محاور الدعم الأمريكي لأوكرانيا في العام الثاني من الحرب
فرع بنغازي

مع دخول الحرب الأوكرانية عامها الثاني، ما تزال الإدارة الأمريكية عازفة عن تحديد رؤيتها لكيفية وضع نهاية لهذه الحرب، موجهة تركيزها على فرض عقوبات واسعة النطاق على روسيا وضخ المزيد من الأسلحة الحديثة لكييف، والضغط على الحلفاء لفعل ذلك. ولا يبدو أن أياً من الطرفين مستعد للتفاوض، بل يسعى كلاهما لشن هجمات كبيرة. ولم ينجح أي من الطرفين في تحقيق إنفراجة كبيرة في الأشهر الأخيرة من شأنها أن تغير مسار هذه الحرب، وقد أدى إخفاق روسيا في الفوز بالحرب الخاطفة في البداية إلى إثارة العديد من التكهنات بشأن انتصار أوكراني وشيك، لم يتحقق حتى الآن، كما ظهرت مخاوف من دخول واشنطن وموسكو في مواجهات مباشرة بعد حادثة اصطدام مقاتلة روسية بطائرة مُسيّرة أمريكية فوق البحر الأسود يوم 14 مارس 2023.

شكّل مجلس الأمن القومي الأمريكي منذ نوفمبر 2021 فريقاً كبيراً من المتخصصين والخبراء السياسيين والعسكريين لتنسيق الرد السياسي والاقتصادي والعسكري على اجتياح روسيا للحدود الدولية لأوكرانيا، وأطلق على هذه المجموعة اسم "فريق النمر".

ويقود هذا الفريق العمليات الأمريكية في أوكرانيا على المستويات كافة، من تلقي المعلومات الاستخباراتية ومشاركة أجهزة الاستخبارات في تحليل المعلومات القادمة من أوكرانيا وروسيا، ووضع التصور والرؤية للخطوات الروسية القادمة. وبناءً على ذلك، سيقدم "فريق النمر" في العام الثاني من الحرب الخيارات المناسبة للرئيس بايدن وفريق الأمن القومي الأمريكي بقيادة جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، بالإضافة إلى تنسيق المشاركة والاستجابة الأمريكية من خلال وزارات الدفاع والخارجية والطاقة والخزانة والأمن الداخلي في هذا الفريق.

المحاور الإستراتيجية:

ويواصل "فريق النمر"، الذي قدّم أداءً جيداً، من وجهة النظر الأمريكية، في العام الأول من الحرب الأوكرانية، قيادة الجهد الأمريكي في العام الثاني من الحرب، وذلك من خلال استراتيجية ترتكز على 10 محاور رئيسية، كالتالي:

1- الحفاظ على دعم الداخل الأمريكي لكييف:

يرتبط تحقيق الأهداف الأمريكية في أوكرانيا بالحفاظ على مساحة القوة والزخم الداخلي التي ما زالت تجمع الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وأسهم هذا التعاون بين الحزبين في إقرار مليارات الدولارات من المساعدات الاقتصادية والعسكرية لأوكرانيا. ويحتل هذا الهدف أولوية كبيرة لدى الإدارة الأمريكية في العام الثاني من الحرب، في ظل نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة التي أفادت بتراجع الدعم الشعبي الأمريكي لمبدأ "شيك على بياض" لأوكرانيا، حيث انخفض التأييد بين الأمريكيين لتقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا إلى 58%، وفق مسح جديد أجرته "وكالة رويترز" لأكثر من 4 آلاف أمريكي في الفترة من 6 إلى 13 فبراير 2023، وهو انخفاض عن نسبة 73% الذين قالوا إنهم يؤيدون الدعم بالأسلحة، في استطلاع إبريل 2022.

كما أن عدداً متزايداً من الجمهوريين في مجلس النواب يرفضون مبدأ "شيك على بياض" لدعم كييف، لذلك حرص البيت الأبيض، وخاصة مستشار الأمن القومي، على الرد على حملة "الأمريكيون أولى بالمساعدة"، بالقول إن الولايات المتحدة ستواصل دعم أوكرانيا دون إهمال المواطن الأمريكي، مع تأكيد أن دعم كييف يحقق مصلحة لواشنطن، وأن سيطرة روسيا على أوكرانيا ستلحق ضرراً بالغاً بقيادة الولايات المتحدة للعالم.

