محددات خريطة “واشنطن” العسكرية خارج حدودها
فرع القاهرة

 

تعد الولايات المتحدة الأمريكية قوة ذات مصالح عالمية، وجيشها مكلف بالدفاع عن البلاد من الهجمات وحماية مصالحها الوطنية على نطاق عالمي، وبالتالي فإن الولايات المتحدة لا تتمتع برفاهية التركيز على منطقة جغرافية واحدة أو تحدٍ ضيق لمصالحها كما أن اقتصادها يعتمد على التجارة العالمية؛ ولديها التزامات مع العديد من الحلفاء؛ لذلك فإنها تأخذ في الاعتبار العديد من المنافسين الرئيسيين الذين يتحدون مصالحها بشكل روتيني ومستمر ويسعون إلى إزاحة نفوذها في مناطق رئيسية ومن ثم فإن الولايات المتحدة تجهز جيشها ليتناسب مع تلك المهام وأن يمتلك الأدوات والمهارات والاستعداد اللازم للعمل والتنفيذ وعلاوة على ذلك، فإن الجيش الأمريكي يعمل على أن يكون قادرًا على حماية حرية استخدام الموارد المشتركة العالمية في كافة المجالات البحرية والجوية والفضائية والتي تعتمد عليها من أجل تحقيق الرخاء والنفوذ السياسي الأمريكي.

الولايات المتحدة والعالم

تواجه الولايات المتحدة تهديدات متعددة ومجموعة من سيناريوهات الأزمات المعقدة وغير المتوقعة وفي الأمد القريب، قد تتيح الميزة النوعية للولايات المتحدة في قدرات الضربات بعيدة المدى وزيادة ضعف القواعد الأمامية في مواجهة الضربات الدقيقة المتزايدة وقدرات الهجوم الإقليمية الأخرى لدى الخصوم، قد تمنحها بعض الفرص لتقليص وجودها الأمامي. لكن هذه المزايا قد تكون واهية، وبالتالي تكون هناك حاجة لإدارة الأزمات.

إن نقل مواقع القواعد الجوية الأمريكية بعيدًا نسبيًا عن الأهداف – وبالتالي عن مصادر الانتقام – من شأنه أن يقلل من السيطرة الأمريكية على الإيقاع العملياتي ونطاق الخيارات التكتيكية المتاحة للقوات الأمريكية وبالتالي الحد من استقرار الأزمة ولقد أشارت دراسة لمؤسسة راند عام 2013، إلى أن السياسات التصريحية الثابتة والمتسقة، والتدريبات العسكرية المتكررة، والمعدات المعدة مسبقًا، والوصول المستمر إلى المرافق الآمنة الرئيسية، والعروض الواثقة لقدرات زيادة القوات بعيدة المدى، من شأنها أن تخفف من هذه مسؤولية التواجد في القواعد الامامية، ولكن يبدو أن الطمأنينة السياسية التي توفرها القواعد الأمريكية المتقدمة للحلفاء والشركاء تميل إلى ميزان دقيق لصالح مثل هذه القواعد.

إن الجغرافيا السياسية المعاصرة تدعو إلى البراجماتية أكثر من الإيجابية، ففي عالم اليوم المتعدد الأقطاب بشكل متزايد، حيث أصبحت التحالفات السياسية في مناطق مثل الشرق الأوسط وحتى، إلى حد ما، منطقة آسيا والمحيط الهادئ، أكثر تغيرًا، ومن ثم لا يتمتع المحللون الأمريكيون برفاهية افتراض صحة استراتيجية كبرى قائمة أو المزاج الاستراتيجي المتوافق للدول المضيفة ولا يمكنهم، بعد استخفاف ترامب في رئاسته الاولى بالتحالفات وتدهور الثقة وتراجع النفوذ الأمريكي، أن يأخذوا أولوية الولايات المتحدة كأمر مسلم به، إنهم بحاجة إلى النظر في الظروف المحلية والإقليمية بشكل أكثر كثافة وبناء على ذلك، يتعين على المحللين الذين يقومون بتقييم متطلبات القواعد العسكرية اليوم أن يطبقوا الحساسيات الاستقصائية للمقايضات، والتي تجسدها دراسة راند الرائدة في عام 1954، على المسائل السياسية فضلاً عن المسائل التشغيلية.

