كانت معظم قواعد القانون الدولي التقليدي ولاسيما تلك التي يحتويها القانون الدولي الاقتصادي تتسم بتعبيرها عن مصالح الدول الصناعية المتقدِّمة وحدها، التي استأثرت بتكوين هذه القواعد وتحديد آليات تطبيقها. ولذلك فقد جسّدت هذه القواعد بمعظمها إرادة الدول المسيطرة على مقدَّرات الدول النامية وثرواتها، وخصوصاً خلال حقبة الاستعمار. ثم تداعت الدول النامية بعد نيلها الاستقلال الناجز وممارسة سيادتها على مواردها وثرواتها الوطنية بإعادة صياغة مبادئ القانون الدولي التقليدي وقواعده كي يستجيب لتطلعاتها المشروعة في المشاركة بتحقيق عملية التنمية وعلى قدم المساواة مع الدول المتقدِّمة وهذا ما تسعى إليه فعلاً قواعد النظام الدولي الاقتصادي وآلياته، التي استقرت في ضمير المجتمع الدولي بأسره، ولكن بعد صراع حاد ومستديم، وطول عناد واحتدام.
تطور النظام الاقتصادي الدولي الجديد:
يتأَّلف النظام الاقتصادي الدولي الجديـد من مجموعة القواعد والمؤسّسات التي تنظم النشاطات الدولية الاقتصادية المختلفة. وقد برزت الحاجة إلى إرساء هذا النظام نتيجة لما شهده العالم من تطورات هائلة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكذلك نيل العديد من دول العالم الثالث استقلالها السياسي ومطالباتها الدؤوبة لتمكينها من ممارسة السيادة الدائمة على مصادرها الطبيعية وحرية اختيار نظامها الاقتصادي والاجتماعي بما يناسب مصالحها الوطنية. ولذلك لم تفوِّت الدول النامية أي فرصة تسنح لها في المحافل الدولية للتعبير عن عدم رضاها إزاء الإطار القانوني الذي كان يحكم العلاقات الدولية الاقتصادية، والذي أسهم نوعاً ما في اتساع الهوة بين الدول الرأسمالية المتقدِّمة صناعياً ـ التي كانت تتشبَّث بمصالحها ومواقفها وسياساتها الاستغلالية، وخاصة بفضل سيطرتها على مقدرات مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتبعية الشركات متعددة الجنسيات والاحتكارات الدولية لهاـ وبين الدول النامية المستقلة حديثاً والساعية إلى تحقيق مبادئ العدالة والمساواة وإزالة التفاوت وعدم التكافؤ في العلاقات الدولية الاقتصادية.
محتوى النظام الاقتصادي الدولي الجديد:
انطلقت المطالبات الملِّحة منذ حقبة الستينيات من القرن العشرين بضرورة إجراء تعديلات جذرية في استراتيجية التنمية والسياسات الاقتصادية الدولية، أي إعادة النظر في مجمل النظام الاقتصادي الدولي السائد، وخاصة فيما يتعلق بتسوية الديون الخارجية للدول النامية وتمكينها من السيطرة على مواردها الطبيعية، وتخفيف القيود المفروضة على انتقال اليد العاملة والسلع والخدمات إلى أسواق الدول الغنية، أو انتقال التكنولوجيا من الدول الغنية إلى الدول النامية، وكذلك تعديل النظام الدولي النقدي وإشراك هيئة الأمم المتحدة على نحو فعال في عملية التنمية. وقد برزت أولى بوادر النظام الاقتصادي الدولي الجديد عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 1710/16لعام 1961 حول مبادئ التنمية التي تَّم تكريسها أيضاً فيما بعد في أثناء انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية عام 1964، وكذلك ضمن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2626/25 لعام 1970 حول استراتيجية التنمية. وفي عام 1973 أصدر مؤتمر القمة الرابع لدول عدم الانحياز ـ المنعقد في الجزائرـ تصريحاً يطالب فيه بضرورة تشكيل نظام اقتصادي دولي جديد أكثر عدالة وقدرة على تحقيق التنمية لمصلحة البشرية جمعاء وبما يحفظ السلام العالمي، وقد تضمَّن هذا التصريح أيضاً عدداً من المبادئ العامة الناظمة للعلاقات التجارية والنقدية الدولية، وكذلك حول ممارسة السيادة على المصادر الطبيعية وحق التأميم وحماية البيئة، ونقل التكنولوجيا والرقابة على الشركات متعددة الجنسيات والتعاون الدولي. وفي الأول من شهر /مايو لعام 1974 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال انعقاد دورتها الخاصة السادسة وثيقتين مهمتين، وهما:
قرار الجمعية العامة رقم 3202 المتضمِّن الإعلان عن إقامة النظام الاقتصادي الدولي الجديد، وفق مبادئ العدالة والمساواة في السيادة والمنفعة والتعاون بين جميع الدول بغض النظر عن نظمها الاقتصادية والاجتماعية، وبما يسهم في التخفيف من مظاهر التفاوت والظلم وإزالة الهوة بين الدول المتقدِّمة والنامية، ويؤمِّن السلم والعدل والتنمية للأجيال الحالية والمقبلة.