2- تغيير ديناميكيات الحرب:

تقوم الحسابات الأمريكية على أن الصمود الأوكراني في العام الأول من الحرب ضد القوات الروسية، واستعادة مناطق في خيرسون غرب نهر دنيبرو، وقبلها مساحات شاسعة من خاركوف؛ كان في الغالب بأسلحة سوفيتية سابقة سواء كانت لدى الجيش الأوكراني أو جاءت من الدول السوفيتية في شرق أوروبا. لكن العام الثاني من الحرب يبدأ في ظل غلبة للأسلحة الغربية لدى الجيش الأوكراني الذي حصل في بداية الحرب على صواريخ "جافلين" و"ستينغر" المضادة للدروع والدبابات.

وبدأ العام الثاني للحرب مع وصول دبابات "ليوبارد 2" الألمانية، و"شالنجر 2" البريطانية، و"إيه إم إكس  10" الفرنسية، وقبل ذلك تمت الموافقة على إرسال منظومات الدفاع الجوية العملاقة مثل "باتريوت" و"ناسامز" و"هيمارس". والهدف من كل ذلك، بحسب وزارة الدفاع الأمريكية، هو تغيير ديناميكيات الحرب؛ التي تعتمد في العام الثاني على تدريب وتجهيز عدة ألوية من المشاة الميكانيكية والمدفعية بما يساعد على اختراق الدفاعات الروسية، وهو ما سيخلق "ديناميكية جديدة" تعتمد على المعدات الحديثة التي يُراهن عليها لتغيير حالة الجمود الحالية. ومن شأن هذه الديناميكيات الجديدة أن تساعد الأوكرانيين على تشكيل مسارات الحرب وصولاً إلى تحقيق الهدف باستعادة الأراضي الأوكرانية.

3- دعم "الجناح الشرقي" لحلف الناتو:

تقوم الاستراتيجية الأمريكية في مواجهة روسيا على الدفاع عن كل شبر من أراضي حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وخاصة دول "الجناح الشرقي" التي تجاور روسيا مباشرة أو تجاور أوكرانيا وبيلاروسيا. ويأخذ هذا الدعم أشكالاً مختلفة، منها:

أ - مواصلة دعم الولايات المتحدة لدول "الجناح الشرقي" أو ما يُطلق عليها "مجموعة بوخارست التسع"، بهدف تعزيز الدفاعات الخاصة بحدود هذه الدول التي تمثل حدود "الناتو" الشرقية، من خلال تشارك المعلومات، ودعم الأصول العسكرية مثل القواعد والمطارات العسكرية لتكون جاهزة حال تمدد الصراع.

ب - تمركز نسبة كبيرة من الجنود الأمريكيين الذين وصل عددهم إلى 100 ألف جندي في أوروبا، في دول "الجناح الشرقي" لحلف "الناتو".

ج - دعم واشنطن لإعادة تسليح جيوش هذه الدول، سواء بشكل مباشر مثل موافقة الكونغرس على بيع طائرات وأسلحة حديثة لبولندا ورومانيا، ونصب منظومات دفاع جوي حديثة في رومانيا وبلغاريا ودول بحر البلطيق الثلاث، أو بطريقة غير مباشرة مثل تمركز الجنود الألمان والبريطانيين في دول البلطيق.

د - دعم إبرام صفقات سلاح عملاقة بين دول "الجناح الشرقي" للناتو وحلفاء واشنطن الآسيويين، مثل صفقة شراء بولندا لنحو 1000 دبابة وأنظمة دفاعية أخرى من كوريا الجنوبية.

هـ - تأكيد الالتزام الكامل وغير المشروط بروح ونصوص المادة الخامسة من ميثاق دول حلف "الناتو"، التي تنص على أن أي اعتداء على دولة واحدة من الحلف سيجد استجابة ودفاعاً من كل دول "الناتو".

4- زيادة الإنفاق الدفاعي للحلفاء:

ترتكز الاستراتيجية الأمريكية للعام الثاني من الحرب في أوكرانيا، على مبدأ "المواجهة الطويلة" مع روسيا، ولهذا تدفع الولايات المتحدة شركاءها وحلفاءها في أوروبا للوفاء بنسبة إنفاق دفاعي يساوي 2% من الناتج القومي لهذه الدول، وهو هدف أقره حلف "الناتو" منذ "قمة ويلز" في عام 2014، وكان سبباً كبيراً للخلاف بين الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، ودول مثل ألمانيا وهولندا وإسبانيا.