تحديد حجم القوة العسكرية الأمريكية والسياق الدولي

تجد الولايات المتحدة نفسها في مواجهة تحديات متزايدة من قِبَل المنافسين الرئيسيين مثل الصين وروسيا فضلًا عن التأثيرات المزعزعة للاستقرار الناجمة عن العناصر الإرهابية والمتمردة التي تعمل في مناطق ذات أهمية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة إن الحرب الأوكرانية والتي اندلعت في فبراير 2022 دليل على أن الحرب في المناطق ذات الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة تظل سمة من سمات العصر الحديث ــ وهو الأمر الذي لم يغب عن الصين مع توسعها في قوتها العسكرية وتهديدها لليابان وحلفاء الولايات المتحدة وشركائها الآخرين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بشكل أكثر عدوانية فلقد لاحظت بولندا وألمانيا وليتوانيا واليابان وعدة دول أخرى هذا الأمر وتعهدت بتحسين قدرات قواتها العسكرية وإمكاناتها واستعدادها بشكل كبير، على الرغم من أن التقدم كان متقطعًا ومع ذلك، لم تقدم الولايات المتحدة التزامًا مماثلًا وشهدت المزيد من التراجع حيث أدى التضخم إلى تآكل التمويل المقدم للجيش، والقوة العسكرية التي هي نتيجة لكيفية تجميع كل أجزائها المكونة معًا لإنشاء قوة حربية فعالة، لكنها تبدأ

بالأشخاص والمعدات المستخدمة في خوض الحرب: الأسلحة والدبابات والسفن والطائرات والأدوات الداعمة التي تجعل من الممكن لقوة ما فرض إرادتها على أخرى أو منع حدوث مثل هذه النتيجة وهي نقطة الردع.

وهناك عنصر رئيسي آخر يتمثل في قدرة الجيش على إجراء العمليات: كم عدد الأدوات المناسبة ــ الأشخاص، أو الدبابات، أو الطائرات، أو السفن ــ التي يمتلكها، فقد تمتلك الدولة الأدوات المناسبة وتعرف كيف تستخدمها بشكل فعال ولكنها ليس لديها ما يكفي للفوز.

ميزانية الدفاع والتوجيه الاستراتيجي

إن مقدار ما تنفقه الولايات المتحدة الامريكية على الدفاع لا يحدد تلقائيًا موقف الجيش الأمريكي أو قدرته في واقع الأمر، فإن مجرد النظر إلى مقدار ما يتم تخصيصه للدفاع لا يعكس كثيرًا قدرة القوات أو حداثتها أو استعدادها التمويل المناسب هو شرط ضروري لقوة قادرة وحديثة وجاهزة، لكنه لا يكفي في حد ذاته للحكم على قوة الجيوش على سبيل المثال، يمكن ربط ميزانية دفاع أكبر بقدرة عسكرية أقل إذا تم تخصيص الأموال بشكل غير مناسب أو إنفاقها بإسراف ومع ذلك، تعكس الميزانية الأهمية الممنوحة للدفاع عن الأمة ومصالحها في إعطاء الأولوية للإنفاق الفيدرالي بالولايات المتحدة وهناك ارتباط  تقريبي بين النسبة المئوية من الميزانية الفيدرالية أو الناتج المحلي الإجمالي الوطني التي يتم إنفاقها على الدفاع ومكانة الجيش لأن تكاليف المعدات والأفراد والاستعداد تميل إلى عكس التكاليف العامة عبر الاقتصاد وتطور التقنيات والمواد الجديدة التي يتم تسخيرها للشؤون العسكرية.