قرار الجمعية العامة رقم 3202 الذي يحدِّد برنامج عمل لإقامة النظام الاقتصادي الدولي الجديد في مجالات استثمار المواد الأولية والتصنيع ونقل التكنولوجيا، والإشراف والرقابة على الشركات متعددة الجنسيات وتنمية التعاون بين الدول النامية ومساعدتها على ممارسة السيادة الدائمة على مصادرها الطبيعية، ومساندة دور المنظمات الدولية في تنشيط التعاون الدولي الاقتصادي، وكذلك وضع برنامج خاص لمعونات الطوارئ للدول المتأثرة خصوصاً من الأزمات الاقتصادية، ومنها الدول الأقل نمواً والتي ليس لها منافذ بحرية.
وقد تمَّ فيما بعد إعادة تأكيد ما تضمنَّته قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1974 بخصوص النظام الاقتصادي الدولي الجديد، وذلك خلال انعقاد الدورة الخاصة السابعة للجمعية العامة عام 1975، والمؤتمر الاستثنائي السابع للتنمية والتعاون الاقتصادي بين دول السوق الأوربية المشتركة والقارة الأمريكية وحوض الكاريبي والمحيط الهادئ، الذي أصدر إعلان ليما لعام 1975للمطالبة بمضاعفة نصيب الدول النامية من الإنتاج الصناعي العالمي بحلول القرن الحادي والعشرين.
على أي حال أُريد من النظام الاقتصادي الدولي الجديد أن يكون أكثر عدالة من النظام الاقتصادي الدولي السائد؛ لذلك تأرجحت مطالب الدول النامية بين ضرورة الحفاظ على متطلَّبات الاستقلال والمساواة السيادية من جهة، ومقتضيات الاعتماد المشترك بين جميع الدول والهيئات الدولية تحقيقاً لمفهوم التنمية المستدامة من جهة أخرى. لكن وعلى الرغم من الإيجابيات التي استطاعت الدول الناميـة تحقيقها بفضـل هذا النظام الجديد، وبخاصة فيما يتعلق بممارسة سيادتها الدائمة على مصادرها الطبيعية ومشاركتها الفعالة في تحديد الإطار القانوني للعلاقات الدولية الاقتصادية المعاصر لم يعد لهذا النظام حالياً تلك الأهمية التي كان يتمتَّع بها عند إقراره في الربع الأخير من القرن الفائت، وذلك بعدما سادت مبادئ اقتصاد السوق وحرية تبادل السلع والخدمات ورؤوس الأموال. وهكذا يبدو حالياً النظام الاقتصادي الدولي الجديد استثناء فقط لمنح الدول النامية معاملة تفضيلية على صعيد العلاقات الدولية الاقتصادية، سواء النقدية منها أم التجارية.
ميثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية: اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 12/2/1974 قرارها رقم 3281المتضمِّن ميثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية الذي يهدف إلى تحديد الإطار القانوني العام الذي يحكم العلاقات الدولية الاقتصادية. ويتميَّز الميثاق بتنوع محتواه، إذ يشير في ديباجته إلى ضرورة التمسك بأهداف هيئة الأمم المتحدة وأهمية التعاون الدولي وتعزيز الاستقلال الاقتصادي للدول النامية، مع الأخذ بالحسبان احتياجاتها الخاصة وتحقيق علاقات اقتصادية دولية أكثر عدالة وإنصافاً للارتقاء بمستوى المعيشة والرفاه للشعوب وتضييق الهوة بين الدول النامية والمتقدِّمة. وقد حدّد الفصل الأول من الميثاق الأُسس الجوهرية للعلاقات الدولية الاقتصادية، وهي:
1) ـ صيانة استقلال الدول وسلامتها الإقليمية.
2) ـ المساواة في السيادة بين جميع الدول.
3) ـ حظر العدوان.
4) ـ عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
5) ـ المنفعة المتبادلة والعادلة.
6) ـ التعايش السلمي.
7) ـ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للشعوب كافة.
8) ـ التسوية السلمية للمنازعات.
9) ـ التعويض عن نتائج الظلم الذي يحرم بالقوة أي أمة من الوسائل الطبيعية للتنمية.
10) ـ تنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية.
11) ـ احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
12) ـ عدم السعي نحو فرض الهيمنة والسيطرة ومناطق النفوذ.
13) ـ تعزيز العدالة الاجتماعية على المستوى الدولي.
14) ـ تنشيط التعاون الدولي من أجل التنمية.
15) ـ حرية الوصول إلى البحار للدول المتضرِّرة جغرافياً والتي ليس لها منافذ بحرية.
أما الفصل الثاني من الميثاق فقد تضمَّن تعداداً لحقوق الدول وواجباتها الاقتصادية، ويمكن إيجازها بالآتي:
1) ـ حق اختيار النظام الاقتصادي والاجتماعي.
