تدخل
روسيا عام 2025 بموازنة عسكرية كبيرة بعدما وافق الرئيس
الروسي فلاديمير بوتين، في بداية ديسمبر 2024، على خطط الميزانية الفيدرالية، التي تهدف إلى رفع حجم الإنفاق
العسكري خلال عام 2025، إلى مستويات قياسية، وذلك مع وصول مخصصات
الميزانية الدفاعية إلى نحو 5.13 تريليون روبل (حوالي 126 مليار دولار)، ليشكل بذلك نسبة قياسية تبلغ 5.5% من إجمالي الميزانية الفيدرالية، و2.6% من الناتج المحلي الإجمالي. بالإضافة إلى ذلك، يُمثل إعلان روسيا
عن زيادة الإنفاق العسكري المقترح لعام 2025 لحظة تحولية في استراتيجيتها الجيوسياسية الحديثة؛ إذ يؤكد هذا
التحول على تركيز الكرملين على الأمن القومي في خضم صراع طويل الأمد في أوكرانيا،
وتصاعد التوترات مع حلف شمال الأطلسي والقوى الغربية.
أبعاد
محورية
ترتكز
خطة الإنفاق الدفاعي الجديدة على حماية السيادة الوطنية والأمنية، بجانب تلبية
الاحتياجات العسكرية في مختلف جبهاتها. ويمكن إيجاز أبرز أبعاد هذا القرار على
النحو التالي:
1-
مستوى تاريخي في حجم الإنفاق العسكري: تظهر ميزانية عام 2025 إعادة ترتيب ملحوظة في أولويات روسيا المالية، حيث سيتم توجيه جزء
كبير من موارد الدولة نحو مجالات الدفاع والأمن؛ فمن إجمالي الميزانية الفيدرالية
التي تبلغ 5.41 تريليون روبل، تم تخصيص 5.13 تريليون روبل للدفاع، وهو ما سيمثل زيادة
بنسبة 30% مقارنة بعام 2024، الذي شهد تخصيص 4.10 تريليون روبل لهذا القطاع. وبذلك، سيصل
الإنفاق العسكري إلى 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي، حتى مع توقع
انخفاضه تدريجياً –في حال انتهاء الصراع الأوكراني- إلى 6.5% في عام 2026، و5.1% في عام 2027، حسب تقديرات بلومبيرج المستندة إلى بيانات مسودة الميزانية
الثلاثية.
هذا
وتشير هذه النسبة المرتفعة إلى نهج يشبه إلى حد كبير سياسات الدفاع خلال الحقبة
السوفيتية، حيث كان يتم تخصيص موارد كبيرة للاستعدادات العسكرية المحتملة، وفي
كثير من الأحيان على حساب التنوع الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، خلال الحرب الباردة،
تجاوز الإنفاق الدفاعي السوفيتي نسبة 10% من الناتج المحلي الإجمالي في عدة سنوات.
2-
سرية الميزانية الفيدرالية الروسية: على الرغم من كبر حجم الإنفاق المعلن، إلا أن
هذا الرقم لا يشمل بعض الموارد الأخرى الموجهة إلى الحملة العسكرية، مثل تلك
البنود المصنفة كـ “أمن داخلي" أو النفقات التي تحمل طابعاً سرياً للغاية،
والتي قد تشتمل على الأموال المخصصة للعمليات السرية، والأنشطة الاستخباراتية،
والتقنيات التجريبية. ومن المتوقع أن يرتفع الإنفاق على هذه البنود السرية وغير
المحددة، إلى مستوى 9.11 تريليون روبل في عام 2025، مقارنة بـ 1.11 تريليون روبل كانت مخططة في البداية لهذا
العام، وهو ما يمثل حوالي30% من إجمالي الإنفاق في الميزانية. هذا
النطاق الواسع للإنفاق السري يعكس حجم الطموحات العسكرية الروسية، ويثير تساؤلات
حول التفاصيل الحقيقية للميزانية الدفاعية؛ إذ تشير التقديرات إلى أن الإنفاق
المشترك على الدفاع والأمن قد يشكل حوالي 40% من إجمالي الإنفاق الحكومي عام 2025.
