هل تتغير استراتيجية الصين فى الشرق الأوسط بعد “عودة ترامب”؟
فرع القاهرة

 

فى الوقت الذى يستعد فيه دونالد ترامب لبدء ولايته الثانية، يثار العديد من التساؤلات حول موقفه من الكثير من القضايا المهمة كالحرب فى الشرق الأوسط وموقفه من كل من الصين، وروسيا، وإيران، وكوريا الشمالية وهل سيستمر دعمه العسكرى لكل من إسرائيل وأوكرانيا، وفى حين أنه ربما من المتوقع أن يتوصل الرئيس الأمريكى إلى تسوية مع كل من روسيا، وإيران، وكوريا الشمالية للتهدئة، إلا أنه من الصعب عقد صفقات مع الصين تحجم من التنافس الصينى-الأمريكى، فمن المتوقع أن يتزايد التنافس الصينى-الأمريكى العالمى ومن ضمن ذلك الشرق الأوسط الذى يوليه كلا الطرفين اهتماما كبيرا فى ظل النزاعات القائمة فى المنطقة، وعلى الرغم من المحاولات العقلانية للصين للوجود على طاولة المصالحات فى الشرق الأوسط، إلا أنه يثار تساؤل كبير حول: هل تتغير الاستراتيجية الصينية فى الشرق الأوسط بعد عودة ترامب؟

الصين فى السياسة الأمريكية القادمة

تتسم سياسة ترامب الخارجية بشكل عام بالبرجماتية حاملة شعار "أمريكا أولا"، ولا يمكن فصل السياسة الأمريكية تجاه الصين عن هذا المبدأ، فالقرارات التى سيتخذها ترامب تجاه الصين تضع فى أولوياتها تحقيق مصالح الولايات المتحدة أولا وليس إلحاق الضرر بالصين لمجرد الضرر فى حد ذاته. إن الصراع بين كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية يخرج عن الصراعات التقليدية فى كونه صراعا اقتصاديا-تجاريا فى الأساس، فسياسة ترامب القادمة تجاه الصين تتسم بالتضييق على الصين اقتصاديا ووضع قيود على وارداتها التجارية، فقد تعهد ترامب بعد إعلان فوزه فى الانتخابات مرة أخرى بفرض رسوم جمركية على الواردات الصينية تصل إلى60%، مما سينتج عنه ضرر كبير للاقتصاد الصينى الذى يعانى بالفعل، وسابقا خلال ولاية ترامب الأولى قام بالتضييق على شركة هواوى الصينية وحرمانها من الوصول إلى التكنولوجيا فائقة التقدم بحجة أن الصين تستخدم تلك التكنولوجيا فى بعض الخدمات العسكرية.

وبالنسبة لتايوان التى ترغب الصين فى السيطرة عليها فموقف ترامب تجاهها خلال الفترة القادمة يتسم بعدم الوضوح، فخلال فترته الرئاسية الأولى زادات مبيعات الأسلحة للجزيرة، ورفعت القيود المفروضة على الاتصالات بين المسئولين الأمريكيين والتايوانيين، وخلال مقابلة أجريت معه – قبل فوزه- أعلن أن الخيار العسكرى مطروح فى أى محاولة صينية لضم الجزيرة، إلا أنه لن يضطر لاستخدامه لمنع الحصار على الجزيرة لأن الرئيس الصينى يحترمه ويعرفه جيدا، وبالرغم من ذلك فإن ترامب بعد إعلان فوزه رفض الإفصاح عن ما إذا كان سيستخدم القوات الأمريكية فى الدفاع عن الجزيرة أم لا، كما شكك سابقا فى استمرار دعمه لتايوان وأكد خلال حملته الانتخابية على أن تايوان يجب أن تدفع مقابل الدفاع عنها واتهمها بسرقة صناعة أشباه الموصلات الأمريكية.

وعلى الجانب الآخر فقد أرسل الرئيس الصينى شى جين بينج برقية تهنئة للرئيس ترامب، وأعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينى ماو نينج أن السياسة الصينية تجاه الولايات المتحدة متسقة وسيتم النظر إلى العلاقات الصينية-الأمريكية والتعامل معها وفقا لمبادئ الاحترام المتبادل والتعايش السلمى والتعاون المربح لكلا الجانبين.

