روسيا وحرب غزة .. الدور المتوقع وحدوده
فرع بنغازي

تراقب موسكو عن كثب حالة التصعيد التي يشهدها قطاع غزة جراء عدوان الكيان الصهيوني عليه في أعقاب الهجوم الذي نظمته حركة المقاومة الفلسطينية حماس داخل مستوطنات غلاف غزة يوم السابع من أكتوبر 2023 الجاري. إذ فوجئت روسيا كما غيرها من الدول بقوة الهجوم واتساع نطاقه، فضلاً عن دقة التخطيط له، والتفوق الاستخباراتي والتكنولوجي للمقاومة، وقوة الإسناد العسكري بالأسلحة والعناصر المقاتلة داخل المستوطنات على مدى الثلاثة أيام الأولى للهجوم، هذا بخلاف الحصيلة الثقيلة التي فازت بها حماس من رهائن مدنيين، وأسرى عسكريين، الأمر الذي أربك بقوة جيش الكيان الصهيوني بكامل عتادته وعدته وأصبح في حالة انكشاف أمنى وعسكري واستخباراتي لم تحدث في تاريخه منذ حرب أكتوبر1973.

لكن ومع اتجاه الجانب الكيان الصهيوني لشن عدوانه على القطاع بدءاً من اليوم الرابع ومحاولاته فرض خطط من شأنها التهجير القصرى لسكان القطاع تجاه المناطق الجنوبية منه، أو بدفعهم نحو "وطن بديل" خارج حدود غزة، بدأ الموقف الروسي ينتقل من مرحلة "المراقبة المتأنية" للحدث إلى مرحلة "التفاعل المحسوب" معه، فبدا أن ثمة موقفاً روسياً آخذاً في التشكل يدين حماس والكيان الصهيوني ، لكنه في الوقت نفسه يبدو أكثر ميلاً للأولى، وانعكس هذا الموقف في الإدانة الرسمية من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير الخارجية سيرجى لافروف لنمط معالجة الغرب للحدث وتطوراته؛ حيث رأت موسكو أن ما يدور في غزة من أحداث إنما يعبر عن مدى "فشل سياسات واشنطن في الشرق الأوسط"؛ لأنها ووفقاً لتصريحات بوتين "احتكرت القرار بشأن التسوية، وأبعدت الأطراف الأخرى". بل ذهب بوتين أبعد من ذلك بالقول "إن جوهر المشكلة هو عدم السماح للشعب الفلسطيني بإقامة دولته".

 

 

معطيات توظيف الأزمة

يبدو من تفاعلات روسيا هنا أنها قد ركزت فقط على انتقاد الموقف الأمريكي الأوروبي، وعلى احتكاره لملف الصراع الصهيوني  الفلسطيني منذ سنوات، لكنها في الوقت نفسه لم تتخذ - حتى اللحظة – أي موقف "بارز" يؤشر على رغبتها في لعب دور على خط الصراع من شأنه موازنة أو معادلة الدور الأمريكي الغربي، باستثناء مشروع القرار الذي قدمته لمجلس الأمن بوقف إطلاق النار لدواعٍ إنسانية، ولم يتم تمريره نظراً لاستخدام الفيتو من قبل الولايات المتحدة وغيرها.

وعليه بدا التفاعل الروسي مع الحرب الصهيونية  على غزة وكأنه يقف عند حدود التصريحات الرسمية الصادرة من الكرملين تارة، ومن وزارة الخارجية الروسية تارة أخرى. وبالرغم من طبيعة التفاعل الروسي – الهادئ - مع العدوان الصهيوني  على غزة حتى الآن، إلا أن الكيان الصهيوني  لم يخفي استيائه من موسكو ومن تصريحات بوتين ولافروف، ويرى أنها تتعارض مع حالة "التعاون" الروسي الصهيوني  والتنسيق الأمني بينهما في ملفات مهمة كسوريا على سبيل المثال.

لكن روسيا بوتين لها حساباتها المتغيرة التي ترى أن حالة "التنسيق الأمني" مع الصهاينة  في سوريا على مدى السنوات الماضية لم تمنع الصهاينة  من تبنى موقف "متقلب" من الحرب الروسية في أوكرانيا مثلاً. وتجدر الإشارة هنا إلى أن روسيا لم تصنف حماس على أنها جماعة إرهابية مثل الولايات المتحدة وأوروبا، بل هناك علاقات متوازنة تجمع روسيا بحماس على مدى السنوات الماضية، وهو ما يفرض تساؤلاً مهماً حول احتمالية دعم روسيا لحماس في مواجهتها الآنية مع الكيان الصهيوني ، ولو بالإعلان "صراحة" عن موقف سيأسى داعم للمقاومة، بما يؤدى إلى "موازنة" حالة الدعم الأمريكي الأوروبي اللامحدودللكيان الصهيوني  دولياً من جهة، وعسكرياً واستخباراتياً من جهة أخرى.

