كيف تنامت صناعة البيانات في آسيا؟
فرع بنغازي

في ظل التسارع التكنولوجي الهائل والتحول الرقمي الكبير الذي يشهده العالم في الوقت الراهن، تحرص آسيا على اتخاذ موقع الريادة في سوق صناعة البيانات. ووفقاً لتقرير (Cushman & Wakefield)، فإن منطقة الآسيان قد حظيت في وقت قصير بمكانة هائلة باعتبارها مركز بيانات رئيسياً للشركات العالمية؛ حيث احتلت سنغافورة المرتبة الأولى في سوق العمل الجماعي، تليها هونج كونج وسيول الكورية وطوكيو ومومباي. ولا تزال المنطقة تمتلك إمكانات هائلة وفرصاً عديدة للنمو، تدفعها نحو مزيد من الصعود، بفعل تمتعها بعدد من المقومات، كتزايد استخدام الإنترنت، وصعود الاحتياجات المشتركة لشركات التكنولوجيا لنمو سوق مراكز البيانات في آسيا، وزيادة الاستثمارات من قِبل مشغلي مراكز البيانات العالمية والمحلية، وكذلك النمو القوي في المنطقة في اعتماد السحابة وتطوير شبكات 5 G وقطاع التجارة الإلكترونية.

عوامل محركة

تشهد سوق صناعة البيانات في آسيا نمواً متسارعاً؛ نظراً إلى عدد من العوامل المحركة التي ساهمت في تنامي وتسارع وتيرة العمل في سوق البيانات في القارة، ويمكن تناول أبرزها فيما يأتي:

1- النمو الاقتصادي والسكاني المتسارع: تعتبر آسيا القارة الأكبر في العالم من حيث عدد السكان، ولا تزال تلك الأعداد في زيادة مستمرة، وهو ما يدفع نحو زيادة الطلب على البيانات وتحليلها لاستيعاب احتياجات المجتمع المتزايدة. على الجانب الآخر، يدفع النمو الاقتصادي المتسارع في آسيا نحو زيادة النشاط التجاري والاستثمارات في المنطقة، وهو ما يترتب عليه بالتبعية الحاجة إلى استخدام كميات هائلة من البيانات وتحليلها من أجل الاستفادة منها في زيادة فرص النمو الاقتصادي في المنطقة.

2- التوسع في قطاع الاتصالات واستخدام الإنترنت: ساهم النمو الملحوظ في قطاع الاتصالات والإنترنت في آسيا، والانتشار المتزايد للهواتف الذكية والتكنولوجيا المرتبطة بذلك، في تعزيز استخدام البيانات وتدفقها بشكل أكبر، خاصة أن العديد من البلدان الآسيوية تشهد تحولاً رقمياً واسعاً في مختلف القطاعات، وهو ما يظهر جلياً في صور متعددة، كالحكومة الإلكترونية والرعاية الصحية والتجارة الإلكترونية والتعليم عبر الإنترنت، وهو التحول الذي يعتمد بصورة كبيرة على البيانات وتحليلها.

على صعيد آخر، فإن الزيادة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات، قد دفعت نحو زيادة حجم البيانات المنشأة التي تتزايد الحاجة إلى جمعها وتحليلها، نظراً إلى قيمتها الكبيرة بالنسبة إلى بعض الشركات والمؤسسات؛ حيث تُعين على فهم سلوك المستخدمين ومن ثم تساعد في تحسين تجربتهم.

3- تصاعد الاهتمام بالذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة: يشهد الشرق الآسيوي وجنوب آسيا انتشاراً سريعاً للتكنولوجيا واستخدام الأجهزة الذكية والإنترنت. وفي هذا السياق، يعد قطاع الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة واحداً من أبرز القطاعات الناشئة في آسيا. ونظراً إلى اعتماد تلك التقنيات على كميات كبيرة من البيانات للتدريب والتحسين، فإن ذلك يدفع نحو زيادة الطلب على البيانات في آسيا.

