أعلنت أوكرانيا، في 11 مارس 2025، موافقتها على هدنة لوقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً في حربها الجارية مع روسيا، وذلك عقب المحادثات التي استضافتها مدينة جدة السعودية بين كبار المسؤولين الأمريكيين والأوكرانيين، والتي انبثق عنها بيان مشترك بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، أعلنت فيه الأخيرة استعدادها لوقف فوري لإطلاق النار لمدة شهر، بينما تعهدت واشنطن برفع القيود المفروضة على مساعداتها العسكرية لكييف وتبادل المعلومات الاستخباراتية. وحال موافقة روسيا على هذه الهدنة، فسيكون ذلك أول وقف إطلاق نار في الحرب الروسية الأوكرانية منذ اندلاعها في فبراير 2022.
تحولات جذرية:
شكلت التفاهمات الأمريكية الأوكرانية الأخيرة في جدة تحولاً جذرياً في علاقة البلدين، خاصةً بعد التوترات التي شهدتها علاقتهما عقب اجتماع البيت الأبيض المتوتر بين الرئيسيْن الأمريكي دونالد ترامب والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في نهاية فبراير 2025، ويتوقع أن يكون لهذه التفاهمات انعكاسات جوهرية على مسار الحرب الروسية الأوكرانية. ويمكن عرض ملامح هذا التحول على النحو التالي:
1. اجتماعات جدة: استضافت المملكة العربية السعودية، خلال الأيام الماضية، محادثات أمريكية أوكرانية؛ إذ انطلقت هذه المحادثات بمدينة جدة السعودية، في 11 مارس 2025، بحضور وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، ومستشار الأمن الوطني، الوزير مساعد العيبان. وقد شارك في هذه المفاوضات مستشار الأمن القومي الأمريكي، مايك والتز، ووزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو. وعلى الجانب الآخر شارك وفد أوكراني بقيادة رئيس مكتب الرئاسة الأوكرانية، أندريه يرماك، ونائبه، بافلو باليسا، بالإضافة لوزير الخارجية، أندري سيبيغا، والدفاع، رستم عميروف. وقد كشف مسؤولون أمريكيون وأوكرانيون أن المفاوضات التي جرت في المملكة العربية السعودية أفضت إلى نتائج إيجابية وتمخضت عن العديد من التفاهمات بين البلدين؛ يمكن أن تكون لها ارتدادات مهمة على مسار الحرب الروسية الأوكرانية.
وقد أشار وزير الخارجية الأمريكي، قبل وصوله إلى جدة، إلى أن الهدف الرئيس لواشنطن من هذه المباحثات هو معرفة مدى استعداد كييف لاتخاذ إجراءات جادة لإنهاء الحرب الجارية، على غرار تلك الاجراءات التي أبدت روسيا استعداداً لاتخاذها.
2. موافقة كييف على الهدنة: في أعقاب اجتماعات جدة، التي استمرت لثماني ساعات، أصدرت واشنطن وكييف بياناً مشتركاً، أعلنت خلاله أوكرانيا استعدادها لقبول هدنة بوقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً في حربها الجارية مع روسيا، وأن هذه الهدنة يمكن أن تمهد الطريق نحو اتفاق شامل مع موسكو. بينما أعلنت الولايات المتحدة أنها سترفع القيود المفروضة على مساعداتها العسكرية إلى أوكرانيا، وتنهي تعليقها السابق لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع كييف.
وبموجب الهدنة المقترحة، يفترض أن يتوقف إطلاق النار ليس فقط على مستوى البحر والجو، ولكن أيضاً على طول خط المواجهة. كما ستسمح هذه الهدنة بتبادل الأسرى واتخاذ خطوات إنسانية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه التفاهمات المشتركة بين الولايات المتحدة وأوكرانيا جاءت بعد نحو أسبوعين من الخلاف الحاد الذي شهدته علاقة البلدين خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى واشنطن، والتي أعقبها إعلان البيت الأبيض تعليق المساعدات لكييف، وتعليق تبادل المعلومات الاستخباراتية على الرغم من اعتراض حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين.