واقع العلاقات الروسية مع كل من حماس والكيان الصهيوني يضع موسكو أمام حصيلة من المعطيات التي تدفعها إلى اتخاذ خطوات متأنية، لكنها تبدو "بطيئة" و"حذرة" في التعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها حماس على معادلة صراعها مع الكيان الصهيوني  وهو ما رصدته وسائل الإعلام الأمريكية والغربية والتي أجمعت على أن موسكو تتبع نهجاً دبلوماسياً "تقليدياً" في التعامل مع الكيان  ومع حلفاء روسيا المناهضين للسياسات الصهيونية  في الشرق الأوسط؛ فروسيا يجمعها بالكيان الصهيوني  علاقات تنسيق وتعاون متميزة، والأمر نفسه بشأن علاقة روسيا بحماس والقضية الفلسطينية نفسها حيث تدعم روسيا إقامة دولة فلسطينية، وهو ما يضعها أمام احتمالين كلاهما معقد:

الأول، أن تتجه لدعم الكيان الصهيوني حفاظاً على درجة التعاون والتنسيق الأمني معها في ملف حيوي ومهم ويمثل منطقة نفوذ روسيا الأولى في المنطقة وهو الملف السوري، لكنها في هذه الحالة ستضر بدرجة ما بعلاقاتها الوطيدة مع إيران، التي تقبل علاقة روسيا بالكيان الصهيوني في سوريا على مضض، والتي تدعم كلاً من النظام السوري وحركة حماس وجل المقاومة الفلسطينية. هذا إلى جانب خسارة دورها لدى بعض الدول العربية التي لازالت ترى في روسيا قوة وقطب دولي بإمكانه التأثير الفعلي في معادلات الصراع والسلام العالميين في آن واحد.

الاحتمال الثاني، أن تتجه إلى دعم حماس أو على أقل تقدير تتجه إلى لعب دور جاد ومباشر في الوساطة بين الجانبين الفلسطيني والصهيوني من منطلق ما تتمتع به من علاقات متوازنة مع الطرفين، الأمر الذى يوفر لها موطئ قدم في أي عملية تسوية بشأن القضية الفلسطينية وعملية السلام. ويربط البعض هذا الاحتمال بمحاولات روسيا تقديم نفسها على أنها "وسيط نزيه" يتمتع بعلاقات متميزة مع طرفي الصراع، لكن في الوقت نفسه ثمة قيود متعددة على هذا الدور أبرزها رفض الكيان الصهيوني خروج ملف الصراع مع فلسطين من دائرة الحماية الأمريكية الأوروبية، فضلاً عن تشككها بشأن الموقف الروسي من حربها الحالية على غزة؛ حيث ترى في تصريحات بوتين الأخيرة دعماً من نوع ما لحماس.

هذا إلى جانب الرؤية الأمريكية الأوروبية الرافضة لدور روسي في معادلة الحرب الصهيونية  على غزة انطلاقاً من الحرب الروسية على أوكرانيا على مدار الثلاث سنوات الماضية. والأمر نفسه على الجانب الروسي الذى يرى في "تقلبات" الموقف الصهيوني  من أزمة أوكرانيا – المساعدات العسكرية والإنسانية من الصهاينة  لكييف – وسيلة لفضح ازدواجية الموقف الصهيوني والأمريكي في التعامل مع أزمتي غزة وأوكرانيا.