4- صعود الشركات الناشئة في مجال الابتكار: يزدهر قطاع الشركات الناشئة في مجال الابتكار في آسيا، في ظل التوسع في مجالات التكنولوجيا والبيانات؛ حيث تعمل تلك الشركات على تقديم حلول جديدة وابتكارات متنوعة تعتمد في أساسها على البيانات وتحليلها. على الجانب الآخر، تدعم الحكومات في آسيا قطاع البيانات وتشجعه على التطور والابتكار، وتحرص في سبيل ذلك على تطبيق سياسات داعمة لتحسين الخدمات واتخاذ القرارات الاستراتيجية استناداً إلى البيانات، وتشمل تقديم تشريعات وإطارات قانونية ميسرة، وتقديم تمويل لمشاريع البيانات، ودعم الشركات الناشئة في ذلك المجال، بما يسهم في نمو السوق وتطوير البنية التحتية اللازمة لذلك المجال.

5- تزايد الاستخدام الذكي للبيانات في القطاعات المختلفة: بالنظر إلى انتشار استخدام البيانات في آسيا، نجد أنه قد توسع توظيفها في مختلف القطاعات في القارة؛ فبينما يشهد قطاع الرعاية الصحية في آسيا تحولاً رقمياً سريعاً؛ حيث يتطلب تحليل البيانات لتحسين الرعاية الصحية واتخاذ القرارات الاستراتيجية في هذا المجال، فإن العديد من المدن في آسيا تعمل حالياً على تحويل أنفسها إلى مدن ذكية، من خلال توظيف البيانات في تحسين الخدمات العامة، كالنقل والطاقة والأمان وإدارة النفايات. كذلك تتوافر في آسيا فرص استخدام البيانات في مجالات متنوعة، كالتجارة الإلكترونية والتسويق الرقمي، والتحليل المالي، والزراعة، وغيرها.

6- التحولات الاقتصادية ونمو التجارة الإقليمية: في خضم التحولات الاقتصادية الهامة، ونمو التجارة الإقليمية والتكامل الاقتصادي في المنطقة الآسيوية، والتطور الكبير في القطاع الصناعي وتزايد الاعتماد على التكنولوجيا والبيانات لدعم النمو والتنافسية، فإن ذلك يدفع بصورة كبيرة نحو نمو حجم سوق البيانات في المنطقة، ويسهم في خلق فرص كبيرة للابتكار، والاستفادة من البيانات في مجالات متنوعة.

7- تجنب الاضطرابات التجارية الناجمة عن التوترات الجيوسياسية: أدت الاضطرابات التجارية الناجمة عن التوترات الجيوسياسية، إلى نمو الحاجة إلى اعتماد ممارسات سيادة البيانات لضمان المرونة التشغيلية والتجارية، ومع التبني المتزايد للأجهزة الذكية التي تدعم التكنولوجيا، والتي تنتج المزيد من البيانات الضخمة، فإن ذلك ساهم في الدفع نحو نمو إيرادات سوق البيانات الضخمة العالمية بما في ذلك آسيا.

كذلك أعطى الوضع الوبائي الذي نجم عن تفشي جائحة كوفيد-19 دافعاً قوياً وغير مباشر للمطالبة بأدوات وتقنيات البيانات الضخمة؛ حيث أتاح الوباء لمزودي تكنولوجيا البيانات الضخمة في آسيا فرصة للاستفادة من ثقافة العمل عن بُعد الآخذة في الاتساع فعلياً، التي تطورت فيما بعد نتيجة الأزمات المتتالية التي شهدها العالم على مدار السنوات القليلة الأخيرة.

