بدأت
فرنسا تحركاً لافتاً للتعاطي مع تطورات الأزمة السورية، والسعي لتحجيم الدور
التركي أو على الأقل موازنته، بعد إسقاط "الأسد"، وهو ما عكس حجم
اهتمامها المتزايد بالتطورات المتسارعة التي طرأت على الساحة السورية؛ من أجل
الحفاظ على دور لها في إعادة صياغة الترتيبات السياسية والأمنية في سوريا وتجنب
تهميشها، وتمثلت آخر مؤشرات ذلك في الإعلان في 18 ديسمبر 2024 عن استضافتها اجتماعاً دولياً حول سوريا في
يناير 2025.
كما
وجهت باريس، من وراء ستار، انتقادات لتحركات أنقرة في شمال سوريا، بالإضافة إلى
مطالبتها بإدماج السوريين الأكراد في عملية الانتقال السياسي، وهو الأمر الذي أثار
حساسية الأتراك. ومع إصرار أنقرة على محاصرة مشروع الإدارة الذاتية الكردية،
ومواصلة العمليات العسكرية التي تنفذها الفصائل الموالية لها ضد قوات سوريا
الديمقراطية "قسد"، يبدو أن العلاقة بين أنقرة وباريس ستشهد توتراً خلال
المرحلة المقبلة.
تحركات
مكثفة
في
أعقاب تصاعد الدور التركي على الساحة السورية بعد سقوط "الأسد"، وسعي
أنقرة إلى رسم ترتيبات المشهد المستقبلي في دمشق، سارعت فرنسا ببعض الخطوات في
محاولة لكبح جماح تمدد أنقرة، وهو ما انعكس في عدة مظاهر:
1-
دعم الحقوق الكردية في المعادلة السورية الجديدة: أبدت فرنسا حرصاً ملموساً على
إثارة ملف الأكراد في سوريا من خلال تأكيد الحقوق الكردية في المعادلة السورية
الجديدة، وظهر ذلك في إعلان وزير الخارجية الفرنسي "جان نويل بارو"، في 18 ديسمبر 2024، عن أن الرئيس الفرنسي "إيمانويل
ماكرون" أوضح خلال اتصال هاتفي مع "أردوغان" أنه يجب أن تكون قوات
سوريا الديمقراطية "قسد" جزءاً من عملية الانتقال السياسي.
2-
الإعلان عن استضافة مؤتمر دولي مرتقب حول سوريا: أعلنت فرنسا، في 18 ديسمبر 2025، عن استضافتها اجتماعاً دولياً حول سوريا
خلال يناير 2025. ويعد هذا الاجتماع – الذي سيُعقد بحضور
عربي ودولي موسع – استكمالاً للقمة التي استضافتها مدينة العقبة الأردنية في منتصف
ديسمبر 2024، وشاركت فيه تركيا ودول عربية وغربية.
وتراهن باريس في هذا المؤتمر على دفع العملية السياسية الجديدة بمشاركة أطراف متعددة،
وضمان تشكيل حكومة سورية شاملة، وهو ما يعني – من وجهة نظرها – الحد من النفوذ
التركي من جهة، ودعم حضور التيارات المحلية الموالية لباريس من جهة أخرى.
3-
إرسال وفد دبلوماسي فرنسي إلى دمشق لإجراء مباحثات: أرسلت فرنسا، في 17 ديسمبر 2024، وفداً دبلوماسياً إلى دمشق من أربعة
دبلوماسيين برئاسة "جان فرنسوا جيوم"، وأجرى الوفد محادثات مع ممثلي
الإدارة الانتقالية، وركزت المهمة على تأكيد دعم فرنسا للإدارة الجديدة شريطة
الالتزام بالقواعد والقوانين التي تعمل على تطوير الحياة السياسية في سوريا، كما أكد
الوفد مساهمة باريس في الملاحقة القضائية للمسؤولين عن الانتهاكات خلال عهد نظام
الرئيس السابق "بشار الأسد"، وكذلك مساهمتها في إعادة الأموال المنهوبة
من السوريين، وبشكل خاص تلك المتعلقة بـ"رفعت الأسد". وبالتوازي، ركزت
مهمة الدبلوماسيين الفرنسيين على تفقد السفارة الفرنسية المغلقة منذ عام 2012، والعمل على إعادة فتحها.
4-
تأجيل رفع العقوبات الغربية المفروضة على دمشق: في الوقت الذي تسعى فيه تركيا إلى
تسريع تحركاتها لرفع العقوبات المفروضة على سوريا بجانب العمل على تلميع فصائل
المعارضة وتعبيد الطريق أمام انفتاحها على المجتمع الدولي؛ أكدت فرنسا في 12 ديسمبر 2024 أنه من السابق لأوانه رفع العقوبات
الأوروبية عن سوريا بعد الإطاحة بالرئيس "بشار الأسد". وقال
"كريستوف لوموان" المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية: "نعلم أن
نظام العقوبات على سوريا كان قاسياً، لكن نحن نتعامل مع هذا بطريقة منظمة، خطوة
بخطوة".