3. موقف روسي غامض: أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تعقيباً على موافقة كييف على هدنة لوقف إطلاق النار، تأييد بلاده للهدنة، إلا أنه صرّح بأن هناك "خلافات دقيقة" و"أسئلة جدية"، ما زالت عالقة وتحتاج إلى تواصل مع الأمريكيين، وهو ما يؤشر على بعض الغموض في الموقف الروسي من الهدنة. وقد صرّح ترامب بأنه يسعده التواصل مع بوتين وبشكل عاجل، لافتاً إلى تطلعه لقبول موسكو لهذه الهدنة، لتكون الأولى من نوعها منذ اندلاع هذه الحرب مطلع عام 2022. كما يتوقع أن يتوجه المبعوث الخاص لترامب، ستيف ويتكوف، إلى روسيا خلال الأيام المقبلة لبحث وقف إطلاق النار مع المسؤولين في الكرملين. كما سيلتقي مستشار الأمن القومي الأمريكي، مايك والتز، بنظيره الروسي لمناقشة المقترح الأمريكي.
لكن، الكثير من التقديرات تُشير إلى أن بوتين، لن يخاطر بتدهور علاقته مع الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس ترامب؛ ومن ثم يتوقع أن تقبل موسكو بهذه الهدنة الأمريكية المقترحة، خاصةً وأن البعض كان قد اعتبر هجمات روسيا الأخيرة بمثابة رد فعل للهجمات التي شنتها أوكرانيا ضد روسيا قبل يوم واحد من محادثات جدة، في أكبر هجوم بالطائرات المسيرة تشنه كييف على موسكو منذ بداية الحرب، في محاولة منها للضغط على روسيا وإثبات أنها قادرة على توجيه ضربات مؤثرة ضدها. ومن جانبها، كانت موسكو قد استبقت الهجمات الأوكرانية بهجمات أخرى ضد القوات الأوكرانية في منطقة كورسك بغربي روسيا، في ظل مساعيها لطرد القوات الأوكرانية من هذه المنطقة؛ لذا يبدو أن كلاً من الطرفين يسعى إلى تحقيق بعض المكاسب الميدانية قبل تنفيذ الهدنة المقترحة، لتعزيز موقفه التفاوضي في أي مباحثات مقبلة.
4. دعم دولي واسع: حظيت الهدنة المقترحة لوقف إطلاق النار في الحرب الروسية الأوكرانية بدعم دولي واسع، فقد أعلن رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، عن ترحيب بلاده بهذه الهدنة، وأنها ربما تشكل نقطة فارقة في الحرب الروسية الأوكرانية. ومن جانبه، أشاد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون بالتقدم الذي حققته محادثات جدة، لكن ماكرون أكد حاجة كييف إلى ضمانات أمنية قوية في إطار أي هدنة محتملة لوقف إطلاق النار. كذلك، أشاد رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك، بمخرجات محادثات جدة بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، والأمر ذاته عبر عنه الاتحاد الأوروبي وعدد آخر من الدول الأوروبية.
دوافع كييف:
تباينت التقديرات بشأن دوافع أوكرانيا لقبول الهدنة بوقف إطلاق النار في حربها الجارية مع روسيا، ويمكن توضيح هذه الدوافع على النحو التالي:
1. ضغوط أمريكية: ذهبت بعض التقديرات إلى ربط التحول الراهن في الموقف الأوكراني بالضغوط الأمريكية، خاصةً بعدما أعلنت الولايات المتحدة تعليقها لمساعداتها إلى أوكرانيا، بما في ذلك وقف تسليم الرادارات العسكرية والذخيرة، بالإضافة إلى وقف تبادل المعلومات الاستخباراتية. وذلك عقب الخلافات التي جرت بين ترامب وزيلينسكي، في اللقاء الذي جمعهما في البيت الأبيض. حتى إن هناك بعض التقديرات أشارت إلى أن الولايات المتحدة ربما تدفع نحو دعم إجراء الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا لاختيار قيادة جديدة تقود مفاوضات السلام مع روسيا.
