شهدت
الأعوام الثلاثة الأخيرة العديد من التحولات السياسية والإستراتيجية في العالم
بصفة عامة، والشرق الأوسط بصفة خاصة، كان أهم ملامحها التمدد الصيني، ليس فقط
اقتصاديًا كما كان سائدًا من قبل، ولكن أيضًا سياسيًا ولوجيستيًا، بعد توقيعها
لعدد من اتفاقات الشراكة الاستراتيجية مع قوى إقليمية فاعلة في المنطقة، وكذلك
تعزيز حضورها عبر تكتلات وتحالفات دولية في مقدمتها “بريكس” و”شنغهاي”.
الصين
هي القوة الاقتصادية المهيمنة في المنطقة، وقد سعت منذ مدة طويلة للمواءمة بين
مكانتها الدبلوماسية وتأثيرها الاقتصادي الكبير. وحتى الآن، لم تتأثر سمعتها
الدبلوماسية في المنطقة بما يجري على أرض الواقع، والنجاح في إقناع عدد من الأطراف
الإقليمية بالموافقة علنًا على اتفاق لخفض التصعيد يُشكل نصرًا دبلوماسيًا للصين.
ويقدم
الرئيس “شيء جين بينغ” رؤية مختلفة للعالم وإدارة العلاقات الدولية، جوهرها أن
الصين قد أصبحت قوة اقتصادية عظمى في العالم تصل إلى كل أركان الأرض مثلما هو
الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع هذه القوة تمتلك تقدمًا صناعيًا
وتكنولوجيًا يجعل الناتج المحلي الإجمالي للصين يقترب اسميًا من نظيره الأمريكي،
ويتفوق عليه إذا ما احتُسب استنادًا إلى القوة الشرائية للدولار.
والصين
تصل إلى أرجاء العالم بسلع وبضائع وتكنولوجيات تقاوم الفقر وتتجه نحو النمو، وتقدم
للعالم نموذجًا للكفاءة والإنجاز، ولا تحمل نظريات تبشيرية مثل تلك التي تحملها
الولايات المتحدة عن “صراع الحضارات” أو “الديمقراطية في مواجهة السلطوية”، وكذلك
لها وجهة نظر في ضرورة مراجعة النظام الدولي الذي ساد بعد نهاية الحرب الباردة
وأدى إلى العولمة وهيمنة الولايات المتحدة وعملتها الدولارية.
وكشفت
أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا أن الصين وقفت مع روسيا لمراجعة أسس النظام
الدولي، الذي تشَّكل بعد انتهاء الحرب الباردة، وأنها متفهمة ومساندة للموقف
الروسي الرافض لتوسعات حلف شمال الأطلسي في اتجاه أوكرانيا أو أي اتجاهات أخرى،
ومع ذلك، فإن بيجين، من ناحية أخرى، دأبت على الامتناع عن التصويت في المحافل
الدولية المختلفة، فضلًا عن قيامها بتقديم مساعدات إنسانية لأوكرانيا، ورفضت من
حيث المبدأ التدخل العسكري الروسي في الأراضي الأوكرانية وضم موسكو لشبه جزيرة
القرم، ثم إقليم الدونباس، ثم طرحت مبادرة لتسوية الأزمة في مارس 2023 ، انطلقت
فيها من أن الصراعات والحروب لا تنتج منتصرًا، ولا يوجد حل بسيط لقضية معقدة، ويجب
تجنب المواجهة بين الدول الكبرى.
سياسة
الصين تجاه الدول العربية
يعتبر
العالم العربي شريكا مهما للصين التي تسلك بخطوات ثابتة طريق التنمية السلمية في
مساعيها لتعزيز التضامن والتعاون مع الدول النامية وإقامة علاقة دولية من نوع جديد
تتمحور على التعاون والكسب المشترك. وينظر الجانب الصيني دائما إلى العلاقات
الصينية العربية من الزاوية الاستراتيجية، ويلتزم بتوطيد وتعميق الصداقة التقليدية
بين الصين والدول العربية كسياسته الخارجية الطويلة الأمد. ستلتزم الصين بالفهم
الصحيح للمسؤولية الأخلاقية والمصلحة للربط الوثيق بين الجهود الهادفة إلى تعزيز
السلام والاستقرار والتنمية في الدول العربية والجهود الرامية إلى تحقيق تنمية
أفضل في الصين، وذلك من أجل الكسب المشترك والتنمية المشتركة من خلال التعاون
وبالتالي استشراف آفاق أكثر إشراقا لعلاقات التعاون الاستراتيجي بين الصين والدول
العربية.
تلتزم
الصين بتطوير علاقاتها مع الدول العربية على أساس المبادئ الخمسة المتمثلة في
الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون
الداخلية، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. وتقف إلى جانب عملية
السلام في الشرق الأوسط وتدعم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة
الكاملة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وتدعم الجهود المبذولة من
جامعة الدول العربية ودولها الأعضاء في هذا السبيل. تتمسك بحل القضايا الساخنة في
المنطقة بطرق سياسية وتدعم إقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة
الدمار الشامل في الشرق الأوسط، كما تؤيد الجهود الحثيثة التي تبذلها الدول
العربية من أجل تعزيز التضامن ووضع حد لانتشار الأفكار المتطرفة ومكافحة الإرهاب وغيرها.