3-
تصاعد حدة الاستفزازات الغربية: تعكس خطة الإنفاق العسكري الروسية المتزايدة
استجابة مباشرة لتصاعد التوترات مع الغرب، حيث دائماً ما يدعو الرئيس الأوكراني
زيلينسكي إلى انضمام بلاده إلى حلف الناتو كوسيلة لإنهاء "المرحلة
الساخنة" من الحرب. من ناحية أخرى، أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك
سوليفان، أن الولايات المتحدة ستواصل تقديم الدعم العسكري لتمكين أوكرانيا من
تحقيق أفضل موقع تفاوضي ممكن، وهو ما قد انعكس في استمرار دعم كييف بمليارات
الدولارات من المساعدات من حلفائها الغربيين، قائلاً: "البيت الأبيض في إدارة
بايدن سيمنح أوكرانيا الأدوات التي تحتاجها. وسنفعل أيضاً ما في وسعنا لوضعهم في
أفضل وضع ممكن على ساحة المعركة، حتى يكونوا في أفضل وضع ممكن على طاولة
المفاوضات، ومن ثم ستنتهي هذه الحرب في النهاية بالدبلوماسية".
4-
تطوير القدرات العسكرية والأمنية الروسية: أوضحت وزارة المالية الروسية في بيان
لها، أنه "سيتم تخصيص الموارد لتجهيز القوات المسلحة بالأسلحة والمعدات
العسكرية اللازمة، ودفع رواتب العسكريين، ودعم مؤسسات الصناعة الدفاعية"،
فضلاً عن التركيز على تطوير برامج الطائرات بدون طيار، والذكاء الاصطناعي في
الحرب، والقدرات السيبرانية، مما يعكس الطبيعة المتغيرة للصراع الحديث. كما تهدف
زيادة الرواتب والمزايا للأفراد العسكريين إلى تعزيز التجنيد ورفع الروح المعنوية؛
إذ سبق وأعلن الكرملين عن خطط لتوسيع القوات العاملة العسكرية إلى 1.5 مليون فرد
نشط بحلول عام 2025.
5-
تحديث الترسانة النووية الروسية: تتضمن خطة الإنفاق تحديث الترسانة النووية
الروسية، بما في ذلك تطوير الصواريخ الأسرع من الصوت ومنصات الإطلاق الحديثة، وذلك
تماشياً مع تصديق الرئيس بوتين، في نوفمبر 2024، على التعديلات على العقيدة النووية الروسية، التي توسع قائمة
الظروف التي قد تؤدي إلى استخدام روسيا للأسلحة النووية. وتؤكد العقيدة النووية
الروسية المحدثة أن سياسة الدولة في مجال الردع النووي تحمل طابعاً دفاعياً، وأن
روسيا تبذل كافة الجهود اللازمة للحد من التهديد النووي، وتنظر إلى الأسلحة
النووية كوسيلة للردع، حيث يعتبر استخدامها إجراءً اضطرارياً أخيراً. من جانبه،
كشف المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، أنه بموجب العقيدة النووية الجديدة، يعد
استخدام القوات المسلحة الأوكرانية للصواريخ الغربية غير النووية ضد روسيا قد
يستلزم رداً نووياً.
ويأتي
هذا التصعيد الروسي النووي في ظل ضغط أوكرانيا على حلفائها الغربيين للحصول على
أسلحة بعيدة المدى تسمح لها بضرب عمق أكبر داخل روسيا؛ حيث جاء توقيع بوتين على
المرسوم بعد سماح الرئيس الأمريكي جو بايدن لقوات كييف بشن ضربات باستخدام صواريخ
"أتاكمس" بعيدة المدى على عمق الأراضي الروسية.
6-
احتمالية تعدد مسارح المواجهات العسكرية: مما لا شك فيه أن هذه الميزانية ستشهد
تخصيص تمويل إضافي لدعم العمليات العسكرية في أوكرانيا وغيرها من مسارح الصراع
المحتملة، بما يشمل مهام الاستخبارات وأعمال التخريب، وخاصة في مناطق أوروبا
الشرقية، والتي باتت تسجل أكبر إسهام لها في الإنفاق الدفاعي الأوروبي منذ نهاية
الحرب الباردة. وتعد بولندا مثالاً بارزاً في هذا الصدد؛ حيث سجلت أكبر زيادة
نسبية في الإنفاق الدفاعي في أوروبا بين عامي 2022 2023,، وقامت بالفعل بتخصيص 8.3% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع خلال عام
2023، ورغم ذلك لا يزال هذا الرقم أقل من هدفها
المعلن البالغ 4%، والذي يمثل مضاعفة لمستهدفات حلف الناتو
البالغة 2%، نتيجة لمخاوفها المتعلقة بتمدد روسيا عسكرياً.