وربما يتسق هذا الطرح، مع التصريحات التلفزيونية الأخيرة للرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، والتي قدم خلالها الشكر للرئيس الأمريكي، في موقف اعتبرته بعض التقديرات بمثابة اعتذار ضمني لواشنطن، وقبوله بالمقترح الأمريكي الخاص بوقف إطلاق النار. فقد أشارت بعض التقارير الغربية إلى أن كييف عمدت خلال الأيام الأخيرة إلى مدح ترامب، بشكل متكرر لتجنب فرض خطة سلام أمريكية عليها، وهو ما انعكس في تصريحات رئيس ديوان الرئيس الأوكراني، أندريه يرماك، والتي أشاد خلالها بالقيادة الأمريكية القوية.
وتجدر الإشارة إلى أن نائب رئيس المكتب الرئاسي الأوكراني، بافلو باليسا، كان قد ألمح إلى أن عرض الولايات المتحدة خلال مباحثات جدة باستئناف المساعدات العسكرية والاستخباراتية أدى إلى قبول أوكرانيا لمقترح وقف إطلاق النار، في إشارة ضمنية إلى ضغط واشنطن بورقة المساعدات العسكرية لدفع كييف إلى قبول الهدنة.
وعلى المنوال ذاته، أفضت التفاهمات الأخيرة بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، خلال محادثات جدة، إلى توافقات بين الجانبين بشأن صفقة المعادن التي طرحها الرئيس الأمريكي، في وقت سابق، وبموجبها ستحصل واشنطن على حصة 50% من عائدات بيع الثروة المعدنية الهائلة لأوكرانيا، كمقابل للمساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة لأوكرانيا منذ بداية حربها مع روسيا. في المقابل، ألمح ترامب إلى أن كييف ستحصل على ضمانات أمنية، وذلك من خلال ربط المصالح الاقتصادية الأمريكية بأمن أوكرانيا. وفي هذا السياق، أشار البيان الأمريكي الأوكراني المشترك إلى أن الرئيس الأوكراني سوف يوقع خلال الفترة المقبلة على اتفاقية شاملة مع الولايات المتحدة تتعلق بتطوير الموارد المعدنية الحيوية لكييف.
2. مشورات بريطانية وفرنسية: كشفت بعض التقارير الغربية أن الموقف الراهن لأوكرانيا يرتبط بمشورات قدمتها بريطانيا وفرنسا للقيادة في كييف لتجنب تفاقم التوترات مع الولايات المتحدة. وألمحت هذه التقارير إلى أن لندن وباريس اقترحتا على كييف تقديم عرض لواشنطن بشأن الهدنة ووقف إطلاق النار. خاصةً وأن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، كان قد اقترح مطلع شهر مارس 2025 هدنة لمدة شهر في الحرب الروسية الأوكرانية، وهو الاقتراح الذي لاقى دعماً من قبل لندن آنذاك.
ويتسق ذلك مع الزيارة التي قام بها مستشار رئيس الوزراء البريطاني، جوناثان باول، إلى كييف، قبل أيام قليلة من اجتماعات جدة، فضلاً عن المشاورات المستمرة لرئيس المكتب الرئاسي الأوكراني مع فرنسا وبريطانيا، في إطار العمل المشترك لوضح خطة سلام مشتركة. وربما تعزى مشورة باريس ولندن لكييف بشأن هذه الهدنة إلى عدم استعداد القوى الأوروبية حالياً لتحمل تكلفة الحرب الأوكرانية بشكل منفرد حال توقفت الولايات المتحدة عن دعمها لأوكرانيا.