وبالنظر لكلا الجانبين فسياسة ترامب ستتخذ موقف المهاجم من أجل عقد صفقة رابحة مع الصين عن طريق ضرب الاقتصاد الصينى والتجارة الصينية لإخضاعها للرغبات الأمريكية، فى حين أن الصين ستسعى للحوار مع الجانب الأمريكى وفتح طرق وممرات لها مع الدول الأخرى للخروج من تلك الأزمة والتى من بينها دول الشرق الأوسط.

الوجود الصينى فى الشرق الأوسط

برزت الصين كلاعب مهم فى الشرق الأوسط فى الآونة الأخيرة، وظهر ذلك خلال الوساطة الصينية فى العديد من القضايا التى تخص الشرق الأوسط، كالوساطة الصينية فى حرب السودان، والمصالحة بين السعودية وإيران بعد عداء طويل، وأخيرا الوساطة الصينية فى القضية الفلسطينية، الأمر الذى يلقى بظلال التهديد على المصالح الأمريكية فى المنطقة، فتعتبر الولايات المتحدة هى الضامن الأمنى الرئيسى للشرق الأوسط ولاعبا دبلوماسيا واقتصاديا رئيسيا، فالشرق الأوسط يضم 45 ألف جندى أمريكى موزعين على أكثر من اثنتى عشرة قاعدة إلى جانب طائرات مقاتلة وسفن حربية، فضلا عن مبيعات الأسلحة الأمريكية التى تشكل نصف مبيعات المنطقة، والمساعدات الأمنية التى تتضمن مليارات الدولارات كل عام، والاستثمار المباشر لتصبح المصدر الرئيسى للاسثمار الأجنبى المباشر فى المنطقة. ولا تتوقف الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة على مجرد الدعم المالى والعسكرى لتحقيق مصالحها وضمان وجودها، بل تستثمر رأس المال الدبلوماسى فى السعى للتطبيع مع إسرائيل والسيطرة على التوترات الإقليمية فى المنطقة. ويعتبر التوجه الصينى لمنطقة الشرق الأوسط خاصة فى مجالى الاستثمار والتجارة التهديد الأعظم للمصالح الأمريكية ففى إطار التنافس الصينى-الأمريكى فى الشرق الأوسط تم الإعلان عن مشروع الممر الاقتصادى برعاية أمريكية فى العاشر من سبتمبر 2023 كمشروع منافس لطريق الحرير الصينى، وقد ضم المشروع كل من السعودية والإمارات، فى حين قام رئيس مجلس الدولة الصينى لى تشيانج بزيارة لكل من السعودية والإمارات فى اليوم نفسه من العام الذى يليه، واستمرت تلك الزيارة لمدة أربعة أيام من أجل تعزيز التعاون بين الصين وكلا من البلدين وزيادة حجم الاستثمار والتجارة والتأكيد على اتفاقيات التعاون السابقة بين الصين وكلا البلدين، وعلى الأرجح قد اختارت الصين ذلك التوقيت تحديدا كرسالة تحد خفية للولايات المتحدة الأمريكية تؤكد على استمراريتها فى استراتيجيتها للصعود وتعزيز مكانتها فى الشرق الأوسط.

الاستراتيجية الصينية فى الشرق الأوسط

لا يمكن فصل الاستراتيجية الصينية فى الشرق الأوسط عن استراتيجيتها فى الصعود كقوة عظمى وبسط نفوذها على العالم، حيث تطور الحضور الصينى فى الشرق الأوسط بشكل كبير على مدار القرن الحادى والعشرين. فقد بنت بكين علاقات ثنائية مع أغلب دول المنطقة لتأسيس نهج يشمل المنطقة بأكملها، باستخدام المشاركة الثنائية والمتعددة الأطراف لدعم العلاقات الاقتصادية، والدبلوماسية، والثقافية، والأمنية وتستند هذه الاستراتيجية على مجموعة من المستويات:

