كيف تغيرت قواعد اللعبة العالمية في مجال الأمن القومي؟
فرع بنغازي

مع بداية حقبة الألفينيات، أتاح التقدم التكنولوجي في قدرات كل من البرمجيات والأجهزة الحاسوبية، للعديد من المنظمات المهتمة بالبيانات، آفاقاً جديدة من زاوية القدرة على جمع ومعالجة المزيد من البيانات والاستخلاص الأعمق للمعلومات والرؤى منها، وقد مكن من ذلك أيضاً؛ الانفجار الهائل في كم البيانات القابلة لتوليدها من مصادر متعددة لجمع البيانات مثل: شبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي والأجهزة المتصلة بالإنترنت التي تعرف بإنترنت الأشياء وغيرها.

ومن هنا ظهر مفهوم "البيانات الضخمة " كأحد المفاهيم التي ما زالت قيد التشكل، والتي جرى استخدامها لوصف الكميات الهائلة وغير المُنظمة من البيانات المُنتجة من مصادر متعددة وغير القابلة لجمعها في قاعدة بيانات ارتباطية واحدة، مثل: المعاملات اليومية للأفراد على الإنترنت وعلى شبكات ووسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك البيانات التي تُنتجها الأجهزة المتصلة بإنترنت الأشياء ككاميرات المراقبة العامة، وغيرها من مصادر البيانات. وتشير التوقعات إلى ارتفاع هائل في حجم ونسبة البيانات الضخمة من إجمالي البيانات بالعالم، لتصل إلى نحو 200 ألف إكسابايت في عام 2026؛ بما يشكل نحو 90% من إجمالي البيانات بالعالم، وتشير التوقعات ذاتها إلى أن نحو 45% من هذه البيانات حساسة للغاية ولكنها غير محمية.

وعلى الجانب الآخر، ارتبط بظهور البيانات الضخمة مفهوم ثانٍ، وهو "تحليل البيانات الضخمة "؛ والذي يُعبر عن القدرة على عملية المعالجة المنهجية لكميات كبيرة ومعقدة من البيانات؛ بهدف استخلاص معلومات ورؤى ذات صلة بالبيانات التي تمت معالجتها، وذلك عبر اكتشاف الاتجاهات والارتباطات والأنماط المشتركة لهذه البيانات؛ ما يسهم في مساعدة المُحللين على اتخاذ قرارات قائمة على هذه البيانات. وتتطلب الحالة المُعقدة لهذه البيانات، الاعتماد في تحليلها/ معالجتها على التقنيات الأكثر تقدماً والقائمة على الذكاء الاصطناعي مثل تعلم الآلة. 

هذا الكم الهائل والمعقد من البيانات الضخمة، والاتساع في انتشار التكنولوجيات المرتبطة بها وبخاصة الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، وما تفرضه هذه التكنولوجيات من حالة ترابط رقمي شديدة التعقيد، تغطي حيوات الأفراد بنمط شبه كامل في كلا العالمين الواقعي والرقمي، دفع العديد من مؤسسات وأصحاب الرؤى والخبرات العالمية إلى الجدال بالتأثيرات العميقة للبيانات الضخمة في المجتمع ككل. ليس ذلك على المستويات الإيجابية والفرص فحسب، ولكن على مستوى التهديدات التي قد تفرضها إتاحة وإمكانية الوصول إلى هذا الكم من البيانات، على أمن الأفراد، بل وعلى الأمن القومي للدولة ككل.

مفهوم الامن القومي

يشير مفهوم "الأمن القومي " إلى القدرة على حماية الدولة ومواطنيها ومصالحهم، والدفاع عنهم ضد المخاطر الداخلية والخارجية، والتي قد تتراوح ما بين مخاطر جيوسياسية أو اقتصادية أو أية مخاطر أخرى.

تأثير الذكاء الاصطناعي على الأمن القومي

يواجه الأمن الدولي العديد من التهديدات والمخاطر المرتبطة بتطوير تقنيات وأدوات الذكاء الاصطناعي التي قد تؤثر على الاستقرار العالمي بالرغم من الفوائد العديدة المصاحبة لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي . تتنافس العيد من الدول على تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي وسن التشريعات والقوانين لتنظيم استخدامه واختبار التقييم والتحقق من نماذج الذكاء الاصطناعي واسعة النطاق.

مراحل الذكاء الاصطناعي

توجد ثلاث مراحل للذكاء الاصطناعي:

-       الذكاء الاصطناعي ضيق النطاق (NAI)، ويركز على مهمة واحدة، وعمل متكرر ضمن مجموعة محددة من الوظائف، ويتعلم بشكل عام من الكثير من البيانات.

-        الذكاء الاصطناعي العام (AGI) يجرى الوصول إلى هذه المرحلة عندما تتمكن الآلة من أداء أي مهمة فكرية يستطيع الإنسان القيام بها وتعرف بـ “الذكاء الاصطناعي القوي”.