3. التقدم الميداني للقوات الروسية: جاءت محادثات جدة التي استضافتها المملكة العربية السعودية بين الولايات المتحدة وأوكرانيا في توقيت حاسم بالنسبة للحرب الجارية في أوكرانيا، حيث تواصل القوات الروسية تقدمها الميداني على مختلف الجبهات، خاصةً في منطقة كورسك بغربي روسيا، وهي المنطقة التي تمكنت أوكرانيا من التوغل فيها بشكل مفاجئ في أغسطس 2024، وفي ظل التقدم الروسي المطرد، تهدد موسكو بتقويض ورقة التفاوض الوحيدة حالياً لكييف.
4. تراجع الثقة في فاعلية الدعم الأوروبي: على الرغم من تمسك أوكرانيا بمشاركة أوروبا في أي عملية سلام مستقبلية، فيبدو أن كييف باتت لديها قناعة مفادها أن القوى الأوروبية لن تستطيع بمفردها تقديم الدعم الكافي لها حال توقفت واشنطن عن تقديم المساعدات لأوكرانيا. وربما انعكس ذلك في التوترات التي شهدتها علاقة واشنطن وحلفائها الأوروبيين، فضلاً عن استبعاد الولايات المتحدة لأوروبا من محادثاتها مع أوكرانيا. ورغم الاجتماعات الطارئة التي عقدها القادة الأوروبيون؛ فإنها لم تفض إلى موقف موحد حاسم لدعم كييف، حتى في ظل الحديث عن مساعٍ أوروبية لتشكيل قوة حفظ سلام في أوكرانيا، لكن تنفيذ هذا الأمر يحتاج أيضاً لدعم أمريكي.
وتجدر الإشارة إلى أن ضعف الدعم الأوروبي لأوكرانيا تكشف بشكل واضح بعدما أدى انقطاع المعلومات الاستخباراتية الأمريكية عن أوكرانيا إلى خسائر كبيرة للقوات الأوكرانية على جبهات القتال، ولاسيما في منطقة كورسك الروسية.
5. وساطة سعودية نشطة: ربطت بعض التقديرات بين التحول الذي شهدته علاقة الولايات المتحدة وأوكرانيا بجهود الوساطة التي تقوم بها المملكة العربية السعودية في هذا الإطار، فقد عقد ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، مباحثات رسمية مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، قبل يوم واحد من المباحثات الأمريكية الأوكرانية في جدة. وفي اليوم ذاته، عقد الأمير محمد بن سلمان محادثات أخرى مع وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، وذلك في ظل الدور الذي تقوم به المملكة العربية السعودية في استضافة المباحثات الخاصة بتسوية الحرب الأوكرانية. وفي هذا السياق، كشفت مصادر أوكرانية أن زيلينسكي ناقش مع ولي العهد السعودي ملامح وساطة سعودية محتملة؛ تستهدف إطلاق سراح السجناء وإعادة الأطفال الذين توجه كييف تُهما لموسكو باختطافهم.
دلالات مهمة:
تعكس التحولات الجذرية التي تمخضت عنها مباحثات جدة بين المسؤولين الأمريكيين والأوكرانيين جملة من الدلالات المهمة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1. هدنة مؤقتة قابلة للتمديد: رغم عدم بدء تنفيذ الهدنة المقترحة حتى الآن، بل وعدم التأكد من موقف روسيا إزاءها؛ فإنها لا تزال حال تنفيذها، مجرد هدنة مؤقتة، يمكن أن تمهد الطريق نحو اتفاقية سلام شاملة، خاصةً وأنها ستكون أول وقف لإطلاق النار بين الطرفين منذ بداية الحرب؛ لذا يعوِّل الكثيرون على هذه الهدنة، حال موافقة الأطراف عليها، بحيث تبدأ بعدها المفاوضات الشاملة بين موسكو وكييف تمهيداً للتوصل لاتفاقية سلام دائمة. ويتسق ذلك الطرح مع تعهدات الولايات المتحدة وأوكرانيا بتسمية فريقيهما التفاوضيين خلال الأيام القليلة المقبلة؛ تمهيداً لانطلاق المفاوضات الشاملة.