ومن
اللافت للنظر أيضاً أن هناك نمطاً واضحاً يظهر أن البلدان المجاورة لروسيا
وأوكرانيا، أو القريبة منهما، قد شهدت زيادات حادة في إنفاقها الدفاعي على مدى
العقد الماضي، ويُعزى ذلك غالباً إلى الوعي المتزايد بالتهديدات، خاصة بعد ضم شبه
جزيرة القرم عام 2014، واندلاع الحرب الأوكرانية عام 2022، واستمرارها حتى عام 2025 على الأقل.
7-
تفوق الإنفاق العسكري الروسي على نظيره الاجتماعي: تُظهر الميزانية الجديدة توجهاً
يجعل الإنفاق العسكري يفوق بوضوح الإنفاق على القطاعات الاجتماعية، مثل الصحة
والتعليم والرعاية الاجتماعية، التي تبلغ مخصصاتها مجتمعة أقل من 25% من إجمالي النفقات؛ حيث يتوقع أن تصل مخصصات هذه الاحتياجات إلى
6.5 تريليون روبل خلال عام 2025، وهو ما يشير إلى انخفاض الإنفاق الاجتماعي
بنسبة 16% من 7.7 تريليون روبل في العام الحالي (2024)، إلى 6.5 تريليون روبل في العام المقبل (2025).
8-
الرد على إقرار أوكرانيا زيادة كبيرة في حجم الإنفاق العسكري: يأتي إقرار الرئيس
بوتين للميزانية الفيدرالية لعام 2025، بالتوازي مع موافقة البرلمان الأوكراني،
يوم 19 نوفمبر 2024، على ميزانية الدولة لعام 2025، والتي تضمنت أيضاً زيادة كبيرة في الأموال المخصصة لجهود الدفاع
في البلاد، خلال الحرب مع روسيا المستمرة منذ ألف يوم؛ حيث تخطط أوكرانيا لإنفاق 2.2 تريليون هريفنا أوكرانية (7.53 مليار دولار أمريكي)، أي حوالي 26% من ناتجها المحلي الإجمالي، على الدفاع والأمن العام المقبل. من
ناحيته، أشار رئيس الوزراء الأوكراني "دينيس شميهال"، إلى أنّ الجزء
الأكبر من هذا الإنفاق سيُوجه إلى إنتاج الأسلحة وشرائها وتحديث صناعة الأسلحة في
البلاد.
تداعيات
محتملة
ثمة
تداعيات محتملة من المتوقع أن يشهدها العالم في ضوء الزيادات الكبيرة التي يشهدها
ثاني أقوى جيش في العالم خلال عام 2025، منها:
1-
تسارع وتيرة سباق التسلح العالمي: قد يؤدي تسارع الإنفاق العسكري الروسي إلى
تداعيات عميقة على الأمن الإقليمي والدولي؛ إذ من المرجح أن تستجيب دول حلف شمال
الأطلسي بزيادة ميزانياتها الدفاعية، ولا سيما تعزيز سباق التسلح في منطقة أوروبا
الشرقية، خط الدفاع الأول ضد الهجمات الروسية المحتملة. كما قد يُجبر نشر روسيا
لأسلحة متقدمة، مثل الصواريخ الأسرع من الصوت، حلف الناتو على تعزيز أنظمة الدفاع
الصاروخي، مما يخلق بيئة غير مستقرة تتسم بتفضيل الاستعداد العسكري على الحوار
الدبلوماسي.
وفي
السياق نفسه، أظهر تقرير معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري) لعام 2024، أن الإنفاق العسكري في أوروبا الوسطى والغربية أصبح الآن أعلى من
أي وقت مضى منذ انتهاء الحرب الباردة، حيث بلغ نحو 552 مليار يورو في عام 2023، الأمر الذي يشير إلى أنّ استمرار ارتفاع
مستويات الإنفاق العسكري الروسي، قد تدفع القارة الأوروبية –بالتوازي مع الولايات
المتحدة- للدخول في سباق تسلح جديد في مواجهة أعدائهم الشرقيين، روسيا والصين.