 

 

حضور أمريكي عالمي

ظلت أمريكا منعزلة حتى وقت متأخر من الحرب العالمية الثانية ولكن في أغسطس 1940، وافق الرئيس فرانكلين روزفلت على صفقة “المدمرات مقابل القواعد” مع المملكة المتحدة، والتي بموجبها منحت لندن واشنطن عقود إيجار لمدة 99 عامًا لمنشآت في ثماني مناطق بريطانية في شمال الأطلسي ومنطقة البحر الكاريبي في مقابل نقل 50 سفينة حربية قديمة تابعة للبحرية الأمريكية بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربر وإعلان ألمانيا اللاحق للحرب ضد الولايات المتحدة في ديسمبر 1941، دخلت أمريكا الصراع في كل من مسرحي الأطلسي والمحيط الهادئ وعجلت بإنشاء المواقع العسكرية الأمريكية في الخارج وبحلول نهاية الحرب، تجاوز عدد القواعد الامريكية بالخارج نحو 2000.

وعلى الرغم من إغلاق العديد من هذه المنشآت عندما انتهت الحرب، فقد احتفظت الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة بشبكة قوية من المنشآت العسكرية الخارجية بلغ مجموعها 1600 منشأة اعتبارًا من عام 1991 وكانت الضرورات الاستراتيجية لما بعد الحرب (مثل إدارة اليابان واستقرار الشرق الأوسط للحفاظ على إمدادات النفط) وضرورات الاحتواء في الحرب الباردة (مثل الدفاع عن أوروبا وملاحقة حربي كوريا وفيتنام) تستدعي وجودًا عسكريًا تقليديًا أمريكيًا أكثر شمولاً في الخارج، وكان التركيز السياسي على تحسين نظام القواعد البعيد بدلاً من التشكيك في ضرورته.

فإن إعادة التوازن الاستراتيجي المستمر من الشرق الأوسط إلى آسيا، إلى جانب عدم الاستقرار السياسي المتزايد في المواقع الاستراتيجية الرئيسية مثل الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، جعل ترتيبات القواعد القائمة أكثر هشاشة، وكذلك كان الحال مع التقشف الاستراتيجي لواشنطن، والذي تضخم بسبب نفور إدارة ترامب في مرحلة رئاسته الأولى من الدبلوماسية، بما في ذلك دبلوماسية الدفاع وقد أدت هذه العوامل أيضًا إلى ظهور سياسات أكثر تحفظًا مع أدوار إدارية إقليمية أخف من نصيب الولايات المتحدة ــ وخاصة في الشرق الأوسط ــ كما أدت إلى إضعاف حماس الولايات المتحدة لحملات مكافحة التمرد التي تتطلب قوات استكشافية كبيرة وبنية أساسية إقليمية واسعة النطاق لدعمها.

وختامًا، في حين أن التهديدات الجديدة التي تجعل أصول القواعد الخلفية أكثر عرضة للخطر من شأنها أن تفعل الشيء نفسه بالنسبة للقواعد الأمامية، فإن فجوة الضعف سوف تغلق وفقا لرؤية بعض المحللين سوف تصل أنظمة الدفاع الجوي البعيد التقليدية إلى نطاقات بين القارات، مما يحرم جميع الأطراف من الملاذ بحكم المسافة وحدها عند هذه النقطة، قد تبدو فكرة “القواعد الأمامية” غريبة تقريبًا (رغم ان الولايات المتحدة ما زالت تعمل بهذا النهج وعبر نظرية مضاعفة القوة مع الحلفاء)، حيث ستكون جميع القواعد في المقدمة فعليًا وهذا يضعف الحجة لتقليل التعرض الأمامي للقوات البرية، ومع الحاجة إلى استجابة أسرع، يميل إلى دعم الاحتفاظ بالقواعد الخارجية قد يؤدي الضعف المتبادل بغض النظر عن الجغرافيا إلى رؤية اعتبارات الردع والطمأنينة تشير في نفس الاتجاه تنقل الصين وكوريا الشمالية نسبة كبيرة من أصولهما العسكرية تحت الأرض؛ وبالنسبة للولايات المتحدة أيضًا، من المرجح أن تكون الأولوية تقوية أصولها، بدلاً من إعادة نشرها.

 

 

المصدر: مركز رع للدراسات الاستراتيجية

الكاتب : د. مصطفى عيد

التاريخ : 30/11/2024

------------------------------------------

المصدر: يورونيوز

التاريخ : 25/11/2024

المقالات الأخيرة