2) ـ حق ممارسة السيادة الدائمة على المصادر الطبيعية.
3) ـ حق تنظيم الاستثمارات الأجنبية وفقاً للقوانين الوطنية للدول ومصالحها.
4) ـ حق تأميم الاستثمارات الأجنبية أو نزع ملكيتها مقابل تعويض مناسب.
5) ـ حق مزاولة التجارة الدولية والانتفاع منها.
6) ـ حق المشاركة الفعلية في اتخاذ القرارات الدولية المتعلقة بالمسائل الاقتصادية والمالية والنقدية.
7) ـ حق الحصول على التكنولوجيا الحديثة والانتفاع بما وصل إليه التقدم العلمي والتقني.
8) ـ حق الدول النامية في الحصول على معاملة تفضيلية لدى أسواق الدول المتقدِّمة ومن دون اشتراط المعاملة بالمثل.
9) ـ واجب الإسهام في تنمية التجارة الدولية وفق مبادئ العدالة والإنصاف.
10) ـ واجب التعاون في استثمار الموارد الطبيعية المشتركة.
11) ـ واجب التعاون في تعزيز كفاءة المنظمات الدولية وفعاليتها.
12) ـ واجب التعويض عن الأضرار التي لحقت بشعوب الدول النامية خلال حقبة الاستعمار، أو تلك الناجمة عن تطبيق سياسة الفصل والتمييز العنصري أو العدوان أو الاحتلال.
13) ـ واجب مساعدة الدول النامية والأقل نمواً والبلدان غير الساحلية للتغلب على عقبات التنمية لديها.
14) ـ واجب التعاون الدولي من أجل التنمية.
15) ـ واجب التعاون لنـزع التسلح بإشراف رقابة دولية فعالة، مع تخصيص نسبة من اعتمادات التسليح لتمويل عملية التنمية لدى الدول النامية.
كما اهتمَّ الفصل الثالث من ميثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية بتحديد المسؤوليات المشتركة إزاء المجتمع الدولي، وخاصة فيما يتعلق باستثمار قاع البحار والمحيطات بما يتجاوز حدود الولاية الوطنية والفضاء الخارجي، وعدَّها الميثاق تراثاً مشتركاً للإنسانية يتم استغلالها لمصلحة البشرية جمعاء مع الالتزام بالتعاون لحماية البيئة والحفاظ عليها.
ويُلاحظ أن ميثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية قد تضمَّن قواعد قانونية دولية تقرُّ حقوقاً والتزامات معينة لمصلحة الدول وبمواجهتها. وقد جاءت بنوده مكمِّلة ومفسِّرة لأهداف ميثاق هيئة الأمم المتحدة ومبادئه. بل نصَّت الفقرة الثالثة منه أن الميثاق يندرج ضمن إطار تقنين القانون الدولي وتطويره التدريجي. أي بتعبير آخر يسهم ميثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية في تكريس التعامل الدولي ضمن إطار العلاقات الدولية الاقتصادية، وهذا ما يبرِّر الصفة الإلزامية لنصوصه التي وافقت عليها أغلبية دول العالم.
ـ النظام العالمي الاقتصادي المعاصر:
بدأت ملامح النظام الاقتصادي المعاصر تتبلور بوضوح منذ بداية حقبة التسعينيات من القرن العشرين، عندما حصلت تحولات جذرية في أركان العلاقات الدولية الاقتصادية التي سادت نحو نصف قرن من الزمن منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما برز عدد من الاتجاهات المستحدثة والمؤثرة في آليات عمل هذا النظام والفاعلين فيه. ففي شهر مارس لعام 1991 أي في خضم أزمة الخليج العربي الناجمة عن الاجتياح العراقي للأراضي الكويتية وانهيار المنظومة الشيوعية في عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) ضرورة إرساء نظام عالمي جديد تسوده من الناحية الاقتصادية آليات اقتصاد السوق وانفتاح الأسواق بقيادة المعسكر الرأسمالي الغربي، وتتربَّع على قمَّته الولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ ذلك الوقت بدأ يتصِّف النظام العالمي الاقتصادي المعاصر بالخصائص التالية:
1) ـ سيادة مبادئ اقتصاد السوق والحرية الاقتصادية.
2) ـ الاعتماد الدولي الاقتصادي المتبادل.
3) ـ الثورة العلمية في مجال الاتصالات والتكنولوجيا.
4) ـ تعاظم دور المنظمات والتكتلات الدولية الاقتصادية.
هذا من الناحية النظرية، ولكن تبرز هذه الخصائص عملياً على أرض الواقع عبر تفاعل ثلاثة من أهم الظواهر العالمية الاقتصادية والسائدة في العصر الحالي، وهي مظاهر العولمة والخصخصة والشركات متعددة الجنسيات.
المراجع:
أ:خويلدي السعيد ،29.11.2019 ، آليات النظام الاقتصادي الدولي ،ملتقى الباحثين السياسيين العرب.
محمد مروان ، 25.6.2019 ، مفهوم النظام الاقتصادي ، موقع موضوع.