اتجاهات رئيسية

ثمة مؤشرات إيجابية تدلل على صعود آسيا في سوق البيانات، يمكن استعراضها فيما يأتي:

1- توقعات إيجابية لسوق البيانات في آسيا: بحسب تقرير صادر عن شركة رينوب للأبحاث (Renub Research)، ومقرها الولايات المتحدة، فإن قيمة سوق مراكز البيانات في آسيا والمحيط الهادئ تبلغ حالياً نحو 15.27 مليار دولار. ووفقاً للشركة، فإن سوق البيانات الحالية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تشهد طفرة كبيرة، بما يدفع إلى القول بأن الطلب سيتصاعد بصورة هائلة، ليصل حجم السوق إلى 8.53 مليار دولار بحلول عام 2028؛ وذلك بمعدل نمو سنوي مركب قدره 12% خلال السنوات الخمس المقبلة، خاصة في ظل النمو الكبير في الاستثمار في حلول ذكاء الأعمال، وهي عملية تكامل البيانات؛ حيث تجمع البيانات من مصادر بيانات متعددة في مخزن بيانات واحد متسق يتم تحميله في مستودع بيانات أو نظام مستهدف آخر، فضلاً عن الطلب المتزايد من المؤسسات على المشاركة في صنع القرار المستند إلى البيانات، وتحسين تجربة العملاء، وتسريع أنشطة الابتكار في الأعمال، والاستفادة من فرص ذلك في توفير التكاليف.

2- احتواء الصين على أكبر مراكز البيانات في العالم: عادة ما تكون مراكز البيانات مملوكة ومدارة من قبل الشركات الكبرى أو شركات التوزيع المشتركة التي تعمد إلى تأجير البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات في الدول الرائدة في ذلك المجال. وفي هذا السياق، فإن أكبر مراكز للبيانات من حيث الحجم في آسيا تقع في الصين، ومنها مركز (China Telecom Data Center)، ومراكز بيانات (China Mobile) في مدينة (Hohhot) الصينية، ومركز بيانات (China Unicom).

هذا وتتلقى هونج كونج اهتماماً بالغاً من جانب مستثمري ومشغلي مراكز البيانات بفعل أعمالها وأسواقها المالية، إضافة إلى وضعها من حيث كونها بوابة إلى البر الرئيسي للصين، وإن كانت تواجه في الوقت الراهن نقصاً في إمدادات الأراضي والطاقة لمراكز البيانات.

3- وصول سنغافورة إلى نقطة التشبع بصفتها مركزاً لشركات التكنولوجيا بالمنطقةوفقاً لتقرير (Cushman & Wakefield)، فإن معدل الشواغر لمراكز البيانات في دولة سنغافورة يصل إلى نحو 2%. وتعد سنغافورة مركزاً لمعظم شركات التكنولوجيا في المنطقة، وهي بذلك تكون قد وصلت إلى نقطة التشبع من حيث المساحة والطاقة التي لا تزال متوافرة في الدولة. وبحسب بعض التقارير، فإنه لم يتبق الكثير من الفرص الجديدة في سوق البيانات في سنغافورة. ولعل ذلك العرض الحالي المحدود في سنغافورة قد ساهم في فتح فرص في أسواق جوهور وباتام المجاورة في ماليزيا وإندونيسيا.

4- صعود مراكز البيانات في سوق العقارات الكوري: استفادت سوق مراكز البيانات في كوريا الجنوبية من دخول صناديق الاستثمار العقاري الكبيرة، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها؛ حيث يتزايد الطلب من قِبل مزودي الخدمات السحابية على سوق البيانات في كوريا الجنوبية، وهو ما أظهر مراكز البيانات باعتبارها فئة استثمارية مستقلة في سوق العقارات الكورية، ويتوقع أن تستمر سوق مراكز البيانات الكورية في النمو بسرعة كبيرة خلال السنوات الخمس المقبلة؛ حيث يرجح أن تتحول المزيد من الشركات نحو الحوسبة السحابية، وهو ما يعني زيادة الطلب على سوق البيانات الكورية مستقبلاً.

