الرسوم الجمركية الأمريكية و تأثيرها على دول جنوب افريقيا
فرع القاهرة

جاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فترة رئاسته الثانية مستهدفًا الأساس الذي بنيت عليه التجارة الدولية منذ اتفاق هافانا والذي وقعته نحو 53 دولة، ولم توقع عليه الولايات المتحدة حينئذ، ثم أخذت الولايات المتحدة الجزء المتعلق منه بحرية التجارة لتدشين الاتفاقيات العامة للتجارة والتعريفة الجمركية (الجات) في 1947 والتي تطورت عبر عدة جولات تفاوضية بعد إضافة الخدمات حتى وصلت إلى تأسيس منظمة التجارة العالمية في عام 1995

وعلى الرغم من رعاية الولايات المتحدة للنظام التجاري العالمي منذ نشأة الجات وحتى نهاية فترة الرئيس الأمريكي بايدن، واستفادتها من هذا النظام وسيطرتها وهيمنة عملتها على المبادلات التجارية وأدوات الدفع وما تلا ذلك من فصل علاقة الدولار بالذهب في 1971، إلا أن الرئيس الأمريكي ترامب له سياسة مختلفة تقوم على أسس مغايرة لما دأبت عليه الإدارات الامريكية المختلفة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يرى ضرورة الربط ما بين التجارة والأمن ولا حماية أمريكية دون ثمن وإلغاء ظاهرة الراكب المجاني حتى مع أقرب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية وتعديل أسس التجارة التي يرى أن دول العالم قد استفادت من الولايات المتحدة أكثر مما استفادت هي ذاتها، وبدأ في فرض رسوم جمركية على دول العالم بنسب مختلفة على دول القارة الافريقية ومنها دولة جنوب افريقيا وهو ما سوف نستعرضه عبر السطور التالية

الإدارات الأمريكية والدول الافريقية

شجعت الإدارات الأمريكية السابقة الصادرات من الدول الافريقية من خلال قانون النمو والفرص في افريقيا (AGOA) كوسيلة لدعم التنمية الاقتصادية في افريقيا، وتم تمديد القانون عدة مرات حتى عام 2025، وهو القانون الذي يمنح البلدان الافريقية إعفاءًا جمركيًا لحوالي 6500- 7000 منتج إلى الولايات المتحدة، وفي فترة جائحة كورونا، تم منح أكثر من 50 مليون جرعة من لقاحات فيروس كورونا إلى 43 دولة إفريقية لمساعدة دول القارة على مواجهة تداعيات الجائحة التي اندلعت في 2020 وتجدر الإشارة إلى أن العديد من الدول الافريقية تصدر معادنها ونفطها إلى الولايات المتحدة

ووفقًا لأحدث تقرير صادر عن مكتب الممثل التجاري الأمريكي (USTR)، بلغ إجمالي واردات الولايات المتحدة (صادرات إفريقية يشملها قانون “أجوا”) بموجب قانون النمو والفرص في افريقيا 97 مليار دولار أمريكي في عام 2023 وكانت أهم الواردات النفط الخام (42 مليار دولار أمريكي)، والملابس (11 مليار دولار أمريكي)، والزراعة (أكثر من 900 مليون دولار أمريكي)

 

ولقد بلغت واردات الولايات المتحدة من دول قانون النمو والفرص في افريقياذروتها في عام 2008 حيث بلغت الواردات الأمريكية نحو 86 مليار دولار ولكن على مدى السنوات الخمس الماضية الأخيرة، انخفضت قيمة الواردات الامريكية بحيث بلغ متوسطها 26 مليار دولار سنويًا

ولقد كان أحد العوامل الرئيسية في هذا الانخفاض هو تقلب أسعار النفط، التي تشكل الجزء الأكبر من الواردات الأمريكية، والتي وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 14750 دولارًا للبرميل في عام 2008 وقد تضاءل هذا الارتباط بين أسعار النفط وحجم التجارة في السنوات الأخيرة مع تحول تكوين هيكل صادرات دول قانون النمو والفرص في افريقيا خاصة في ظل شكاوى المنتجين والمصدرين الأمريكيين مثلما حدث في صادرات رواندا من المنسوجات ولقد أظهر تقييم أجرته مؤسسة بروكينجز لقانون النمو والفرص في افريقيا في عام 2024 أن الصادرات من دون النفط الخام إلى الولايات المتحدة زادت بنسبة 241% بين عامي 2001 و2022، بينما انخفضت صادرات النفط بنسبة 50%