فعلى المستوى الاقتصادى والتجارى تعد الصين شريكا تجاريا رئيسيا لبعض الاقتصاديات العربية الكبرى، بما فى ذلك دول مجلس التعاون الخليجى، ومصر، والعراق، فاستوردت الصين عام 2022 أكثر من نصف وارداتها النفطية من منطقة الخليج، إلى جانب مبادرة الحزام والطريق التى تمر بمنطقة الشرق الأوسط وقناة السويس ومنها إلى أوروبا، وتعد العامل الرئيسى الأول فى الاستراتيجية الصينية للسيطرة على التجارة العالمية، ففى إطار المبادرة تصاعدت الاستثمارات الصينية فى الدول العربية لتشمل قطاعات مختلفة بما فى ذلك النفط، والغاز، والطاقة المتجددة، والاتصال الرقمى، والموانئ، والخدمات اللوجستية، وتسارعت وتيرة المفاوضات بين الصين ومجلس التعاون الخليجى بشأن اتفاقية التجارة الحرة، التى كانت جارية منذ عام 2004، حيث اجتمع وزراء التجارة من دول مجلس التعاون الخليجى والصين فى بكين فى أكتوبر 2023، إلا أن المفاوضات واجهت مخاوف سعودية من أن الواردات الصينية غير المكلفة قد تعيق الطموحات التصنيعية للمملكة، وخلال القمة الصينية-العربية الأولى التى عقدت فى الرياض فى عام 2022، حدد الرئيس شى جين بينج المرحلة التالية من التعاون الاقتصادى مع منطقة الخليج من خلال التأكيد على استخدام العملات المحلية فى التجارة، وبالنسبة للإمارات فقد أبرمت صفقة للغاز الطبيعى المسال فى بورصة شنغهاى بالرنمينبى (اليوان الصينى)، وتدرس السعودية أيضا استخدام الرنمينبى فى تجارتها النفطية مع الصين، وبلغ حجم الاستثمارات الصينية التى تم ضخها للمملكة 16.8 مليار دولار فى عام 2023، مقابل 1.5 مليار دولار ضخّتها خلال عام 2022، فيما وصلت قيمة الاستثمارات السعودية فى الصين إلى 75 مليار ريال. كما بلغ حجم التبادل التجارى بين البلدين 97 مليار دولار فى العام الماضى، مع تقدم السعودية فى الميزان التجارى إذ تُصدر للصين ما قيمته 54 مليار دولار، وتستورد منها بقيمة 43 مليار دولار، ومنذ عشرة أعوام باتت الصين تتصدّر قائمة الشركاء التجاريين للسعودية. ووقعت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على مبادلات العملات ومنها العملات الرقمية للبنوك المركزية مع بنك الشعب الصينى. ومن المقرر أن يرتبط نظام بونا -وهو نظام مقاصة المدفوعات الذى يتخذ من الإمارات العربية المتحدة مقرا له والذى تم إطلاقه فى عام 2020-  بشركة يونيون باى الصينية كجزء من استراتيجية توسع أوسع نطاقًا، مما يسمح بتحويلات أسهل بالعملات المحلية. كما زادت صناديق الثروة السيادية الصينية والخليجية من تعرضها لأسواق بعضها البعض. ومع ذلك، تظل دول الخليج العربى مرتبطة بالدولار الأمريكى كعملة تجارية واحتياطية حتى مع تجربتها لترتيبات بديلة.

وعلى المستويين السياسى والدبلوماسى لعبت الصين دورا رئيسيا فى التطبيع بين إيران والمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى نشاطها فى العمل مع دول المنطقة فى المحافل الدولية متعددة الأطراف، حيث قادت جهود استيعاب بعض دول الشرق الأوسط فى شبكتها الأمنية والاقتصادية، بالإضافة لإقامة علاقات ثنائية وثيقة مع الدول حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، وتستثمر الصين جهودها الدبلوماسية فى منطقة الشرق الأوسط من أجل تعزيز صورتها كقوة عظمى فى هذه المنطقة المهمة، وقد برز ذلك فى الوساطة الصينية فى حرب غزة والتى لم تقدم أى حلول جديدة للأزمة لكنها برزت كإثبات حضور للوجود الصينى فى المنطقة فقط لا غير، أيضا تريد الصين تعزيز علاقاتها مع البلدان التى تشكل أسواقا مهمة ومصادر للطاقة.

وفى إطار علاقة الصين بالفواعل الإقليمية فى المنطقة فنظرا لأن الصين تركز دائما على سيادتها لذلك فإنها تعمل دائما مع الدول وليس مع الجهات الفاعلة غير الحكومية، لذلك يشكل انتشار جهات فاعلة من غير الدول فى الشرق الأوسط كالحوثيين وحزب الله تحديا للمصالح الصينية-الإقليمية، لذلك تستخدم الصين نظام تصنيف هرمى يعرف باسم "دبلوماسية الشراكة"، والذى يتضمن شراكة "تعاونية ودية" فى أدنى الهرم وشراكة "استراتيجية شاملة" فى أعلى الهرم كأعلى تسمية فى الدبلوماسية الصينية. وتمتلك الصين شراكات مع كل من السعودية والإمارات يليها الجزائر، وإيران، ومصر ولا تتضمن تلك الشراكات تحالفات عسكرية بل تقتصر على لغة حوار تختص بالتعاون فى الشئون الأمنية مثل التدريبات العسكرية المشتركة دون أية التزامات، فعلى الجانب الصينى فإن الصين لا ترغب فى تحالفات عسكرية فى المنطقة تقحمها فى تنافسات وصراعات لا تحصى داخل المنطقة المتأججة بشكل دائم.