-        الذكاء الاصطناعي الفائق (ASI) يحدث عندما يكون الذكاء الاصطناعي أعلى من الذكاء البشري، تقول “نيك بوستروم” الفيلسوف وخبير الذكاء الاصطناعي بجامعة أكسفورد، الذكاء الفائق بأنه ذكاء “يتفوق بشكل كبير على أفضل العقول البشرية في كل المجالات تقريبا، بما يشمل الإبداع العلمي والحكمة العامة والمهارات الاجتماعية” في الثاني من يونيو 2023.

مخاطر الذكاء الاصطناعي على الأمن القومي

يواجه الأمن القومي مجموعة من المخاطر الجديدة التي قد تزيد من عدم الاستقرار العالمي، بالإضافة إلى الصراعات، حيث بات الوصول الواسع للذكاء الاصطناعي (AI) يمثل تهديدات جديدة.

تصنف نسخة 2024 من تقرير المخاطر العالمية الصادرعن المنتدى الاقتصادي أشد التهديدات على المدى القصير وتعطي أيضا نظرة طويلة الأمد على المخاطر المتوقعة خلال عقد. يشير ايضا الى تغييرات رئيسية عن العام 2024 تتعلق جميعها بانتشار وسوء استخدام محتمل للذكاء الاصطناعي التوليدي المعلومات المضللة والمغلوطة، النتائج السلبية لتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتركيز القوة التكنولوجية في 13 يناير 2024 ومن أبرز المخاطر.

_ الذكاء الاصطناعي يؤثر على أمن المعلومات: تتعدد مخاطر وتهديدات الذكاء الاصطناعي للدول، إذ يزيد من انتشار المعلومات المضللة، وقد يولد معلومات خاطئة من شأنها أن تزعزع استقرار الدول، ويثير الذكاء الاصطناعي التوليدي مخاوف من زيادة المحتويات الزائفة عبر الإنترنت. ما يدفع صناع القرار في مجال الأمن القومي إلى اتخاذ إجراءات فعلية بناء على معلومات خاطئة، مما قد يؤدي إلى أزمات أو أسوأ من ذلك اتخاذ قرار الحرب.

_ تأثير الذكاء االاصطناعي على الأمن السيبراني : يمكن من خلال استغلال بعض العيوب أو الثغرات في أنظمة الذكاء الاصطناعي، شن هجمات إلكترونية تؤدي إلى تعطيل البنية التحتية الحيوية للدول المتقدمة، أو سرقة البيانات الحساسة لها في 11 يونيو2023 . تكون العمليات السيبرانية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أكثر عدوانية مستقبلا واستهدافا وفعالية بشكل ملحوظ، سواء في هجمات الحرمان من الخدمات أو البرمجيات الخبيثة أو برمجيات الفدية أو التصيد الاحتيالي.

_ تخليق مسببات الأمراض والأوبئة : ربما تتمكن أجهزة الذكاء الاصطناعي في المستقبل من تخليق مسببات للأمراض والأوبئة، أو اختراق بنى تحتية حساسة في 16 أغسطس 2023، حيث تنامت التحذيرات من المبالغة في تقدير منافع استخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض الصحة.

_ الجماعات المتطرفة تستغل الذكاء الاصطناعي : تدرب الجماعات المتطرفة روبوتات الدردشة على الذكاء الاصطناعي (AI) لنشر الإرهاب والمحتوي المتطرف، وإعادة إنتاج الحسابات عبر الإنترنت ردا على إغلاق حساباتهم لأسباب أمنية. يسمح الذكاء الاصطناعي للجماعات المتطرفة بإخفاء هويتهم بشكل شبه كامل، فضلا عن تمكينهم من تحمل التكاليف والمرونة وضمان الموثوقية. حيث ظهر في الفيديو الدعائي المعروف باسم “البرمجيات القاتلة”، ساهم الذكاء الاصطناعي تداول الجماعات المتطرفة للعملات المشفرة بغرض جمع الأموال.

_ الأمن الاقتصادي : ذكر تقرير في 14 يونيو 2023 إلى إن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحل محل ما يعادل (300) مليون وظيفة بدوام كامل خلال المستقبل، حيث يتم أتمتة بعض المهام والوظائف في جميع أنحاء العالم، وبحسب التقرير فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي ستقوم بمهام (25%) من الوظائف في الولايات المتحدة وأوروبا.

ايجابيات ومميزات الذكاء الاصطناعي

تستثمر حكومات الدول في الذكاء الاصطناعي لأغراض الأمن القومي. حيث تستثمر الحكومات مليارات الدولارات لتطوير ودمج الذكاء الاصطناعي في الأنظمة الدفاعية. تتعدد أنواع الذكاء الاصطناعي التي تستخدمها وزارت الدفاع التي تشمل تحليل المعلومات الاستخباراتية أو تعزيز أنظمة الأسلحة مثل (الطائرات بدون طيار والسفن الآلية)، أو تقديم توصيات في ساحة المعركة مثل مكان استهداف الضربات الصاروخية .

يمكن للغواصات والقوارب والطائرات القادرة على العمل بشكل مستقل، أن تشكّل دفعة كبيرة لأنشطة الاستطلاع والمراقبة والدعم اللوجيستي في البيئات النائية أو الخطرة. تمكن للبرمجيات التكتيكية أن تساعد إلى حد بعيد المخططين البشريين، خصوصا أنها مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وقادرة على تجميع كميات هائلة من البيانات بفضل الأقمار الاصطناعية والرادارات وأجهزة الاستشعار وأجهزة الاستخبارات.