كيفية توظيف روسيا حرب غزة لصالحها

المعطيات السابقة قد ترسم خطاً لنمط تفاعل روسيا "المتوازن" مع حرب غزة الحالية يعكس "احتمالية" اتجاه موسكو لتوظيف الأحداث في غزة توظيفاً يخدم أهدافها سواء في المنطقة، أو في علاقتها مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية ومنها:

1- تركيز الدبلوماسية الروسية على إحراج الولايات المتحدة والقوى الأوروبية من خلال الترويج الإعلامي الروسي لسياسة ازدواجية المعايير فيما يتعلق بدور واشنطن وحلفائها في دعم الصهاينة ، ومن ثم فليس من المنطقي، ووفقاً لوجهة النظر الروسية، أن تعترض الولايات المتحدة والقوى الأوروبية التي تدعم أوكرانيا، على مساعي روسيا لحماية أمنها القومي من تمدد حلف الناتو نحو حدودها، أو من احتلالها لمناطق في شرق وشمال أوكرانيا، واتضح ذلك جلياً في وصف بوتين للولايات المتحدة بالنفاق؛ حيث قارن بين الحصار الذى فرضه جيش الاحتلال على قطاع غزة، وحصار ستالينجراد خلال الحرب العالمية الثانية. وبالتالي فمزيد من الاهتمام الروسي بالانشغال الأمريكي الأوروبي بأمن الكيان الصهيوني  يبعد أوكرانيا ولو بشكل نسبى عن بؤرة اهتمام الغرب. هذا بخلاف أن طرحها لمشروع قرار لوقف إطلاق النار "بدواعٍ إنسانية" واعتراض الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا عليه وضعهم في موقف حرج أمام المجتمع الدولي باعتبارهم ليسوا فقط دعاة حرب، بل أيضاً مشجعين على حروب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

2- إنه في حالة استمرار أو ارتفاع مستوى الدعم الأمريكي الأوروبي للكيان الصهيوني عسكرياً ومادياً، فإن هذا سيؤدى بالضرورة، ومن وجهة النظر الروسية، إلى تقليص حجم المساعدات الأمريكية والأوروبية لأوكرانيا؛ مما يصب في مصلحة التقدم العسكري الروسي على أرض الصراع في أوكرانيا، استغلالاً لحالة الانشغال الإعلامي الغربي بالحرب على غزة.

ويلاحظ هنا، أن روسيا تدرك تماماً عدم قدرة الولايات المتحدة والأوروبيين على تحمل نفقات فتح جبهة صراع جديدة إلى جانب أوكرانيا، لاسيما وأن جبهة الصراع في الشرق الأوسط ستكون أكثر كلفة بكثير على المصالح الأمريكية والأوروبية في المنطقة عنه في أوروبا. لكن في الوقت نفسه ليس في مقدور روسيا تحمل تكلفة وأعباء فتح جبهة الصراع في منطقة الشرق الأوسط مجدداً، بعد هدوء الملف السوري؛ نظراً لأن حسابات الحليف الإيراني في المنطقة لا تقف عند حد الحالة السورية فقط، وإنما تشمل لبنان والعراق واليمن، ومن ثم يصبح الصراع هنا أكثر اتساعاً عن حالة الصراع الإقليمي والدولي في سوريا. مع ملاحظة أن روسيا في الوقت نفسه لا ترغب في "إضعاف" حلفائها في المنطقة وفى مقدمتهم الحليف الإيراني، كما أن إبقائها الحليف السوري بعيداً عن دائرة التأثير في الصراع الفلسطيني الصهيوني ربما يجد له تفسيراً في هذا السياق.

3- محاولة تسويق الدور الروسي كوسيط نزيه، فمن وجهة نظر روسيا، أن بإمكانها تقديم خبرتها في مجال "تهدئة التصعيد" في بؤر الصراع إلى الملف الفلسطيني الصهيوني  على غرار ما أحدثته في سوريا. وأيضاً في بعض بؤر الصراع خارج منطقة الشرق الأوسط، لكن وحتى وإن كان هذا التصور ممكناً، فهو غير ممكن في حالة الصراع الصهيوني  الفلسطيني؛ نظراً لاختلافه كلية عن حالة الأزمة السورية من جوانب كثيرة؛ أبرزها وأهمها عدم القبول بروسيا كوسيط من جانب الفاعلين الدوليين والإقليميين المعنيين بالصراع الفلسطيني الصهيوني ؛ خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان "المتغير الإيراني" على خلفية ارتباط المقاومة الفلسطينية به من ناحية، والتعاون الاستراتيجي مع روسيا من ناحية ثانية، لأن هذا سينقل الصراع من داخل الأراضي