2-
تعقيد الصراع في أوكرانيا: تعكس زيادة الميزانية العسكرية الروسية رغبة موسكو في
تعزيز القدرات العسكرية واستمرار الحملة العسكرية على أوكرانيا، وذلك على الرغم من
توقع انتهاء الحرب بمجرد وصول الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب للبيت الأبيض
مطلع العام المقبل، فضلاً عن التوقع بحدوث انخفاض طفيف في الإنفاق العسكري الروسي
لعامي 2026 2027,، بيد أن هذه التوقعات تظل غير واضحة مع
استمرار الحرب. كما قد تُتيح الموارد الإضافية تصعيد الهجمات، خاصة في المناطق
المتنازع عليها مثل دونيتسك ولوهانسك، وبالتالي سيظل أكبر صراع في أوروبا منذ
الحرب العالمية الثانية قائماً، خاصةً في ذلك ظل تحقيق موسكو مكاسب على طول خطوط
المواجهة وتشن هجمات مضادة في مناطق مثل كورسك، التي شهدت النجاح العسكري الوحيد
لكييف هذا العام.
3-
التأثير على استقرار الاقتصاد الروسي: إن تحويل الموارد من القطاعات المدنية إلى
المجال الدفاعي يشكل تحديات عميقة على الاقتصاد الروسي، فبينما تتصاعد معدلات
التضخم التي وصلت حالياً إلى مستوى 1.9%، وبالتالي تضعف القوة الشرائية للمواطنين،
يتم تقلص البرامج الاجتماعية في الميزانية الجديدة، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي
العام. وفي ظل نقص العمالة المتفاقم بسبب الحرب وجهود التعبئة الجزئية، تعاني
الصناعات الأساسية من اختناقات حادة، ناهيك عن أن التركيز على الإنفاق الدفاعي
يؤثر سلباً على الخدمات الاجتماعية، مثل التعليم والصحة، مما يزيد من حدة الفجوة
الاقتصادية والإجهاد على البنية الاجتماعية.
هذا
وتأتي الطفرة الكبيرة في الإنفاق العسكري الروسي في وقت يشهد انخفاضاً في عائدات
النفط والغاز، التي طالما شكلت العمود الفقري للاقتصاد الروسي، بالتوازي مع
استمرار العقوبات في تقييد الوصول إلى الأسواق العالمية؛ إذ تُشير البيانات إلى أن
عجز الموازنة لعام 2024 سيصل إلى 7.1% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنةً بالتقديرات السابقة البالغة 1.1%. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أيضاً
استمرار انخفاض الإيرادات من النفط والغاز إلى 9.10 تريليون روبل بحلول عام 2025، مما يضع ضغوطاً إضافية على الميزانية الفيدرالية الطموحة.
4-
تفاقم معضلة مرحلة "ما بعد الحرب" بالنسبة لروسيا: إن الركود المتوقع في
روسيا بعد الحرب سيكون أكبر مما شهده الاقتصاد الروسي منذ عقود، ففي ظل انكماش
الاقتصاد المدني، ولا سيما الشركات الصغيرة والمتوسطة، بفعل تحويل العمالة إلى
الصناعات الدفاعية والعسكرية، إلى جانب سياسة البنك المركزي المتمثلة في رفع أسعار
الفائدة (21%)، فمن الطبيعي أن يتم إعاقة قدرة القطاع
المدني على الصمود في مرحلة ما بعد الحرب، الذي سيواجه صعوبات كبيرة في استعادة
قوته ومرونته.
وفي هذه المرحلة، ستواجه روسيا معضلات اقتصادية واجتماعية صعبة، ففي حال خفضت الإنفاق الدفاعي بعد الحرب، قد تواجه ركوداً اقتصادياً حاداً يُعرض استقرار النظام للخطر. وعلى الجانب الآخر، قد يؤدي استمرار الإنفاق الدفاعي العالي إلى خنق الاقتصاد المدني ويقوض فرص نموه المحتملة. وهناك خيار آخر متاح، ولكنه يحمل مخاطر كبيرة، يتمثل في استخدام الجيش الروسي للحصول على الموارد الاقتصادية من خلال استمرار توسعاته العسكرية أو التهديد بها.
المراجع:
عبد
الله جمال، 10،12،2024، ما دلالات
زيادة حجم الإنفاق العسكري الروسي؟،انترريجونال.
ب، ن، 1.12.2023، الإنفاق الحربي والسري يلتهم ميزانية روسيا
اقتصاد الشرق.