وتوقع التقرير إمكانية أن تصبح افريقيا مركز التصنيع التالي في العالم مع الارتفاع التدريجي لتكلفة العمالة في الصين، ويقدر معهد بروكينجز أن الإنفاق الصناعي في افريقيا سينمو بأكثر من 50% ليصل إلى أكثر من 660 مليار دولار بحلول عام 2030

وتبرز استراتيجية الولايات المتحدة في افريقيا كجهد مفصل في لحظة عملت فيها الإدارة الأمريكية حينئذ على تجديد العلاقات الأمريكية في جميع أنحاء العالم، وهو ما أكد عليه بلينكين مرة أخرى في استراتيجية الولايات المتحدة للتجديد والتي أوضحها وزير الخارجية الأمريكي في مجلة فورين أفيرز مطلع أكتوبر 2024 وتأكيده على مساعدة الدول الافريقية على تحقيق الأمن الغذائي والصحي والمساعدة في مواجهة تغير المناخ وغيره من المجالات التنموية 

إلا أن هذا الأمر لم يستمر كثيرًا، حيث بدأ الرئيس ترامب، بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض في فترة رئاسته الثانية في وضع أسس جديدة مفادها الأمن مقابل التجارة وفرض الرسوم الجمركية لإصلاح العجز التجاري الأمريكي مع دول العالم المختلفة ومن خلال فرض رسوم جمركية بمعدلات مختلفة على دول العالم ومنها دولة جنوب افريقيا  لذا من المرجح أن يواجه المواطن الجنوب إفريقي العادي بيئة استهلاكية صعبة بشكل متزايد في الفترات المقبلة، نتيجةً التضخم، واحتمالية زيادة ضريبة القيمة المضافة بنصف نقطة مئوية، وفرض رسوم جمركية بنسبة 30% على مجموعة من صادرات جنوب افريقيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أُعلن عنها مؤخرًا

عجز التجارة الأمريكية وتأثيرها على افريقيا

في عالم التجارة المتشابك، باتت السياسات التجارية الأمريكية موضوع نقاش حيوي، خاصة فيما يتعلق بتأثيرها على الصادرات الافريقية فقد حذر عدد من الخبراء من أن الرسوم الجمركية التي تفرضها الولايات المتحدة قد تؤدي إلى تأثيرات سلبية جسيمة على الاقتصاد الإفريقي. كما أن الصراع التجاري المستمر بين الولايات المتحدة والصين قد يكون له تداعيات مدمرة على القارة الافريقية، خاصة إذا ما شهد الاقتصاد الصيني أي تراجع.

وفقا لتقرير صادر عن بنك "رينيسانس كابيتال" في شمال افريقيا، تشير البيانات إلى أن الولايات المتحدة تعاني من أكبر عجز تجاري لها مع عدد من أكبر مصدري السلع الافريقية تشمل هذه الدول كل من جنوب افريقيا ونيجيريا والجزائر وأنجولا، حيث تعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على منتجات هذه الدول، بما في ذلك المعادن الثمينة والنفط والبلاتين.

على الرغم من أن حجم التجارة بين الولايات المتحدة وافريقيا يظل صغيرًا نسبيًا، حيث بلغ نحو 39 مليار دولار من الواردات الأمريكية في العام الماضي، إلا أن التأثيرات السلبية لهذه الرسوم الجمركية المتبادلة تبدو واضحة الدول مثل ليسوتو ومدغشقر وبوتسوانا وأنجولا وجنوب افريقيا هي من بين الأكثر تضرراً من التعريفات التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي تتراوح نسبتها بين 10% و50%.

في تطور مفاجئ، أعلن ترامب أنه سيوقف الرسوم الجمركية المتبادلة لمدة 90 يومًا لمعظم البلدان ومع ذلك، فإن الصين ظلت مستثناة من هذا القرار، حيث تم فرض تعريفات إضافية على المنتجات الصينية ليصل معدل الرسوم الجمركية الإجمالية إلى 145% هذا العام، مما يعكس تصاعد الحرب التجارية بين القوتين الكبيرتين.

