كيف يُعيد “الإرث التاريخي” تشكيل التفاعلات الدولية؟
فرع بنغازي


يطرح المشهد الدولي الراهن تساؤلاً جوهرياً حول قدرة النظام العالمي الذي تَشكّل عقب الحرب العالمية الثانية على الصمود والتماسك أمام موجات كُبرى وغير تقليدية من عدم الاستقرار، وصعود قوى تعديلية (Revisionist powers) تسعى إلى تغيير سمة النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب، وهذه القوى في خضم سعيها للتغيير لا تتوانى عن توظيف كل الأدوات المتاحة بما في ذلك العدوانية منها، وهو ما يمكن فهمه من منظور "الواقعية الهجومية" (Offensive Realism) الذي جادل من خلالها عالم السياسة الأمريكي الشهير "جون ميرشايمر" بأن فوضوية النظام الدولي تُولّد سلوكاً عدوانياً لدى بعض الدول في السياسة الدولية.

وقد وصف المفكر الأمريكي البارز "صمويل هنتنجتون" الحرب العالمية الأولى بأنها كانت "حرب إنهاء الحروب"، ومع ذلك قامت الحرب العالمية الثانية التي أُريد لها أن تكون "حرب إنهاء الحروب العالمية"، لكن الواقع الجيوسياسي العالمي الحالي ربما يشي بغير ذلك، حتى إن بعض الاتجاهات الغربية وصفت التفاعلات الدولية الحالية بأنها أقرب إلى عصر القرون الوسطى الجديدة (Neomedieval Era).

استدعاء التاريخ

تمّ استدعاء التاريخ في أغلب القضايا العالمية الكبرى في محاولةٍ لتغيير الجغرافيا، مثل قضية أوكرانيا وتايوان، وحتى في القضية الفلسطينية التي قفزت فجأة إلى الواجهة من جديد باعتبارها القضية المركزية التي لا يمكن تجاوزها. ويمكن تناول أبرز تأثيرات استدعاء التاريخ على التفاعلات الدولية الحالية، وذلك على النحو التالي:

1- تداخل بين "القوة الحقيقية" و"القوة المُتصورة": أفضى ما يمكن تسميته بـ"قوة الإدراك" إلى مزيد من "إدراك القوة" لدى بعض الفاعلين الدوليين، في ظل إدراك بعض القوى المتوسطة وحتى الكبيرة أن ثمة عالماً مُتغيّراً لا تجلس الولايات المتحدة على قمته منفردة، فمنح ذلك بعض القوى شعوراً زائفاً أو حقيقياً بالقوة.

فلولا تغيُّر حالة الإدراك تلك لم تكن روسيا لتتدخل عسكرياً في أوكرانيا، ولم تكن الصين لتفكر في عودة تايوان إليها بالقوة في إطار سياسة "صين واحدة"، ولم تكن إيران عبر وكلائها لتخاطر بتصعيد غير محسوب ضد الملاحة الدولية، ولم تكن تركيا لتساوم الولايات المتحدة على عوائد كبيرة مقابل دخول دول جديدة إلى حلف شمال الأطلسي، ولم تكن لتَصعد التوجهات المناوئة للسياسة الأمريكية في الجمعية العامة للأمم المتحدة تجاه قضايا جوهرية عالمية، وبما ارتبط بذلك من صعود مفاهيم مثل "الجنوب العالمي" و"القوى المتوسطة"، وغيرهما من المصطلحات التي باتت تؤطر مساحات النفوذ المتغيرة في أقاليم العالم.

2- التحوُّل من "الحدود الصلبة" إلى "الحدود الرخوة": إحدى السمات الرئيسية لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية هو رفض تغيير الحدود بالقوة، وأن ذلك لن يحظى باعتراف المجتمع الدولي، لكن عادت قضية الحدود لتشكل قضية جوهرية في الوقت الراهن، وهي نفس القضية التي أججت حروباً ثنائية وعالمية، حتى عاد إلى الواجهة من جديد الحديث عن "حرب عالمية ثالثة" أو "حرب نووية" أو "حرب باردة جديدة"، فمجرد استدعاء تلك المفردات يكشف عن عالم مُتغيّر بطبيعة الحال.

ووفق رؤية الحدود باعتبارها هشّة أو رخوة، ضمّت روسيا أربعة أقاليم أوكرانية إلى سيادتها، وتسعى إلى المزيد في إطار تبني سياسة الأمر الواقع، حيث فرضت تغييراً مجتمعياً وديموغرافياً يحقق مصالحها، كما شكّلت الحدود محفزاً للصراع بين أرمينيا وأذربيجان، وحتى في أمريكا الجنوبية ثمة أزمة متصاعدة بين فنزويلا وغويانا وسط تحفُّز من البرازيل، الدولة الأكبر في المساحة وعدد السكان في القارة. كما شكلت المناوشات الحدودية بين أكبر كتلتين بشريتين في العالم (الصين والهند) مدعاة للقلق الدولي، نظراً لقوتهما البشرية والعسكرية وقدراتهما النووية.