وفي
رؤية باريس، فإنه ينبغي ألا يتوقف تركيز الاتحاد الأوروبي على رفع العقوبات فقط،
بل ينبغي أن يركز على تحديد موقفه من عملية الانتقال في سوريا، والتأكد من إمكانية
العمل مع "هيئة تحرير الشام"، خصوصاً أنها جماعة لا يزال الاتحاد
الأوروبي يضعها على لوائح التنظيمات الإرهابية.
أهداف
متنوعة
ثمة
العديد من الأهداف التي تفسر حرص باريس على تكثيف الانخراط في المشهد السوري،
ومزاحمة الدور التركي في التوقيت الحالي. ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
1-
تحييد التمدد التركي في مناطق النفوذ القديمة: تعتبر فرنسا الساحة السورية
امتداداً لنفوذها القديم في منطقة المشرق العربي، بالإضافة إلى أن سوريا في رؤية
باريس تعد نقطة استناد استراتيجية لتأمين النفوذ الفرنسي في لبنان. وعلى ضوء ذلك،
فإن فرنسا لا تريد التسليم بانفراد تركيا بإدارة تطورات المشهد السوري الحالي، بل
تريد كبح تمددها في مناطق النفوذ التاريخية لفرنسا. وهنا، يمكن تفسير معارضة فرنسا
طوال السنوات التي خلت للتحركات التركية في ليبيا واليونان وقبرص وأذربيجان.
2-
تأمين المكتسبات الكردية المتحققة منذ 2011: يمكن تفسير إعلان وزير الخارجية الفرنسي عن
سعي بلاده إلى القيام بوساطة في التوقيت الحالي بين تركيا ووحدات حماية الشعب
الكردية، التي تخوض معارك شرسة مع الفصائل الموالية لتركيا منذ 30 ديسمبر 2024، في ضوء حرص باريس على الحفاظ على المكتسبات
الكردية التي تحققت منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011؛ حيث تمكنت الإدارة الذاتية الكردية من فرض هيمنتها على نحو ربع
الجغرافيا السورية، بالإضافة إلى كونها قوة عسكرية وازنة قادرة على مواجهة
انحرافات الإدارة الجديدة حال توجهها نحو تبني مقاربة أيديولوجية تتعارض مع
المصالح الغربية، وبخاصة حضور باريس.
3-
امتلاك أوراق مساومة مع أنقرة في الملفات الخلافية: تأتي التحركات الفرنسية
الحالية على الساحة السورية، ومحاولة تحقيق اختراق في العلاقة مع الإدارة
الانتقالية الجديدة، لتكشف عن محاولات فرنسا امتلاك أوراق ضاغطة على تركيا، خاصةً
مع استمرار تجاذبات الطرفين حيال العديد من الملفات الإقليمية، سواء في شرق
المتوسط أو فيما يخص العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي، كما تعي باريس أن توسيع
حضورها في سوريا، يسمح لها بالتأثير على تحركات أنقرة في غرب أفريقيا، وربما
مساومتها، لا سيما أن تركيا نجحت خلال الأشهر الأخيرة في ملء فراغ باريس، ومحاصرة
ما تبقى لها من تأثير، بعد تراجع دورها في دول الساحل والصحراء في أفريقيا.
4-
العمل على دعم النفوذ الفرنسي داخل سوريا: ترغب فرنسا في دعم نفوذها داخل سوريا،
وهو ما انعكس في أمرين: الأول هو سرعة تنظيم مؤتمر باريس لدعم سوريا المقرر عقده
في يناير 2025، والمنوط به دعم الاستقرار السياسي، وفتح
آفاق أمام إعادة إعمار سوريا كمرحلة مبدئية لإعادة بناء الأماكن المتضررة. والثاني
ظهر في تبني فرنسا خطاباً سياسياً تضامنياً مع مختلف القوى السياسية والمجتمعية
السورية، وبخاصة العنصر الكردي الذي يمثل شريحة مجتمعية وعرقية واسعة في الداخل
السوري.
ضبط الخلاف
وختاماً، يمكن القول إنه على الرغم من تحركات باريس الأخيرة على الساحة السورية، وإظهار دعمها للأكراد، ودعوتها لتأجيل رفع العقوبات لحين تكوين رؤية عن توجهات الإدارة السورية الجديدة ذات الطابع الإسلامي الذي تخشاه باريس، وتدعمه تركيا؛ فإن حاجة كل من فرنسا وأنقرة إلى الأخرى لتحقيق مصالح مشتركة، سواء في سوريا أو مناطق أخرى، قد يدفعهما إلى ضبط حدود الخلاف على الساحة السورية.
المراجع:
كرم سعيد، 25.12.2024، ما
دوافع التحركات الفرنسية في سوريا بعد سقوط "الأسد"؟ ، إنترريجونال
للتحليلات الاستراتيجية.
ب، ن، 17.12.2024، الغرب يوسع اتصالاته مع القيادة الجديدة في
سوريا والمبعوث الأممي يحذر من أن "النزاع لم ينته بعد “، موقع الشرق الأوسط.