النفط العربي في الإستراتيجية الأمريكية
فرع بنغازي

في ظل التحولات التي تطرأ على النظام العالمي الجديد الذي تشكل في ظل تراجع الهيمنة الأميركية، بات الإمساك بزمام موارد النفط والغاز الطبيعي، وأنابيبه وممراته، معياراً أساسياً من معايير القوة الجيوسياسية، فهذه التحولات لم تأت إلا في سياق التبدل في مقومات القوة الاقتصادية والهيمنة العسكرية التي ترتكز على حجر أساس هو الطاقة بشكل عام. وتحتل منطقة الشرق الأوسط مقدمة الصراع الأكثر حماوةً في آليات التشابك بين المحورين الروسي والأميركي. ومن المتوقع أن يزداد التجاذب في هذه المنطقة من العالم وأن تتصاعد وتتكاثر فيها الأزمات أمام تحولها إلى مسرح للصراع الجيوبولتيكي من أجل السيطرة على مصادر النفط أو الاستفادة من أرباحه الطائلة. وليس بعيداً عن هذا الصراع الحرب التي حصلت في سوريا بما تمتلكه من موقع استراتيجي يطل على البحر المتوسط وبامتلاكها ثروة نفطية واعدة، ما جعل الإدارة الأميركية تسارع للسيطرة على مناطقها الاستراتيجية وآبارها النفطية، وبلا مواربة فإن السبب عينه يعد أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الروسي يثبت نفوذه في المنطقة. الأحداث التي مرت بها المنطقة منذ عام 2011 وصولاً إلى يومنا هذا.        

إحتل النفط منذ تم إكتشافه في منطقة الشرق الأوسط موقعاً مهماً على خريطة المصالح الاستراتيجية والاقتصادية للقوى الكبرى في العالم. فقد زادت الأهمية الاستراتيجية للنفط مع إعلان وزير البحرية البريطانية ونستون تشرشل تحول بريطانيا من استخدام الفحم لتسيير أسطولها البحري لاستخدام النفط مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، مما جعل السيطرة على منابع هذه الثروة أمراً مهماً في الاستراتيجيات العسكرية لكافة الدول الكبرى.

وربما يكون الوضع قد تعدل قليلاً بعد حركة الاستقلال عن الاستعمار خلال الخمسينيات وخاصة مع تشكيل الدول المنتجة للنفط لمنظمة البلدان المصدرة للنفط (الأوبك) في عام 1960 للدفاع عن مصالحها والتفاوض مع شركات النفط على تعديل أنصبتها في ثرواتها الخاصة. إلا أن الوضع ظل على ما هو عليه حتى أوائل السبعينيات حينما أقدمت الأوبك وللمرة الأولى (ومن جانب واحد) على تعديل المعادلة السعرية لما تحصل عليه كعائد على كل برميل نفط منتج. ففي يناير 1971 قررت منظمة الأوبك في مؤتمر طهران رفع سعر النفط بمقدار 35 سنتاً للبرميل، ثم بمعدل 5 سنت سنوياً، إلا أن تلاحق الأحداث رفعه إلى 1.9 ثم إلى 2.7 دولار للبرميل في السنتين التاليتين، إلى أن جاءت حرب أكتوبر لتقفز به إلى 9.76 دولار في عام 1974. ثم إلى أعلى من ذلك بكثير في سنوات تالية مع اندلاع الثورة الإيرانية ثم نشوب الحرب العرقية الإيرانية (1980-1988). وذلك إضافة إلى ارتفاع صوت بعض البلدان بالدعوة إلى تأميم ثرواتها النفطية، وهو ما تم بالفعل خلال السبعينيات من القرن الماضي.

لكن تظل بالطبع النقلة الكبرى في أسعار النفط هي تلك التي ترافقت مع نشوب حرب مصر في أكتوبر 1973، وفرض حظر على تصدير النفط العربي لبعض الدول الغربية المؤيدة الكيان الصهيوني، وما ترتب على ذلك من زيادة سعر برميل النفط إلى نحو أربعة أمثاله والبدء في سيطرة البلدان المنتجة على ثرواتها النفطية في أعقاب ذلك.

لقـد فاجـأ سـلاح الـنفط العـالم أجمـع وأحـدث ارتباكـاً فـي العلاقــات الدوليــة بحيــث أصــبح محــور الصــراع بــين الحكومــات العربيــة والحكومــات الغربيــة، وذلــك نتيجــة للاعتبارات التالية.:

1 -  هز سلاح النفط الأوضاع الاقتصادية في الدول الصناعية التي تناولها الحظر خلال فترة تنفيذه، فالتخفيض التدريجي في الإنتاج بنسبة 5 ً % شهريا، إلى جانب الحظر الشامل في تصدير النفط العربي إلى كل من الولايات المتحدة وهولندا بسبب انحيازها الفاضح لإسرائيل، كل ذلك أحدث خللاً مفاجئاً في أسواق النفط العالمية.