5- عدم الانخراط المباشر في حرب مع روسيا:

تقوم استراتيجية "فريق النمر" على الإعلان بوضوح كامل عن عدم التورط في "حرب مباشرة" مع روسيا، من خلال تكرار أن الولايات المتحدة ومعها دول الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو" لن تنخرط في حرب مع روسيا على الأراضي الأوكرانية، وذلك عبر سلسلة من المسارات أبرزها الآتي:

أ - تأكيد أن مهمة واشنطن وحلفائها هي سلامة وأمن الحدود الأطلسية.

ب - رفض الولايات المتحدة تسليم أسلحة أمريكية أو غربية تصل إلى العمق الروسي، فكل الأسلحة من دبابات ومضادات أرضية تصل فقط إلى الحدود الدولية للأراضي الأوكرانية.

ج- تأكيد واشنطن الدائم أنها ليست في حالة حرب مع روسيا.

6- التنسيق الجماعي وطرح البدائل:

كان العمل الجماعي مع حلفاء الولايات المتحدة أبرز عوامل نجاح الاستراتيجية الأمريكية في العام الأول من الحرب الأوكرانية، بالإضافة إلى صبغ كل خطوة أمريكية بالطابع الأيديولوجي مثل تكرار مصطلحات "تحالف القيم ضد تحالف الديكتاتوريات". ولهذا سيواصل "فريق النمر" في العام الثاني من الحرب العمل على تصوير المعركة لتكون ليست فقط بين روسيا والغرب، بل بين روسيا ودول "تحالف القيم" الذي يضم دولاً في أقصى الشرق مثل اليابان، ودولاً في جنوب الكرة الأرضية مثل أستراليا ونيوزيلندا. ومن العوامل التي ستواصل واشنطن العمل عليها في العام الثاني من الحرب أنها لن تعلن عن خطواتها وعقوباتها على موسكو إلا بعد التشاور والاتفاق الكامل مع الشركاء، وهو ما سوف يؤدي إلى ظهور "كتلة واحدة" تتحدث بصوت واحد ضد روسيا.

7- توظيف قانون "الإعارة والتأجير":

سوف تستفيد الإدارة الأمريكية من إقرار قانون "الإعارة والتأجير" لتسريع إرسال المساعدات الاقتصادية والعسكرية إلى أوكرانيا في العام الثاني من الحرب. فخلال هذا العام، سوف يتم تمرير المساعدات العسكرية والاقتصادية الجديدة، بما فيها 10 مليارات دولار لدعم الاقتصاد الأوكراني، وفق هذا القانون الذي يتجنب البيروقراطية الأمريكية، والذي نجح في دعم الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية.

8- مواصلة تقديم الدعم العسكري النوعي:

أحدثت المساعدات الأمريكية والغربية فارقاً كبيراً في أداء الجيش الأوكراني، ويتضح هذا الفارق عند المقارنة بين سيناريو سيطرة روسيا على شبة جزيرة القرم في عام 2014، والتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا عام 2022. وترى واشنطن أن هذا الفارق يرجع إلى الدعم النوعي، سواء على المستوى العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، وسوف يواصل "فريق النمر" في العام الثاني من الحرب تحقيق ذلك الهدف عبر محورين رئيسيين وهما:

أ - مواصلة إرسال السلاح عبر 1500 كيلومتر من الحدود الأوكرانية مع دول "الناتو"، والإسراع في إرسال هذه الأسلحة في الوقت المناسب.

ب - العمل على تسهيل وصول مزيد من مقاتلي "الفيلق الأجنبي" لقتال الجيش الروسي في الأراضي الأوكرانية، وهذا الأمر له أهمية خاصة في الاستراتيجية الأمريكية التي تشير من خلال هذا الفيلق إلى أن تدخل روسيا عسكرياً في أوكرانيا مرفوض ليس فقط من جانب واشنطن لكن أيضاً من شعوب كثيرة أرسلت أبناءها لقتال الروس، بحسب وصف وزارة الدفاع الأمريكية.