وعلى هامش ذكر التعاون العسكرى، تتمتع الصين بوجود عسكرى محدود فى الشرق الأوسط ولا توجد لها قواعد عسكرية دائمة على الرغم من استخدامها لبعض الموانئ مثل ميناء خليفة فى الإمارات، ويقتصر الوجود العسكرى الصينى فى المنطقة على دعم بعض العمليات العسكرية المحدودة اقتصاديا، وتقديم التدريب والمشورة بشأن أنظمة الأمن الداخلى وإنفاذ القانون مصحوبة ببيع تكنولوجيا المراقبة الصينية فى الغالب، وأيضا بيع الأسلحة ذات القدرات المتطورة بنسبة بسيطة بشكل غير مشروط كالطائرات بدون طيار والذخائر الموجهة بدقة للبلدان التى لا تستطيع الحصول على تلك الأسلحة من الولايات المتحدة.

سناريوهات صينية محتملة

استمرت الصين فى تنفيذ استراتيجيتها فى الشرق الأوسط لتحقيق مصالحها لسنوات عديدة، ومع تباطؤ الاقتصاد الصينى يتطلع المستثمرون الصينيون بشكل متزايد إلى الأسواق العربية كمصدر محتمل للنمو لكن التحدى الذى يواجه الصين هو الاستفادة من عودة ترامب، مع تجنب مخاطر إدارة ترامب الثانية والتى تتمثل فى فرض حواجز تجارية أمام الشركات الصينية والواردات من الصين، والضغط على حلفاء الصين فى المنطقة لتقليل التعاون الاقتصادى والتجارى مع الصين، لذلك يوجد سيناريوهان لاستراتيجية الصين القادمة فى المنطقة فى ظل رئاسة ترامب:

السيناريو الأول: يتمثل فى تعزيز الوجود الصينى فى الشرق الأوسط بشكل أكبر خاصة فى المجالين الاقتصادى والتجارى، وتصوير الصين نفسها كنموذج وزعيم طبيعى للدول النامية، حيث تجلب الاستثمارات والبنية الأساسية، والاستفادة من أحادية ترامب وعدائه للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، من أجل تعويض خسائرها التجارية الناتجة عن قرار ترامب برفع الرسوم الجمركية على وارداتها، وإيجاد أسواق كبيرة واعدة لتصريف تلك المنتجات، ولكن احتمالية فشل هذا السيناريو أكبر من نجاحه نظرا للمعوقات التى ستواجهها الصين فى حال قيامها بذلك، فالعديد من دول الشرق الأوسط هى حليف أيضا للولايات المتحدة الأمريكية وستحاول الموازنة بين كلا القوتين الصينية والأمريكية، وبالنسبة للدول الأضعف فإنها لن تسلم من الضغوطات الأمريكية عليها خاصة أن الولايات المتحدة هى الفاعل الأول فى المنطقة.

السيناريو الآخر: هو التهدئة والتوازن فى علاقة الصين بدولة المنطقة وربما الانسحاب المحدود منها مع الاحتفاظ بسبل للتعاون الاقتصادى والتجارى والمصحوب فى الوقت نفسه بمحاولات عقد صفقات مع ترامب للخروج من الخناق التجارى والتوجه بشكل أكبر نحو إفريقيا، وهذا السيناريو هو الأكثر عقلانية حتى لا تخسر الصين علاقاتها بدول المنطقة، ومن المرجح أن يستمر هذا السيناريو لمدة أربعة أعوام قادمة حتى تنتهى فترة حكم ترامب.

 

 

 

المصدر: مجلسة السياسة الدولية

الكاتب : يسرا ماهر

التاريخ : 12/11/2024

---------------------------------------------

المصدر: صحيفة الدستور

الكاتب : الدكتور عثمان الطاهات

التاريخ : 16/11/2024

المقالات الأخيرة