متى يتحول الدور الروسي؟

يبدو إذن أن روسيا ووفقاً لأهداف توظيفها لحرب غزة الحالية لمصالحها في مواجهة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لديها رغبة - وإن كانت محسوبة وفقاً للمعطيات السابقة – في لعب دور ما في حالة الحرب الصهيونية على غزة، عبر جهود وساطة بين الجانبين الفلسطيني والصهيوني ، وهذا يتطلب عملياً ضرورة موافقة الطرفين، وهو أمر صعب تحقيقه لأن الطرف الصهيوني  لن يقبل بالوساطة الروسية فيما يتعلق بمجمل ملف الصراع الفلسطيني الصهيوني ، وهو الدور الذى يرغب بوتين في القيام به، ويدلل أنصار هذا الرأي على ذلك بتصريحاته التي قال فيها: "إنه يجب علينا البحث عن حل سلمى لتفاقم الصراع الفلسطيني الصهيوني  نظراً لأنه في الوضع الراهن لم تعد هناك بدائل أخرى". لكن يلاحظ أيضاً أنه وبالرغم من رفض الصهاينة لدور روسي في مجمل الصراع بينها وبين الفلسطينيين على إطلاقه، إلا أنه من الممكن قبولها  بدور ما لموسكو في مفاوضات استعادة الرهائن الموجودين لدى حماس. 

وهذا يعنى أن حدود الدور الروسي لا يرتقى-  حتى اللحظة-  إلى الانخراط السياسي الفعلي في الملف، حيث لازالت موسكو تنظر للتطورات الحالية في حالة التصعيد العسكري الصهيوني العنيفة على غزة على أنها لا تستدعى تدخلها المباشر. ويرى العديد من المتخصصين أن نقطة التحول المحتملة في طبيعة الدور الروسي ستكون في حالة وحيدة وهى الغزو البرى الصهيوني  للقطاع وأن تكون الولايات المتحدة منخرطة فيه عسكرياً، في هذه الحالة ستجد روسيا نفسها مضطرة للتدخل بقوة في إدارة الملف، لكن لابد وأن يتوافر لديها أدوات ضغط مؤثرة على الطرفين وتحديداً الطرف الصهيوني ، وهذا من الصعب تحقيقه واقعياً في ظل وجود قوى دولية اعتادت تقليدياً إدارة ملف الصراع الصهيوني  الفلسطيني وقبل بها الطرفان، فضلاً عن كون هذه القوى نفسها تمثل الجبهة المناوئة لروسيا في حربها ضد أوكرانيا. لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن حالة التدخل البرى لكيان الصهيوني في غزة وإن كانت لا تمثل حالة مؤكدة للتدخل الروسي بقوة على تفاعلات الملف، إلا أن مستوى المساعدات الروسية لقطاع غزة أو لحماس من الممكن أن تتطور لتتعدى مجرد المساعدات الإنسانية إلى مساعدات أخرى قد تشمل جوانب الإسناد اللوجيستى لحماس.

مما سبق يمكن القول، أن روسيا حتى اللحظة لا تتوافر لديها خطة شاملة حول طبيعة مشاركتها المرتقبة أو الممكنة في وقف التصعيد في غزة وحدود هذه المشاركة وإمكانياتها، إلا من باب كون الأزمة الحالية تمثل بالنسبة لها فرصة مواتية لخدمة تحركاتها الدولية بشأن إعادة صياغة النظام الدولي من باب كسر احتكار الولايات المتحدة لحصرية صناعة القرار العالمي، حتى وإن كان في ملف تقليدي من ملفات الصراع في المنطقة. ولكن هذه الخطوة الروسية المأمولة بشأن دور أكثر فعالية داخل الملف الفلسطيني في ظل تطوراته الحالية، لن يكون ممكناً إذا كان منفرداً، ومن الأفضل أن يتزامل هذا الدور مع دور فاعل للصين لاعتبارين: الأول، التأكيد على أن التطورات الاستراتيجية في العالم لم تعد إدارتها حكراً على الولايات المتحدة والغرب. والثاني، موازنة القوة الأمريكية - الأوروبية بقوة روسية - صينية بما يحقق "التوازن" في إدارة الملفات الصراعية خاصة تلك التي لها تداعيات إقليمية ودولية. لفلسطينية إلى خارجها، وهو أمر من شأنه تحويل الملف إلى حالة صراع إقليمي حاد.







المراجع :

صافيناز محمد أحمد، 25.10.2023 ، روسيا وحرب غزة .. الدور المتوقع وحدوده، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

ب، ن ، 16.10.2023، روسيا تحرج أميركا بهذه الخطوة.. هل تنجح بحلحلة أزمة فلسطين؟، سكاي نيوز عربية

 

 

 

المقالات الأخيرة