050 تجربة،و كان آخر هذه التجارب،التجربة التي نفذتها كوريا الشمالية في 06 أكتوبر عام 2006 29.

ثالثا: الحماية المادية و الأمان النووي

رغم أن مسألة الحماية المادية للمواد النووية كانت ضمن الاهتمامات الدولية منذ التوصل لمعاهدة عدم الانتشار النووي  ،إلا أن حادثة تشرنوبيل عام 1986 شكلت قناعة على المستوى الدولي بضرورة تعزيز إجراءات الحماية و الأمان النووي،إذ أن الحادثة كشفت عن ثغرات كانت تحيط بمجالات الاستخدام السلمي للطاقة النووية.

فبعد أشهر قليلة من الحادثة تم التوصل في 26 سبتمبر 1986 لاتفاقيتين هما: اتفاقية التبليغ المبكر عن وقوع حادث نووي، و اتفاقية تقديم المساعدة في حالة وقوع حادث نووي أو طارئ إشعاعي.

تَركزَ هدف الاتفاقيتين على واجب التبليغ للوكالة الدولية للطاقة النووية، و الدول التي أضيرت أو يحتمل أن تضار ماديا من الحادث النووي،و واجب تقديم معلومات عن الحادث النووي و طبيعته و وقت حدوثه و موقعه بالتحديد ،هذا بالإضافة إلى واجب الدول الأخرى بالبت فورا في شأن طلب المساعدة الذي تقدمه الدولة أو الدول المعنية بالحادث النووي.

و قد جاءت هاتين الاتفاقيتين كنتيجة منطقية للتعتيم الإعلامي الذي تعمدته السلطات السوفياتية حول حادث تشرنوبيل،و التي كان من الممكن تفادي بعض آثارها لولا ذلك التعتيم.

وتكملة  للوثائق الدولية المتعلقة بمجال الأمان النووي أبرمت اتفاقية الأمان النووي عام 1994 التي تركزت على هدف بلوغ مستوى عال من الأمان في المنشئات النووية، و تعزيز التدابير الوطنية، و التعاون الدولي، و إنشاء دفاعات فعالة في المنشئات النووية، كما تم التوصل لاتفاقية أمان التصرف في الوقود المستهلك و أمان التصرف في النفايات المشعة عام 1997 التي نصت على معايير الأمان اللازمة في تصميم مرافق التصرف في الوقود المستهلك، و حددت متطلبات الأمان للتصرف في النفايات المشعة.

و من أهم المعضلات التي أفرزتها أحداث 11 سبتمبر 2001، إمكانية وصول مجموعات إرهابية للأسلحة النووية، سواء بالتعاون العلمي و التقني مع جهات تتحكم في هذه التقنية أو من خلال السطو على مواد نووية من المرافق أو السفن النووية.

 

إن هذا التحدي أصبح يشكل هاجسا أمنيا معتبرا،خاصة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ،التي سخرت كل جهودها لمواجهة خطر الإرهاب النووي، فدفعت الجهود الدولية لاعتماد الاتفاقية الدولية لقمع أعمال الإرهاب النووي عام 2005، التي نظمت مسائل تبادل المعلومات بين الدول الأطراف، و تسليم المجرمين تكييف القواعد الوطنية للمعاقبة على الجرائم المعتبرة في الاتفاقية أنها متصلة بالإرهاب النووي.

و لم تتوقف جهود الولايات المتحدة في هذا الإطار، فمازالت تسعى بكل الوسائل لمنع وصول المواد النووية لمجموعات من غير الدول أو حتى لدول تعتبرها ضمن محور الشر الذي أسس له جورج بوش الابن عقب أحداث سبتمبر 2001 .

من أهم المقاربات التي تحظى بتأييد و توجيه الولايات المتحدة الأمريكية، المقاربة المتعلقة بتدويل دورة الوقود النووي، التي كانت من الأهداف التي قامت عليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 1957 ،و أُعيد إحيائها عام 2003 من طرف المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي، الذي صرح أن الكثير من المعدات المتوافرة في السوق ذات طبيعة مزدوجة الاستخدام وأن تنوع التقانات يجعل مراقبة المشتـــريات و المبيعات عملية شاقة, مما يستلزم تبني مقاربات متعددة الأطراف بشأن التطوير الآمن للطاقة النووية ،المبادرة التي مازالت تلقى معارضة شديدة من دول كثيرة تخشى أن توسع المبادرة مجال الاحتكار على التكنولوجيا النووية.