وتحترم الصين خيار شعوب الدول العربية، وتدعم جهود الدول العربية في استكشاف الطرق
التنموية التي تتناسب مع خصوصياتها الوطنية بإرادتها المستقلة، مع الأمل في زيادة
تبادل الخبرة مع الدول العربية بشأن حكم وإدارة البلاد.
يحرص
الجانب الصيني على إجراء التعاون العملي مع الدول العربية وفقا لمبدأ المنفعة
المتبادلة والكسب المشترك، وخاصة من خلال التشارك في بناء "الحزام
والطريق"، الذي سيتم في عملية تناسق استراتيجيات الجانبين للتنمية وتوظيف ما
لديهما من المزايا والإمكانيات الكامنة والدفع بالتعاون الدولي في مجال الطاقة
الإنتاجية وتوسيع دائرة التعاون في البنية التحتية ومجال تسهيل التجارة
والاستثمار، إضافة إلى الطاقة النووية والفضاء والأقمار الاصطناعية والطاقة
الجديدة والزراعة والمالية وغيرها، بما يحقق التقدم المشترك والتنمية المشتركة،
ويعود بمزيد من فوائد على أبناء شعوب الجانبين. يحرص الجانب الصيني على التعاون مع
الدول العربية للدفع بآلية تعاون من نوع جديد تقوم على الانفتاح والمنفعة
المتبادلة والكسب المشترك، كما سيواصل تقديم ما في مقدوره من المساعدة للدول
العربية عبر قنوات ثنائية ومتعددة الأطراف وفقا لاحتياجات الأخيرة، بما يساعد على
الارتقاء بمستواها المعيشي وقدرتها على تنمية نفسها.
تحرص
الصين على مشاركة الدول العربية في المساعي لتكريس التنوع الحضاري في العالم،
وتعزيز التواصل والاستفادة المتبادلة بين مختلف الحضارات، وزيادة توثيق التواصل
الإنساني والثقافي بين الصين والدول العربية، وتعزيز التعاون بين الجانبين في
مجالات العلوم والتربية والتعليم والثقافة والصحة والإذاعة والسينما والتلفزيون،
وذلك في سبيل زيادة التفاهم والصداقة بين شعوب الجانبين، والتكامل والتمازج بين
الثقافتين الصينية والعربية، وبالتالي بناء جسور للتفاهم والتواصل تساهم في توحيد
جهود الأمتين الصينية والعربية في الدفع بالتقدم والازدهار للحضارة البشرية.
يحرص
الجانب الصيني على تعزيز التشاور والتنسيق مع الجانب العربي للعمل سويا على صيانة
المقاصد والمبادئ لـ"ميثاق الأمم المتحدة"، مع تطبيق أجندة الأمم
المتحدة للتنمية المستدامة 2030 ، بما
يحافظ على العدل والعدالة في المجتمع الدولي ويدفع بالنظام الدولي نحو اتجاه أكثر
عدلا وإنصافا، واحترام المصالح الحيوية والهموم الكبرى للجانب الآخر في إصلاح
الأمم المتحدة وتغير المناخ والأمن الغذائي وأمن الطاقة وغيرها من القضايا الدولية
الهامة، ودعم المطالب المشروعة والمواقف الصائبة للجانب الآخر، والعمل بحزم على
حماية المصلحة المشتركة للدول النامية الغفيرة.
الصين
وإعادة تشكيل العلاقات في الشرق الأوسط:
إن
الوساطة الصينية في إدارة الصراعات والنزاعات الإقليمية والدولية تُمثل شكلًا من
أشكال إعادة تشكيل التفاعلات والتحالفات في الشرق الأوسط، الذي تمددت فيه الصين
بقوة، مفادها قوة الحضور الصيني، وخاصة مع إعادة انتخاب شيء جين بينغ رئيسًا
للبلاد لولاية ثالثة مدتها 5 سنوات، حيث تتطلب الوساطة الفعالة فهمًا عميقًا
للقضايا والحساسيات ذات الصلة، من ناحية، وظهور التأثير والفعالية الأكبر للقوة
الاقتصادية على نظيرتها العسكرية التي تتفوق فيها الولايات المتحدة على الصين، كما
أن الصين لديها طريقة أخرى لإدارة وجودها الدولي، فهي لم تتورط في أي من أزمات
الشرق الأوسط، من ناحية ثانية، ويعد البيان الثلاثي دليلًا على أن الدبلوماسية
الصينية بدأت في ممارسة نفوذها في أهم المناطق الاستراتيجية العالم، من ناحية
ثالثة.