يمكن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد على حل أزمة الطاقة في العالم بحلول عام 2030من خلال المساعدة في تطوير الاندماج النووي، يمكن أن يتنبأ الذكاء الاصطناعي بمشاكل الرعاية الصحية المستقبلية من خلال متخصصين يستخدمون أدوات متخصصة ويمكن أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز قيمة الاقتصاد العالمي بمقدار( 15.7 ) تريليون دولار بحلول عام 2030، أو أكثر من قيمة اقتصادات الهند والصين مجتمعتين، وبنسبة (20%) من المقارنة بالمستويات الحالية.

تنافس دولي على تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي

أصبحت الصين في المرتبة الأولى بلا منازع في أوراق أبحاث الذكاء الاصطناعي بعد تجاوزها الولايات المتحدة في كل من الكمية والجودة. توفقت الصين من حيث حجم الأوراق، كما أظهرت الدراسة. عام 2021 وحده أنتجت (43000) ورقة ما يقرب من ضعف ما أنتجته الولايات المتحدة. ولتقييم وصل عدد الأوراق التي كانت بأعلى (10%) من الاستشهادات من قبل الأوراق الأخرى.

تتمثل الأولويات لكلا من الصين والولايات المتحدة الامريكية في تطوير الأسلحة التي يمكن أن تجد طريقها إلى الهدف من دون تدخل بشري، والأجهزة المرتكزة على الذكاء الاصطناعي القادرة على تحديد الأهداف من صور الأقمار الاصطناعية. وفي إحدى التجارب التي أجرتها الجامعة الوطنية الصينية لتكنولوجيا الدفاع، تغلب سرب من عشرات المسيرات على إشارات اختبار التشويش بمساعدة بعضها بعضا. من جهتها، أجرت الولايات المتحدة تدريبات مشتركة مع المملكة المتحدة وأستراليا لاستخدام أسراب طائرات من دون طيار مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتتبع ومحاكاة الهجمات على المركبات الأرضية مثل الدبابات والمدافع الذاتية الدفع والمركبات المدرعة. أمن قومي ـ مخاطر الذكاء الاصطناعي

تنافس دول عدة على تطوير وتصنيع وامتلاك “الأسلحة فرط الصوتية” التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، والتي يمكن أن تغير من قواعد اللعبة في الحروب، نظرا لقدراتها على الهجوم بسرعة، وإمكانية إطلاقها من مسافات كبيرة وامتلاكها المقدرة على التهرب من معظم وسائل الدفاع الجوي، والأسلحة “الفرط صوتية” قادرة على الهجوم بسرعة كبيرة، ويمكن إطلاقها من مسافات كبيرة والتهرب من معظم الدفاعات الجوية، ويمكنها حمل متفجرات تقليدية أو رؤوس حربية نووية. حيث تمتلك الصين وروسيا “صواريخ فرط صوتية “جاهزة للاستخدام، لكن الولايات المتحدة لا تمتلكها.

تقييم وقراءة مستقبلية

– واجه الأمن الدولي مجموعة من المخاطر منذ استخدام أدوات وأنظة الذكاء الاصطناعي كالتأثير على أمن المعلومات، والأمن السيبراني، وتخليق مسببات الأمراض والأوبئة، واستغلال الجماعات المتطرفة لأدوات الذكاء الاصطناعي، التي ساهمت في عدم الاستقرار العالمي.

– تستثمر حكومات الدول في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي في الأنظمة الدفاعية والعسكرية والصحة والاقتصاد وإيجاد حلول مبتكره في مجال الطاقة لأغراض الأمن القومي.

– تتنافس القوى الدولية العظمي كالصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية على تطوير وتصنيع وامتلاك الأسلحة التي تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتي يمكن أن تغير من قواعد اللعبة في الحروب.

– يمكن القول أن الذكاء الاصطناعي قد يتفوق مستقبلا بشكل كبير على المهارات البشرية في العديد من المجالات ما يتسبب في أضرار اقتصادية على المستوى المحلي والدولي.

– من المرجح استخدام الأسلحة الفتاكة ذاتية التشغيل التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، ما قد يؤدي إلى سيناريوهات خطيرة من خلال اختراقها أو القرصنة لإحداث أضرار واسعة النطاق.

– بات متوقعا أن تكون مكافحة المخاطر المتعلقة بالذكاء الاصطناعي أولوية عالمية، وأن يتم إغلاق أنظمة الذكاء الاصطناعي إذا بدأت في العمل بشكل غير متوقع أو بطريقة تهدد الأمن القومي.






المراجع

مصطفى ربيع، 27/8/2024، كيف تغيرت قواعد اللعبة العالمية في مجال الأمن القومي؟، المستقبل للابحاث والدراسات الاستراتيجية.

ب.ن، 29/2/2024، أمن قومي ـ تأثير الذكاء الاصطناعي على الأمن القومي، المركز الاوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات.

 

 

 

المقالات الأخيرة