كما تصاعدت الخلافات حول الحدود البحرية ولا سيما في القارة الآسيوية، وبالتحديد بين الصين وبعض جيرانها، وشكّلت الاشتباكات بين السفن الصينية والفلبينية حتى أواخر أغسطس 2024 مدعاة للقلق الدولي في ظل ادّعاء كل دولة بأحقيتها في جزر وشعاب مرجانية متعددة، وقد أصدرت الفلبين مفهوم "الدفاع الأرخبيلي الشامل" لتأكيد سيادتها في مناطق النزاع مع بكين في بحر الصين الجنوبي.

3- صعود سردية "الدولة المصطنعة" مقابل "الدولة المُفسِدة": استدعى الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في تبريره لعمليته العسكرية في فبراير 2022 الإرث التاريخي الذي ينظر إلى أوكرانيا باعتبارها دولة مصطنعة (Artificial State)، ولم يُخفِ "بوتين" مرارته الشخصية من سقوط الاتحاد السوفيتي في إطار تطلعه لتحقيق ما أسماه "روسيا العظمى"، وفي المقابل فضّل الغرب النظر إلى روسيا باعتبارها دولة مُفسِدة (Spoiler State) تسعى إلى زعزعة النظام الليبرالي.

ويقف "بوتين" خلف سرديته التاريخية ومعه قدر من التهديدات المعقولة، بل والحقيقية في جزء منها، مع مخاوف تمدُّد الناتو، وتراجع تعهُّدات العقود السابقة، فيما يقف "الغرب" خلف أوكرانيا ومعه قدر كبير من التهديدات المقبولة والواقعية، وتجاهلَ الطرفان أن ثمة حلولاً وسطى في معركة يمكن منع تحوُّلها إلى معركة صفرية (Zero-sum game).

وفي خضم مساعي الدول الأوروبية لبناء تحالف قوي داعم لأوكرانيا ضد موسكو، فقد دعا رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، في 31 أغسطس 2024، كييف إلى حل الخلافات التاريخية التي تُسمم العلاقات بين البلدين، وبناء تحالف "غير هشّ" يتجاوز اتهامات مذابح قام بها جنود أوكرانيون ضد البولنديين في أربعينيات القرن الماضي، لكن تلك المحاولات تُواجَه بانزعاج شعبي، في ظل صعوبة تجاوز المظالم التاريخية رغم أولوية تحالف البلدين في اللحظة الراهنة.

4- تنامي تهديدات "الحدود الرابعة للحرب": تكشف الممارسات الدولية عن تصاعد عسكرة الفضاء بشكلٍ غير مسبوق، في إطار ما يُطلق عليه مخاوف "الحدود الرابعة للحرب" (Fourth Frontier of War)، ولعلّ أبرز تجلياتها قد ظهر مع تحذير الولايات المتحدة في فبراير 2024من خطط روسية لنشر سلاح نووي أو رأس حربي وهمي في الفضاء، وأن موسكو تعمل على تطوير قدرات فضائية لضرب الأقمار الصناعية باستخدام سلاح نووي. ورغم نفي روسيا تلك المزاعم، فإن التهديد غير مُستبعد في ظل التصعيد غير المسبوق بين واشنطن وموسكو وسط ترقُّب دولي من مخاطر ذلك، خاصةً وأن أي انفجار نووي محتمل في الفضاء يمكن أن يؤثر على ثلث الأقمار الصناعية، ويخلق فوضى ضخمة في أنظمة الاتصالات الدولية.

5- معضلة "النرجسية الاستراتيجية" في المنظور الأمريكي: يرتبط ذلك بميل الولايات المتحدة إلى رؤية العالم من خلال منظورها الخاص فقط، في إطار من النرجسية الاستراتيجية (Strategic Narcissism)، وهي رؤية مرتكزة على "الهيمنة المفرطة" وتقف حدودها عند خروج الولايات المتحدة كقطب واحد ووحيد عقب سقوط الاتحاد السوفيتي في عصر ما بعد الحرب الباردة، إذ تنظر الولايات المتحدة إلى الخلف أكثر مما تنظر إلى الأمام، ولا تتعامل واشنطن بمرونة كافية مع عالم جديد، فليست الصين هي التهديد الحقيقي الوحيد أمام الولايات المتحدة كما هو مُقر في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي.