9- فرض العقوبات القاسية:

نجح "فريق النمر" في صياغة وترويج أشد العقوبات في التاريخ على روسيا، وكانت الكلمات والمفردات التي صاغها الفريق قبل اندلاع الحرب الأوكرانية تعبر عن هذا الهدف بوضوح. وعلى الرغم من تأكد الجميع من قدرة الاقتصاد الروسي على التكيف مع العقوبات خلال العام الأول للحرب، فإن الاستراتيجية الأمريكية ترى أن "الشعور بالألم" في الاقتصاد الروسي سوف يتعمق في العام الثاني لهذه الحرب، وذلك اعتماداً على فرض واشنطن عقوبات على أكثر من 2400 شخص وكيان روسي، منها عقوبات على نحو من 80% من القطاع المصرفي الروسي، وأكبر 10 بنوك روسية، كما أوقفت أو قلصت نحو 1000 شركة أجنبية أنشطتها في روسيا، وكذلك أدرجت واشنطن في القائمة السوداء أكثر من 200 فرد من أوروبا وإفريقيا وآسيا يقدمون المساعدة إلى موسكو في تجاوز للعقوبات، وفرضت عقوبات على نحو 115 سفينة و19 طائرة. وقام مسؤولون أمريكيون بأكثر من 80 رحلة إلى 31 دولة لتنسيق الإجراءات بشأن العقوبات الدولية ضد موسكو في الفترة المقبلة، بالإضافة إلى تجميد أصول البنك المركزي الروسي بقيمة حوالي 300 مليار دولار.

10- الاستعداد الشامل لسيناريوهات الحرب:

تقوم الخطة الأمريكية على عدم ترك أي شيء للصدفة أو الأقدار مثل قضايا اللاجئين الأوكرانيين، وتأمين السفارة الأمريكية في كييف، وكيفية الرد في حال قيام موسكو بهجوم سيبراني كبير أو حتى هجمات كيمائية أو بيولوجية أو نووية في أوكرانيا. لذلك يعمل "فريق النمر" في العام الثاني للحرب وفق "دليل شامل" مكون من 30 صفحة تم توزيعه على كبار المسؤولين في البيت الأبيض ووزارة الخارجية والمخابرات والبيت الأبيض لتحقيق كل هذه الأهداف.

ختاماً : بالنظر إلى المعطيات الحالية والحقائق على الأرض، يخلص العديد من الكتّاب، ومنهم الأمريكيون وغيرهم، إلى القول إن الأمر يتعلق بحرب طويلة الأمد، تتركز في شرق وجنوب أوكرانيا، بالرغم من أن روسيا ستحتفظ بالقدرة على مهاجمة أهداف أخرى. ووفقاً لهؤلاء، يتعين على صُناع السياسة الغربيين أن يُعدوا أنفسهم لذلك، وأن أدوات السياسة المتاحة لديهم مثل المساعدات العسكرية والعقوبات، لن تتغير بغض النظر عن أمد الحرب.

وفي هذا السياق، يُشار إلى أن طول أمد الحرب الأوكرانية هو سيناريو قد يناسب روسيا، التي تستفيد في ذلك من المزايا التي توفرها لها مساحتها الهائلة، واقتصادها المرن، وصعوبة تعرضها لضربات انتقامية من الخصم. ومن وجهة نظر الرئيس بوتين، فإن مثل هذه الاستراتيجية قابلة للتطبيق في المرحلة القادمة من الحرب، حيث لا يواجه ضغوطاً تُذكر في الداخل الروسي. وربما يراهن بوتين على أن أوكرانيا لن تكون قادرة في النهاية على تحمل حرب استنزاف حقيقية، وأن الغرب سيفقد صبره ويحد من دعمه لكييف.

وعلى الجانب الآخر، لا يبدو أن الولايات المتحدة أو حلفاءها في "الناتو" مستعدون للانخراط مباشرة في الحرب الحالية. ويترك ذلك واشنطن والحلفاء دون أي خيارات جديدة مع دخول الحرب عامها الثاني، وذلك باستثناء المزيد من الدعم العسكري والأمني في أفضل الأحوال.





المراجع

عزت سعد، 19 مارس، 2023، تقييم مسارات الحرب الأوكرانية في عامها الثاني، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.

د. أيمن سمير، 09 مارس، 2023، المحاور الـ10 للدعم الأمريكي لأوكرانيا في العام الثاني للحرب، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.

 

المقالات الأخيرة