2. صفقة معادن مرتقبة بين كييف وواشنطن: أشارت بعض التقارير الأمريكية إلى أن الفترة المقبلة يتوقع أن تشهد توقيع صفقة معادن بين الولايات المتحدة وأوكرانيا. ولطالما أوضح الرئيس الأمريكي ترامب، رغبته في تأمين الوصول الأمريكي لاحتياطيات كييف من المعادن الحيوية، كاليورانيوم والليثيوم والتيتانيوم. وكان من المتوقع أن يتم توقيع هذه الصفقة خلال زيارة زيلينسكي إلى واشنطن قبل أسبوعين، لكن الخلاف العلني مع ترامب، ونائبه، جيه دي فانس، حال دون توقيعها. ويبدو أن التفاهمات الأخيرة بين البلدين في جدة ستمهد الطريق أمام توقيع الصفقة، خاصةً بعد إعلان ترامب أنه سيدعو زيلينسكي خلال الفترة المقبلة للعودة إلى البيت الأبيض لمواصلة المشاورات.
3. تنازلات أوكرانية محتملة: يتوقع أن تتضمن المفاوضات المرتقبة التي ستقودها الولايات المتحدة لوقف الحرب الروسية الأوكرانية الكثير من التنازلات التي قد تضطر كييف لتقديمها للتوصل لإنهاء الحرب. وهو ما انعكس في تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، روبيو، والذي أشار إلى أن أوكرانيا ستحتاج إلى تقديم تنازلات، بما في ذلك تنازلات عن بعض الأراضي. ورغم أن هذا الأمر لم يتم بحثه خلال مباحثات جدة الأخيرة؛ فإن هذه النقطة ستكون جوهرية في أي مفاوضات مستقبلية سوف تستهدف تسوية دائمة للأزمة.
ووفقاً لتقديرات معهد دراسات الحرب (ISW)، فإن روسيا تسيطر حالياً على نحو 20% من مساحة أوكرانيا، وذلك من خلال السيطرة على نحو 99% من منطقة لوغانسك، و70% من دونيتسك و75% من منطقتي خيرسون وزاباروجيا، وتسعى موسكو لإحكام سيطرتها الكاملة على هذه الأقاليم الأربعة.
4. غياب الضمانات الأمنية لكييف: تصر الإدارة الأمريكية الحالية على عدم الالتزام بأي ضمانات كبيرة وملزمة إزاء أمن أوكرانيا، باستثناء الضمانات التي قد تشملها صفقة المعادن. حيث تتبنى إدارة ترامب، مقاربة واضحة في هذا الشأن، مفادها أن مهمة الأمن في أوكرانيا هي بالأساس مسؤولية القوى الأوروبية وليست الولايات المتحدة. وحتى الآن لا يبدو هناك أي تحول في الموقف الأمريكي إزاء هذه القضية المحورية. وهو ما انعكس في غياب أي حديث يتعلق بالضمانات الأمنية عن البيان الأمريكي الأوكراني المشترك، وهو الأمر الذي حذر منه الرئيس الفرنسي ماكرون، حيث لفت إلى حاجة كييف لضمانات أمنية قوية، بينما أشار الرئيس الأوكراني إلى أن الاتفاق على هذه الضمانات سيتم في وقت لاحق.
5. مساعٍ أوروبية لإرسال قوات حفظ سلام لأوكرانيا: في الوقت الذي تسعى فيه أوكرانيا إلى انخراط أكبر من قبل القوى الأوروبية في أي مفاوضات مستقبلية مع روسيا، فإن موقف الولايات المتحدة إزاء مشاركة بروكسل لا يزال غير واضح حتى الآن. وفي الوقت ذاته تقود بريطانيا وفرنسا الجهود الأوروبية بشأن تعزيز الدور الأوروبي في الأزمة الأوكرانية ومسارات تسويتها، وذلك من خلال حشد القوى الأوروبية الراغبة في دعم إرسال قوات حفظ سلام أوروبية إلى كييف، بغية الحفاظ على هدنة دائمة. وبينما كشفت الولايات المتحدة عن عدم رغبتها في إرسال أي قوات أمريكية على الأرض في أوكرانيا، تسعى بروكسل لإقناع كييف بمحورية دور هذه القوات لمنع أي هجوم روسي خلال فترة الهدنة، بيد أن هذه الخطوة لا يتوقع أن تحظى بقبول روسي، حتى وإن قدمت القوى الأوروبية ضمانات بأن هذه القوات لن تشكل تهديداً لموسكو؛ ومن ثم لا يزال الدور الأوروبي في المفاوضات المستقبلية المرتقبة بين روسيا وأوكرانيا غير واضح، خاصةً في ظل عدم تحمس واشنطن لانخراط أوروبا في هذه المفاوضات.