و في نفس الإطار سعت الولايات المتحدة الأمريكية لإنشاء تحالفات دولية خارج نظام الضمانات القانونية الذي تشرف على تنفيذه الوكالة الدولية للطاقة الذرية ،منها المبادرة الأمنية لمكافحة الانتشار(ISP) عام 2003 المرتكزة على اتخاذ تدابير تفتيش السفن المشتبه بها، و اقتضاء هبوط الطائرات و تفتيشها، لحظر حمل أو نقل أسلحة الدمار الشامل و ما يتصل بها من مواد ، و المبادرة العالمية لمكافحة الإرهاب النووي عام 2006 ،المرتكزة على خطة لإيجاد مزودين متعددين للوقود النووي للدول التي تمتنع عن بناء محطات خاصـــة بها للتخصيب ، و أخيرا قمة الأمن النووي عام 2010 المنعقدة في واشنطن التي تمخض عنها بيان القمة الصادر في 13 أبريل 2010 ،الذي تبنى إستراتيجية ضمن خطة عمل تشمل إعادة النظر في الشروط التنظيمية و القانونية المتعلقة بالأمن النوويون المتاجرة بالمواد النووية بالإضافة إلى التعاون في مجالات التدريب و التوعية لتقوية شروط الحماية للمواد و المنشئات النووية.

رابعا: التخلص من النفايات النووية

تشكل النفايات النووية أحد أهم الأضرار المترتبة عن استخدام الطاقة النووية نظرا لتنوع هذه النفايات،و ارتفاع تكلفة التخلص منها،و تأثيرها الذي يمتد إلى مئات أو آلاف السنين .

تثير مسألة التخلص من النفايات عدة إشكاليات على المستوى الدولي،حيث تستخدم بعض الدول طرق غير آمنة لدفن النفايات النووية في باطن الأرض أو إغراقها في البحر،بينما تعمد دول أخرى إلى إرسالها بواسطة الصواريخ إلى الفضاء الخارجي.

و إذا كانت هذه الطريقة الأخيرة تثير نقدا أخلاقيا، و غير متاحة لجميع الدول،و تخالف التزاما دوليا بتخصيص الفضاء الخارجي للأغراض السلمية ،فإن مسألة الإغراق في البحار شكلت محور الاهتمام في المعاهدات المتعلقة بمنع التلوث في البحار و المحافظة على البيئة البحرية.

من أهم المعاهدات المتوصل إليها في هذا الشأن معاهدة حظر وضع الأسلحة النووية و أسلحة التدمير الشامل الأخرى في قاع البحار و المحيطات و باطن تربتها (1970)، كما نصت اتفاقية قانون البحار لعام 1982 على تخصيص أعالي البحار للأغراض السلمية( المادة 88) و على واجب السفن النووية أو السفن التي تحمل مواد نووية مراعاة التدابير الوقائية خلال ممارستها لحق المرور البرئ في منطقة البحر الإقليمي للدول(المادة23)،هذا بالإضافة إلى التزامات دولية أخرى منصوص عليها في كل من إعلان استوكهولم عام 1972، و إعلان ريو للبيئة و التنمية عام 1992 .

رغم النصوص الواضحة و التعهدات الدولية إلا أن دولا كثيرة كانت تخالف هذه الالتزامات من بينها الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت بإغراق النفايات النووية في الباسيفيكي،و بريطانيا التي تلقي في بحر المانش العبوات النووية المشتملة على الفضلات الصلبة،و فرنسا التي أنشأت خط أنابيب داخل المانش لإغراق الفضلات الذرية السائلة بعد تخفيفها بالماء.

الخاتمة:

تمكن المجتمع الدولي من التوصل إلى اتفاقيات عديدة نظمت مسائل استخدام الطاقة النووية،على المستوى الدولي و الإقليمي، حيث كان هاجس الأمن بأبعاده المختلفة دافعا لتبلور مواقف متقاربة، و محفزا للقبول بحلول توفيقية تضمن لجميع الدول الاستفادة من المزايا الخاصة للطاقة النووية.

و رغم تمسك الدول بمبـــدأ السيادة و حساسيتها للقبول بلجان التفتيش و المراقبة الدولية إلا أنها اضطرت للتنازل عن بعض مظاهر سيادتها الداخلية، لتتمكن من الحصول على المساعدات العلمية و التقنية التي تمنحها الوكالة الدولية للطاقة الذرية للدول الأطراف.

و بذلك تحقق تنظيما قانونيا دوليا شمل مختلف جوانب الاستخدام السلمي للطاقة النووية و ضبط قضايا السلاح النووي، من خلال العدد المعتبر من الاتفاقيات و المعاهدات المتعلقة باستخدامات الطاقة النووية، و العمل التكاملي بين الهيئات الدولية و الإقليمية و الوطنية، المكلفة بتنفيذ برامج المراقبة والإشراف على المرافق و المواد النووية.

و نظرا للطبيعة المزدوجة لاستخدامات الطاقة النووية و التطور المتواصل في التكنولوجيا النووية،ما زال هذا التنظيم القانوني يعاني من ثغرات عديدة ،لعل من أهمها ما يلي:

– صعوبة التمييز، إن لم نقل استحالة التمييز بين مرافق الاستخدامات السلمية و مرافق الأسلحة النووية، ذلك أن النوعين من المرافق يعتمدا على تقنية تخصيب اليورانيوم، الذي إن توفر بكميات معينة فإنه يسمح بإنتاج القنبلة النووية في ظرف قياسي الأمر الذي يثير صعوبة بالغة بشأن النوايا السلمية و غير السلمية للبرامج النووية.