2 - أدى الارتفــاع الجنـــوني للأســعار، إلـــى تفـــاقم المشــاكل والصـــعوبات الاقتصـــادية فــي وجـــه الـــدول المستهلكة ، لذلك كان لقرار حظر الـنفط العربـي آثـار سـلبية علـى الاقتصـاد الأمريكـي مـن ضـمنها تسـريح 250 ألف أمريكي من العمل خلال فترة الحظر، بينهم 80 ألفاً مـن صـناعة السـيارات و 15 ألفـاً مـن مـوظفي شـركات الطيران، والآلاف من مستخدمي الفنادق والمطاعم .

3 - أحدث سلاح النفط انخفاضاً في الناتج القومي الأمريكـي بلـغ حـوالي 3.6%خـلال أثنـاء الربـع الأول مـن عـام 1974، ثـم أدت زيـادة أسـعار الـنفط المسـتورد إلـى عجـز فـي الميـزان التجـاري الأمريكـي خـلال شـهر أبريـل بلـغ حـوالي 3.171 مليـون دولار، بالإضـافة إلـى ذلـك أدى الارتفـاع المتزايـد فـي أسـعار الـنفط إلـى زيـادة أسعار كل المنتجات البتروكيمائية ومعها ارتفعت سائر المنتجات والسلع الاستهلاكية الأخرى.

اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالنفط العربي منذ الحرب العالمية الثانية:

ظلت الولايات المتحدة الأمريكية قبل الحرب العالمية الثانية، تتبع في المنطقة العربية سياسة مبنية على أساس حماية حقوقها التجارية وعدم التورط سياسياً في بلاد اعتبرتها منطقة نفوذ أوروبي، إلا أنها أخذت منذ دخولها الحرب إلى جانب الحلفاء تبحث لنفسها عن سياسة جديدة تجاه المنطقة، وقد بدأت هذه السياسة بتقديم الإمدادات والخدمات العسكرية والمدنية اللازمة لبلدان تلك المنطقة، كما زادت من حجم وجودها العسكري في الخليج لمد القوات السوفياتية بالعون عبر إيران.

في عام 1947 أعلن الرئيس الأمريكي هاري ترومان بيان سياسي عرف بـ" مبدأ ترومان" لزم فيه الولايات المتحدة تحمل مسؤوليات سياسية وأمنية مباشرة في الشرق الأوسط تحفظ بها مصالحها النفطية ، وتنفيذاً لهذا المبدأ ، ربطت الولايات المتحدة ، المساعدات العسكرية والاقتصادية ، التي تقدمها لدول المنطقة بالتزام هذه  الدول باستراتيجيتها العامة المعادية لسياسة التوسع السوفياتي ، وكان التطبيق الأمثل لمبدأ ترومان في الشرق الأوسط هو دعم دولة  الكيان الصهيوني المستمر لبقائها واستمرارها كخط دفاع أول لحماية مصالح أمريكا النفطية ضد الخطر السوفياتي وقوى التحرر العربي ، وتجسد المبدأ أيضاً في مساعي أمريكا لربط المنطقة بسلسلة من الأحلاف والتكتلات ومعاهدات الدفاع المشترك.

تزايد الاعتماد الأمريكي على نفط المنطقة ثم انخفاضه:

ارتفعت الواردات الأمريكية الصافية من النفط من 4.286مليون برميل يومياً في عام 1985 (نحو 27.3% من جملة الاستهلاك) إلى 10.05 مليون برميل يومياً في عام 2000 (51.6% من الاستهلاك)، لتبلغ ذروتها في عام 2005 بنحو 12.549مليون برميل يومياً (ما يقرب من 60% من جملة الاستهلاك).

وربما كان الأكثر أهمية هو إدراك الولايات المتحدة لحاجتها المستمرة والمتصاعدة لنفط منطقة الخليج العربي، فقد حاولت الولايات المتحدة (وخاصة بعد تجربة حظر النفط العربي عام 1973) تخفيف اعتمادها على نفط المنطقة بحيث بلغت وارداتها منه نحو 502 ألف برميل يومياً فقط في عام 1985 (نحو 11.7% من صافي الواردات). وقد حدث ذلك بمحاولة التنويع في مصادر إمدادات الولايات المتحدة من النفط طوال الوقت وبعيداً عن منطقة الشرق الأوسط.