مسارات محتملة:
في إطار الموقف الأوكراني الجديد الذي انبثق عن مباحثات جدة، هناك ثلاثة مسارات رئيسة تعكس مستقبل الهدنة المحتملة التي يمكن أن تشهدها الحرب الروسية الأوكرانية خلال الفترة المقبلة، ويمكن عرض هذه المسارات على النحو التالي:
1. قبول موسكو للهدنة والتمهيد لاتفاق سلام شامل: يُعد هذا هو المسار الأكثر تفاؤلاً، وهو يفترض أن تعلن روسيا قبولها للمبادرة الأمريكية ووقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً، لتبدأ بعدها المفاوضات الشاملة برعاية أمريكية، يمكن أن تفضي في النهاية إلى اتفاقية مستدامة تنهي الحرب الروسية الأوكرانية. ورغم أن هذا المسار يبدو متفائلاً للغاية؛ فإنه غير مستبعد تماماً، خاصةً في ظل رغبة الرئيس الأمريكي ترامب، في التوصل لحل ينهي الحرب الروسية الأوكرانية بشكل كامل، حتى وإن تم ذلك من خلال الضغط على أوكرانيا لتقديم مزيد من التنازلات لروسيا.
وفي ظل إعلان ترامب بأن انضمام كييف لحلف الناتو يبقى سيناريوهاً مستبعداً، ورفضه تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا، فضلاً عن الحديث عن ضغوط أمريكية دفعت أوكرانيا لقبول مقترح وقف إطلاق النار، لا يمكن استبعاد أن تنجح الضغوط الأمريكية في إقناع كييف بتقديم التنازلات المرتبطة بالأقاليم الأربعة التي تسعى روسيا لضمها بشكل كامل، وكذلك ضمان حيادية أوكرانيا. ورغم ذلك؛ فإن احتمالات هذا المسار تظل مرهونة بالتوافقات المحتملة بين الولايات المتحدة وروسيا، والتنازلات، غير المعروفة حتى الآن، التي يمكن أن تقدمها موسكو.
2. انهيار سريع للهدنة بعد قبول روسيا بها: وفقاً لهذا المسار، يتوقع أن تعلن روسيا عن موافقتها على المقترح الأمريكي بوقف إطلاق النار، لكن هذه الهدنة ستنهار سريعاً، مع توجيه كل طرف اللوم للطرف الآخر بشأن انهيارها، وهو ما سيزيد المشهد تعقيداً.
ويتماشى هذا الطرح مع القلق الأوروبي بشأن احتمالية عدم التزام روسيا بوقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً. وفي هذا الإطار، أشار الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني، السير أليكس يونغر، إلى أن موسكو ربما تعلن موافقتها على الهدنة لمدة 30 يوماً، لكنها قد تعمد بعد ذلك إلى وضع مطالب غير قابلة للتطبيق؛ الأمر الذي سيجعل استمرار الهدنة محل شك كبير ويعوق التقدم نحو تسوية شاملة. ووفقاً ليونغر، فيتوقع أن تطالب موسكو بأن تكون أوكرانيا دولة محايدة ومنزوعة السلاح. وعلى المنوال ذاته؛ ذهب السفير البريطاني السابق لدى موسكو، السير لوري بريستو، إلى أن روسيا ربما تقبل بالهدنة، مع مواصلتها للإجراءات دون المستوى العسكري لمحاولة تحسين موقعها الميداني، مع عدم استبعاد احتمالية القيام بأعمال استفزازية لتحميل كييف مسؤولية أي خرق للهدنة.