– انصراف اهتمام المجتمع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نظرية منع الانتشار النووي، ليبقى السلاح النووي حكرا على الكبار، رغم أنه لم يستخدم خلال كل مرحلة الحرب الباردة، الأمر الذي غذى طموحات الصغار الذين تمكن بعضهم من الوصول فعلا لســلاح الردع أو الرعب المتبادل، كالــهند و باكستان و كوريا الشمالية، و تبقى الشكوك تحوم حول كلا من إسرائيل وإيران بعد أن أعلنت جنوب إفريقيا و ليبيا عن تخليهما عن برامج الأسلحة النووية، و تم تدمير القدرات العسكرية للعراق رغم عدم ثبوت إنتاجها لأسلحة نووية.

– عدم وفاء الدول نووية التسليح بمفهوم معاهدة عدم الانتشار النووي بتعهداتها بموجب المعاهدة، و توصيات مؤتمراتها الاستعراضية هز عنصر الثقة في المجتمع الدولي ،بالإضافة للتعنت الإسرائيلي بعدم الانضمام لمعاهدة عدم الانتشار و عدم إخضاع منشئاتها النووية لنظام الرقابة و التفتيش الذي تباشره الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

– عجز مجلس الأمن الدولي عن اتخاذ موقف حازم بشأن البرنامج النووي الإيراني، لعدم ثبوت دلائل واضحة تؤكد طموحات إيران لامتلاك السلاح النووي رغم عمليات التفتيش الروتيني و المفاجئ التي أجرتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية توجه كلا من الولايات المتحدة الأمريكية و الترويكا الأوروبية لمباحثات سياسية مع إيران ،للبحث عن صيغة توفيقية،مما يدل على أن المسألة لا تتعلق بتنظيم قانوني إطاري، بل تمتد لمجالات الهيمنة السياسية و محاولة فرض الأمر الواقع.

– عجز إجراءات الحماية و الأمان النووي المعتمدة حتى الآن عن تجنيب العالم كارثة نووية، و هذا ما تأكد فعليا بعد زلزال اليابان،فرغم أنها ثالث اقتصاد في العالم إلا أن المخاوف من انتشار الإشعاعات النووية مازالت قائمة، فما هو السيناريو المتوقع لو ضرب زلزال بنفس القوة محطة نووية في دولة نامية.كما أن إمكانية وصول التقنية و المواد النووية لمجموعات من غير الحكومات يشكل خطرا حقيقيا على الأمن النووي.

و تحصيلا لكل ما سبق بيانه نسجل مجموعة من الاقتراحات التي نقدر أنها ضرورية لتحقيق فعالية النظام القانوني المتعلق بالأمان النووي:

1-رغم النجاح المحرز في مجال التعاون الدولي لتوسيع الاستخدامات السلمية للطاقة النووية،و الدور الفعال الذي تقوم به الوكالة الدولية للطاقة الذرية ،و الوكالات الإقليمية المتخصصة، يبقى على المجتمع الدولي مهمة في غاية الأهمية تتمثل في إرساء قواعد تعامل شفافة و مقبولة دوليا ليس فقط من طرف الدلو لكن أيضا من طرف منظمات المجتمع المدني،و المنظمات غير الحكومية ،لإبعاد التوتر عن هذا المجال الحساس.

2-إعادة النظر في العلاقة بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية و الأمم المتحدة، و خاصة علاقتها بمجلس الأمن الدولي، في ظل التوتر الذي يخيم على العلاقات الدولية، جراء التعامل السياسي الانتقائي لمجلس الأمن مع ملفات كلا من كوريا الشمالية ،إيران والكيان الصهيوني .

3-تفعيل الدور الإقليمي الذي تمارسه المنظمات المتخصصة خاصة في مجالات منع التخلص غير الآمن من النفايات النووية،و إرساء أنظمة إقليمية للتعويض عن الأضرار النووية،تأخذ في الاعتبار الظروف الخاصة بكل منطقة.

4-تكثيف الجهود الدولية في مجال تحقيق التنمية في مختلف مناطق العالم، و مواجهة أزمات الفقر و الجوع، لتحقيق الشعار الذي ترفعه الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، الذرة من أجل الغذاء (atoms for food).





المراجع :

أميرة عبد الرحمن، ستون عاما على قصف هيروشيما و نجازاكي, مجلة السياسة الدولية , العدد162 ، أكتوبر2005، ص51.

أيمن فضل موس الغول، المسؤولية الجنائية لمشغل المنشأة النووية عن إخلاله بتوفير اشتراطات الوقاية و الأمان النووي ( في التشريع المصري), رسالة ماجستير ,معهد البحوث و الدراسات العربية , القاهرة, 2002 ، ص113.

محمد بالعمري , تأثيرات التفجير النووي على الإنسان و البيئة , سلسلة الندوات , التجارب النووية الفرنسية في الجزائر, ط.1, المركز الوطني للدراسات و البحث في الحركة الوطنية و ثورة أول نوفمبر 1954 , الجزائر, 2000 , ص135.

 

المقالات الأخيرة