وقد ترتب على ذلك زيادة الاعتماد أكثر على المصادر النفطية المتوافرة في نصف الكرة الغربي (كندا-المكسيك-فنزويلا- كولومبيا)، إلى جانب نيجيريا في أفريقيا، إلا أنها لم تستطع الاستمرار في هذا الاتجاه طويلاً نتيجة لزيادة استهلاكها، وبالتالي زيادة وارداتها في الوقت الذي لم تستطع فيه هذه المصادر المذكورة مواكبة هذه الزيادة في الاستهلاك. فقد قفزت الواردات الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط لتسجل 2.883 مليون برميل يومياً عام 2000 (تشكل 25.7% من صافي الواردات) ثم 3.309 مليون برميل يومياً (تشكل 30.35% من صافي الواردات) عام 2001، ورغم انخفاض الواردات من الشرق الأوسط إلى 3.021 مليون برميل يومياُ عام 2008 إلا أنها شكلت نحو 30.9% من صافي الواردات نتيجة لانخفاض صافي الواردات إلى 9.764 مليون برميل بأثر انخفاض الاستهلاك مع نشوب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. ثم هبطت الواردات من المنطقة مرة أخرى لتبلغ 2.802 مليون برميل يومياً في عام 2009 مثلت نحو 28.2% من صافي الواردات، وهو ما قد يكون ناجماً عن خفض منظمة الأوبك لصادرات أعضاءها في هذا العام لمحاولة العمل على دعم سعر برميل النفط. أضف إلى هذا كله أن الاتجاه للاعتماد على نصف الكرة الغربي كان قد اتجه بدوره للتعقد مع صعود الرئيس اليساري الراحل هوجو شافيز لحكم فنزويلا منذ عام 1999، ولعب بلاده لدور جديد ومؤثر داخل منظمة الأوبك، بحيث كانت النتيجة هي مزيد من البعد عن الولايات المتحدة، بل وتفجر العداء العلني معها. وباختصار يمكن القول إنه رغم محاولة الولايات المتحدة الابتعاد عن التزود بالنفط من منطقة الشرق الأوسط، إلا أن تزايد استهلاكها واستمرار تدهور معدلات إنتاجها المحلي أعاداها للاعتماد على المنطقة لسد جزء كبير من احتياجاتها خاصة في الألفية الجديدة وحتى أعوام قليلة خلت.

ويمكن القول إنّ ثروة النّفط والحاجة إلى الطاقة هي الجاذب الأساسيّ للدّول الكبرى إلى العالم العربيّ، وكذلك تأتي هذه الحاجة كسببٍ أساسيٍّ للدّخول الرّوسيّ المباشر على الحرب في سوريا، ورعاية مصالحها الحيويّة في الحصول على إمدادات النّفط والغاز، وفي حماية أنابيب النّقل في المنطقة وصولاً إلى موانىء التّصدير.

وكل ذلك يؤكّد بالمقابل حجم الأهميّة التّي تُولّيها القوى الدوليّة للمنطقة كما تُـظهر حجم التّعقيد في الواقع السّياسيّ والاقتصادي والاجتماعيّ، الذّي تشهده المنطقة العربيّة، ممّا يعرضها لاهتزازاتٍ سياسيّةٍ وأمنيّةٍ واضطراباتٍ خطيرةٍ، تضرب معظم دولها منذ سنواتٍ، وتستفيد منه الدّول الكبرى في رسم سياساتها وتنفيذ مشاريعها، وكذلك في تعزيز مصالحها الحيويّة، وفي تأمين خطوط نقل إمداداتها من النّفط والغاز على امتداد العالم ، فوجود ما يعادل 80% من الطاقة الإنتاجية للنّفط في الدّول التّي تقع في منطقة الخليج، يمنحها الأهميّة الاستراتيجيّة للنّفط العربيّ في إمدادات الطّاقة العالميّة. وبالتّالي، فإنّ هذه النّتيجة تنقل مسؤولية تنسيق العرض العالميّ للنّفط بصفةٍ أساسيّةٍ إلى المنطقة العربيّة، إذا ما أُضيفت إليها احتياطات الدّول العربيّة الأخرى للمساهمة في تلك الاحتياجات؛ مثل سلطنة عمان والجزائر وليبيا. في المقابل، فإنّ العجز في الدّول المستهلكة للنّفط سوف يزداد مع الوقت، ممّا يؤّدي الى اتّساع فجوة الاستيراد في الوقت الذّي يزداد فيه تركّز إنتاج النّفط، وخاصةً في دول الخليج.





المراجع:

مجدى صبحى، 20/7/2022، النفط ومكانة الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

علي إبراهيم مطر، 2020-01-25، النّفط العربي في الاستراتيجية الأميركية وتأثيره على الأمن العربيّ، مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية.

د. ذيب اسليم القرالة، 14/ 08/ 2019، النفط العربي في الإستراتيجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى 2016، المركز الديمقراطي العربي.

المقالات الأخيرة