3. رفض روسيا للهدنة المؤقتة: أشار تقرير صادر عن صحيفة التلغراف البريطانية إلى أن نسبة قبول روسيا بالهدنة التي اقترحتها الولايات المتحدة لا تزال 50%، في ظل تمسك روسيا بمطالبها المرتبطة بالأقاليم الأربعة الشرقية، وتحييد أوكرانيا، ورفض موسكو لفكرة الهدنة المؤقتة، وتفضيلها بدلاً من ذلك للاتفاق الشامل المستدام. ويتسق هذا الطرح مع تقرير آخر نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانية، توقع رفض روسيا للمقترح الأمريكي بوقف إطلاق النار، ولاسيما في ظل التقدم الميداني الراهن للقوات الروسية، مشيراً إلى أن روسيا ربما تنظر لهذه الهدنة باعتبارها فخاً أمريكياً.
وعلى الرغم من ذلك، يعكس النهج الحذر للرئيس الروسي بوتين، حتى الآن إزاء موقف بلاده من الهدنة المقترحة من قبل الولايات المتحدة رغبته في تجنب عرقلة مساعي إصلاح العلاقات الأمريكية الروسية؛ ومن ثم ربما يتجنب بوتين مسار الرفض الصريح للمقترح الأمريكي بوقف إطلاق النار، والعمل بدلاً من ذلك على ربطها بشروط محددة لضمان المصالح الروسية؛ ما قد يحول دون تطبيق الهدنة.
وبينما يبدو المسار الثالث هو الأقل احتمالية، فإن المسار الثاني يبقى حتى الآن، هو الأكثر ترجيحاً، مع بقاء احتمالية المسار الأول قائمة أيضاً. لكن إجمالاً من غير المرجح أن ترفض روسيا بشكل صريح المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار، لكن في الوقت ذاته لا يتوقع أن يوافق بوتين، على تطبيق الهدنة طالما ظلت القوات الأوكرانية موجودة في منطقة كورسك الروسية؛ لذا ربما يربط بوتين قبول بلاده بالهدنة بانسحاب القوات الأوكرانية المتبقية في كورسك، أو الدفع نحو تكثيف الهجمات الروسية في تلك المنطقة؛ لتحقيق نصر حاسم ينهي أي وجود أوكراني في الداخل الروسي قبل أي إعلان عن قبول روسي لوقف إطلاق النار.
وفي الختام، أعادت مباحثات جدة الأخيرة زخم المفاوضات للحرب الروسية الأوكرانية، ويشكل قرار أوكرانيا قبول وقف إطلاق النار تحولاً جذرياً في موقف الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي طالما عارض هذه الفكرة دون ربطها بترتيبات خاصة بالمراقبة والتنفيذ والحصول على ضمانات أمنية لردع أي هجوم روسي مستقبلي، لكن يبدو أن زيلينسكي قبل بالهدنة المقترحة من قبل واشنطن دون الحصول على الشروط التي حددها سابقاً في ظل ضغوط إدارة الرئيس ترامب.
ويتوقع أن تقبل روسيا بالهدنة؛ لإظهار احترامها للمسار السلمي في تسوية الأزمة، مع الحفاظ على العلاقات الراهنة بالإدارة الأمريكية الجديدة، والحيلولة دون استغلال كييف للموقف، حال رفضت موسكو الهدنة، والمطالبة بمزيد من العقوبات والضغوط الأمريكية على روسيا. لكن لا يزال مستقبل الالتزام بالهدنة، ونجاح المفاوضات اللاحقة في التوصل لاتفاق شامل ينهي الحرب الروسية الأوكرانية، محل شك في ظل التعقيدات المرتبطة بهذه الحرب، وتشعب الأطراف المنخرطة فيها بشكل مباشر وغير مباشر.