5- تنامي سوق البيانات في الهند: تعد مومباي – وهي العاصمة المالية للهند – أكبر سوق لمراكز البيانات في الدولة الهندية، واعتباراً من نهاية عام 2022، كان هناك ستة مشغلين دوليين في المدينة قد بدؤوا يبنون مراكز البيانات الخاصة بهم فيها، وتعمل حكومة الولاية في هذا الصدد على صياغة سياسة لمراكز البيانات مع مراعاة الطلب المتزايد، فيما يحاول مشغلو مراكز البيانات الاستحواذ على حصة أكبر من سوق البيانات الهندية المتنامية في آسيا؛ فبحسب تصريحات المدير المالي لشركة خدمات البرمجيات الهندية العملاقة ويبرو (Wipro)، في شهر يوليو 2024، فإن استثمار الشركة في مجال الذكاء الاصطناعي قد بلغت قيمته نحو مليار دولار، وهو ما يمثل خطوة كبيرة إلى الأمام، بما يحقق هدفها الرامي إلى خدمة عملائها بشكل أكثر كفاءة.

6- تدفق الاستثمارات على سوق البيانات في طوكيو: شهدت طوكيو زيادة حادة في مراكز البيانات في الآونة الأخيرة؛ وذلك بفضل الارتفاع الهائل في الطلب على معالجة البيانات في الداخل والخارج. ومن المتوقع أن تتضاعف السعة الإجمالية لمرافق البيانات في طوكيو في غضون ثلاث إلى خمس سنوات؛ حيث تعمل العاصمة اليابانية في الوقت الراهن على سد الفجوة مع بكين، خاصةً أن شركات تكنولوجيا المعلومات العالمية والشركات الأخرى حالياً تعمل على الابتعاد عن المدينة الصينية من جراء المخاوف الأمنية المتزايدة والتوترات بين الولايات المتحدة والصين.

وبحسب Naruhito Matsushita رئيس الوحدة اليابانية في (AirTrunk) مشغل مركز البيانات الأسترالي الذي افتتح منشأة كبيرة في مدينة إنزاي اليابانية في عام 2021، فإن الطلب على مراكز البيانات ينمو بسرعة في اليابان؛ حيث بلغ إجمالي قدرة مراكز البيانات في طوكيو الكبرى نحو 865 ميجاواط في نهاية عام 2022، أي نصف قدرة بكين، ولكن بإمكانها أن تصل إلى 1970 ميجاواط في ثلاث إلى خمس سنوات. ولعل توسع طفرة البناء في اليابان كان سبباً رئيسياً في الزيادة الحادة في حركة البيانات المحلية؛ حيث تتقدم الشركات في التحول الرقمي؛ فبينما يعمل المزيد من الموظفين عن بعد، تقوم المزيد من الشركات بنقل الخوادم بالقرب من المنازل بغية تسريع نقل البيانات وتقليل مخاطر تسرب البيانات.

إجمالاً، في حين يضعف موقع الصين باعتبارها مركزاً رئيسياً للبيانات في آسيا، نتيجة التنافس الحاد بين الولايات المتحدة والصين والحرب التجارية بينهما، الذي يجعل العديد من الشركات متوترة بشأن استخدام مرافق البيانات في الصين؛ فإن ذلك على الجانب الآخر، يفتح آفاقاً إيجابية للعديد من أسواق البيانات الآسيوية الأخرى؛ فبينما يُنظر إلى اليابان حالياً على أنها بديل جذاب للصين، خاصة أن موقعها بين أمريكا الشمالية وأوراسيا، يؤهلها لأن تكون في صدارة مراكز البيانات الآسيوية. ومع وجود إمكانات هائلة تزخر بها مراكز البيانات الراسخة في المنطقة في المدن الرئيسية، إلا أن ثمة أسواق بيانات آسيوية ناشئة في المنطقة، من المتوقع أن تحظى باهتمام أكبر خلال الفترة المقبلة من قِبل المستثمرين، مثل الفلبين وفيتنام وتايلاند وإندونيسيا، وبالأخص نظراً إلى ما لها من قدرات استيعابية أكبر في ظل تشبع معظم مراكز البيانات الراسخة في المنطقة، وانخفاض حجم المعروض بها في ظل تنامي الطلب الواسع على تلك السوق في آسيا.







المراجع:

سهير الشربيني،24، 7، 2023، كيف تنامت صناعة البيانات في آسيا؟،انترريجونال.

ب، ن،4.9.2024، تنامي قطاعات الصناعات الرقمية حول العالم مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.

 

المقالات الأخيرة