وعرضت
نموذجًا جديدًا لتحقيق الأمن والسلام في واحدة من أهم بؤر التوتر في العالم، دون
حاجة إلى الانخراط في أعمال عسكرية لفرض الأمن أو السلام، كما تفعل الولايات المتحدة،
كما وسّعت الصين نفوذها الأمني في منطقة رئيسة من مناطق المصالح الأمنية والحيوية
الأميركية بشكل يؤثر في معادلة الأمن الدولي الأميركي، ردًا على توسيع أميركا
لنفوذها الأمني على تايوان بشكل مهدد لوحدة الصين وأمنها الجيوسياسي.
وحول
حدود هذا الدور الصيني ومكتسباته، يرى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر
أنه وهو يراقب الصين وهي ترعى وساطات إقليمية وتطرح مبادرات دولية، يعتقد أن هذا
الدور الصيني مشابه لما أنجزه كيسنجر عام 1971، وقال: “أنظر إليه باعتباره تغير
جوهري في الوضع الاستراتيجي بالشرق الأوسط”.
وأضاف:
“إنه كان قادرًا مع الرئيس ريتشارد نيكسون على اللعب بالتوتر بين بيجين وموسكو في
توقيع الاتفاق التاريخي بين الصين والولايات المتحدة”، واليوم يريد الرئيس شيء جين
بينغ لعب الدور نفسه من خلال وساطات ممتدة وتحالفات متنوعة، وتقديم البديل
الاستراتيجي الذي ينافس به الحضور الأمريكي في العالم وفي المنطقة.
وأضاف
كيسنجر: “أن ظهور بيجين كصانع سلام سيغير شروط المرجعية الدبلوماسية الدولية، فلم
تعد الولايات المتحدة القوة التي لا يستغني عنها أحد بالمنطقة، أي الدولة القوية
أو المرنة بدرجة لكي ترعى اتفاقيات السلام، وقد طالبت الصين بحصة من هذه القوة”،
لقد “أعلنت الصين في السنوات الماضية عن حاجتها لأن تكون مشاركة في خلق النظام
الدولي، وتحركت خطوة مهمة الآن بهذا الاتجاه، مؤكدًا أن الدور المتزايد للصين
سيعقّد من قرارات إسرائيل وما يراه قادتها حول شن حرب وقائية ضد إيران كخيار أخير،
في وقت تتحرك طهران باتجاه التحول إلى قوة نووية”.
الوساطات
الصينية وآفاقها المستقبلية:
إن
الوساطات الدبلوماسية الصينية ومبادرات التسوية الدولية والإقليمية وتقديم ضمانات
صينية في هذه الوساطات وتلك المبادرات يوفر لها نفوذًا يساعدها في تحقيق مشروع
الحزام والطريق الذي يمر عبر العديد من دول العالم، فضلًا عن ضمان تدفق موارد
الطاقة من شركائها الاستراتيجيين الذين يشكلون أهم مصادر الطاقة للصين، وبالتالي
تضمن الصين تعظيم أمن الطاقة في ظل ما يشهده العالم من تداعيات على خلفية تطورات
الحرب الأوكرانية.
لقد
كشفت الوساطات الصينية عن تحوّلات عميقة في السياسة الصينية من التركيز على
المصالح الاقتصادية إلى إقامة علاقات استراتيجية شاملة، من بينها إمكانيات التبادل
التجاري بين الصين وشركائها الاستراتيجيين بالعملة الصينية (اليوان)، وإعلان الصين
استعدادها للتعاون مع العديد من دول العالم في المجالات التكنولوجية المتقدمة ذات
التطبيقات الأمنية والاستراتيجية، بما في ذلك بناء المفاعلات النووية المدنية،
لهذا طرحت الصين خطط عمل استراتيجية جوهرها التنمية والأمن في الشرق الأوسط، يعزز
ذلك البيانات الرسمية التي تكشف أن الصين أصبحت أكبر شريك تجاري لدول المنطقة منذ 2020.
الأمر الذي يعني في التحليل الأخير أن الصين تمتلك رؤية استراتيجية لمستقبل الشرق الأوسط، ولعلاقاتها بالأطراف المؤثرين فيه، وأنها شرعت في تنفيذ هذه الرؤية بصورة تدريجية، وهو الأمر الذي يعني أن الاهتمام الصيني بتطورات المنطقة، وكذلك سعيها للدخول طرفًا في تفاعلاتها سوف يكون الواقع الجديد الذي تتجه دول العالم المعنية بالشرق الأوسط إلى التجاوب معه، في إطار مبادرة الرئيس الصيني للسلام العالمي التي أعلن عنها في أبريل 2020، والتي تقوم على بناء سلام عالمي مؤسس على المشاركة في التنمية الاقتصادية وبناء أمن عالمي تشاركي.
المراجع:
( ب ، ن ) ،(ب ،ن ) ، الصين في (السياسة
الدولية) ، موقع الصين اليوم.
( ب
، ن) ، 24.7.2016 ، اثر العلاقات الصينية
– الامريكية على النظام الدولي ، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية
، الاقتصادية والسياسية.