ولكن تواجه واشنطن تهديدات حقيقية أخرى، ليس أقلها؛ تراجع الثقة في الديمقراطية الأمريكية مع اعتقاد ثلث الناخبين تقريباً بسرقة الانتخابات الرئاسية في 2020، خاصةً مع إمكانية عودة "ترامب" من جديد إلى البيت الأبيض لتصفية حسابات قديمة ومستحدثة في انتخابات نوفمبر 2024، جنباً إلى جنب مع صعود اتجاهات تُحذر من تفكك الولايات الأمريكية، إذ إن واحداً من بين أربعة أمريكيين (32%) يدعمون فكرة انفصال ولاياتهم عن الاتحاد، فيما يعتقد نصف من يصفون أنفسهم بالجمهوريين الأقوياء (45%) أنه من المحتمل كثيراً أو إلى حد ما أن تكون هناك حرب أهلية أمريكية خلال العقد المقبل، وهناك أربعة من كل عشرة (40%) من الديمقراطيين الأقوياء يوافقون على ذلك، وهي مؤشرات تأتي في خضم إعادة أحداث ولاية تكساس الجنوبية التذكير بمخاوف الحرب الأهلية الأمريكية مع مطالبة البعض بانفصال الولاية (TEXIT) عن الولايات المتحدة، فالتاريخ لا يزال يطارد الواقع الأمريكي.

6- صراع "الذاكرة الجماعية" و"الأمن الجماعي": فلم يعد المجتمع الدولي لديه ثقة في الأمن الجماعي (Collective Security) الذي أفرزته مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتجلّى في الأمم المتحدة، وهو يأتي في إطار أوسع يتعلق بتراجع الثقة العالمية في المؤسسات الدولية التي ظهرت من أجل ترسيخ الأمن والاستقرار في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما أدّى إلى تسابق الدول إلى عقد تحالفات واتفاقيات عسكرية ثنائية أو ذات طابع متعدد الأطراف.

وفي مقابل ذلك، باتت الدول تتحرك بشكل فردي بالتزامن مع استدعاء الذاكرة الجماعية (Collective Memory)، سواء لتجاوز عقبات تاريخية أو مظلومية أو حالة لم تعد مناسبة لسياقات العصر الراهن، فالخوف من تكرار التجربة الأوكرانية حدا ببعض الدول للخروج من حالة الحياد، فلم تعد سويسرا -على سبيل المثال- دولة محايدة، ولم تتوانَ فنلندا والسويد عن الانضمام إلى الناتو، وباتت هذه الدول أكثر حرصاً على الانخراط بشكل أكبر في السياسات الدولية.

كما أعاد بعض أكبر الخاسرين في الحرب العالمية الثانية (ألمانيا واليابان) التفكير في سياستهما الدفاعية في خروج استثنائي عن قيود التاريخ، حيث اتجهت ألمانيا إلى زيادة ضخمة في إنفاقها العسكري، وحتى اليابان ضاعفت إنفاقها العسكري بحلول عام 2027، مما سيجعلها ثالث أكبر الدول من حيث الإنفاق العسكري في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، كما ارتفع الإنفاق الدفاعي العالمي بنسبة 9% ليصل إلى مستوى قياسي خلال عام 2023، بما يعكس أننا أمام عالم أكثر قلقاً وأقل استقراراً.

7- تبني "الاستقلال الاستراتيجي" لترتيب السياسة الخارجية: لا يُمكن الإشارة إلى مسألة الاستقلال الاستراتيجي (Strategic Autonomy) سواء لدول في القارة الآسيوية أو القارة الأوروبية أو حتى في منطقة الشرق الأوسط بمعزلٍ عن سعي تلك الدول إلى الخروج نسبياً من الفلك الأمريكي، في إشارة واضحة إلى تراجع القوة الأمريكية في عالم اليوم، إذ باتت بعض الدول على غرار فرنسا والهند تسعى إلى تحركات في السياسة الخارجية منفردة بعيداً عن السياسة الأمريكية.

كما رفضت العديد من الدول المقاربة الأمريكية القائمة على "إما نحن أو الصين"، لأن العالم بات يتسع لما هو أكثر من فاعل واحد مُهيمن، فأصبحت الصين شريكاً لا غنى عنه لدول العالم، وهو ما يمنح للأطراف الثالثة -رغم القيود الأمريكية- حرية حركة نسبية ومناورة أكبر، حتى مع روسيا، التي تأتي في مرتبة تالية للصين في قمة النظام العالمي الآخذ في التشكُّل.

وفي الختام، وبناءً على ما سبق، فإن هناك حاجة عالمية إلى "المكاشفة" بأن ثمة تأزماً دولياً غير مسبوق، متعدد الأطراف والمستويات، يُعيد إنتاج مخاوف الماضي وتهديداته عبر الاستناد إلى الإرث التاريخي مع تجاهل سياقاته، وأن هناك أكثر من نقطة تحول يمكن أن تجعل التفاعلات الدولية في العقود المقبلة ضمن مرحلة اللا يقين المُقلقة وسط تعطُّش بعض الأطراف إلى توظيف القوة والإكراه والحرب في ظل عوائد مُتخيلة أقل ارتباطاً بحالة السلام والاستقرار.

المراجع:

د. أحمد عبد العليم حسن، 9.9.2024، كيف يُعيد "الإرث التاريخي" تشكيل التفاعلات الدولية؟، إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية.

جون آيكينبري ، 11.8.2023، نهاية النظام الدولي الليبرالي مجلة العلاقات الدولية.

 

المقالات الأخيرة