يقول كاي تشو، المحامي المتخصص في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، إن جنوب افريقيا، الغنية بالموارد وبعض الدول الأخرى التي طورت صناعاتها بموجب قانون "أجوا" مثل كينيا وإثيوبيا وموريشيوس وليسوتو، قد تتأثر بشكل كبير بزيادة هذه الرسوم. حيث أن صادرات جنوب افريقيا إلى الولايات المتحدة تبلغ حوالي 8 مليارات دولار سنويًا، مما يجعلها عرضة للخطر إذا لم يتم إلغاء هذه التعريفات.

موقف الدول الافريقية وردود الفعل الإقليمية

اتسمت ردود الفعل الإفريقية تجاه الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة بدرجة من الحزم والقلق المتزايد؛ إذ رأت العديد من العواصم الإفريقية أن هذه الإجراءات تتجاوز البُعْد الاقتصادي الضيق، وتُمثّل تهديدًا مباشرًا لفرص التنمية والاستقرار في القارة. وقد برز موقف جنوب افريقيا بوصفه الأكثر صراحة؛ حيث دعت حكومة بريتوريا إلى إعادة تقييم شاملة لاتفاقياتها التجارية مع الولايات المتحدة، مشيرةً إلى أن الإجراءات الجديدة تقوّض مبدأ الشراكة العادلة، وتشكك في مصداقية التزامات واشنطن تجاه التنمية الإفريقية وتبنَّت مواقف مشابهة دول أخرى متضررة مثل ليسوتو ومدغشقر وموريشيوس، التي بدأت بالفعل في مراجعة خياراتها التجارية والبحث عن بدائل في أسواق آسيا والاتحاد الأوروبي، وهو ما يعكس بداية تحوُّل تدريجي في إدراك الدول الإفريقية لمخاطر الاعتماد الأحادي على السوق الأمريكية.

أما على المستوى الإقليمي، فقد أعرب الاتحاد الإفريقي عن “قلق بالغ” إزاء الآثار السلبية لهذه الرسوم على مسار التكامل الاقتصادي القاري، خصوصًا في ظل الجهود الحثيثة المبذولة لإنجاح منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية  والتي تهدف إلى تعزيز الإنتاج والتبادل التجاري البيني داخل القارة. واعتبر الاتحاد أن الإجراءات الأمريكية تُشكِّل عائقًا إضافيًّا أمام الدول الإفريقية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، لا سيما تلك المتعلقة بتعزيز التصنيع، وتوفير فرص العمل، والحد من الفقر وجاء هذا التحذير في سياق تراكمي من التحديات التي تواجهها القارة، بدءًا من تداعيات جائحة كوفيد-19، مرورًا بتقلبات سلاسل الإمداد العالمية، ووصولاً إلى ضغوط التغير المناخي، ما يجعل أيّ صدمة تجارية خارجية بمثابة تهديد مركب ومتعدد الأبعاد.

وعلى الصعيد الدولي، تلقى القرار الأمريكي انتقادات من مؤسسات بحثية وخبراء اقتصاديين؛ حيث رأى البعض أن الإجراءات تحمل في طياتها تناقضًا مع الخطاب الأمريكي المعلن حول دعم التنمية في افريقيا، وتكشف عن إستراتيجية تتسم بقدر من الانكفاء القومي على حساب الشراكات التنموية

واعتبر آخرون أن هذه الخطوة تتيح فرصة أمام قوى اقتصادية أخرى، وعلى رأسها الصين، لتعزيز نفوذها التجاري في القارة، من خلال تقديم شروط أكثر استقرارًا في علاقاتها التجارية مع الدول الإفريقية، لا سيما في ظل ما تُبديه بكين من مرونة في التفاوض وتمويل البنية التحتية وتعزيز قدرات التصنيع المحلي

إن هذا التفاعل الإفريقي المُوحَّد نسبيًّا يعكس إدراكًا متناميًا بأن مستقبل القارة الاقتصادي ينبغي ألا يرتهن بتقلبات السياسات الأمريكية، كما يعكس تحولًا محتملاً في أولويات القارة باتجاه شراكات تجارية متعددة الأقطاب وأكثر توازنًا.

الخاتمة تبرز الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة اتجاهًا متصاعدًا نحو توظيف التجارة كأداة للنفوذ الجيوسياسي، في سياق تنافسي عالمي يحتدم بشكل خاص في افريقيا. فبينما تتذرع واشنطن بالدفاع عن مصالحها الاقتصادية، تشير التحليلات إلى أن الإجراءات الحمائية الأخيرة تتجاوز البُعْد التجاري، لتعكس تحوّلات في التوجه الإستراتيجي الأمريكي نحو القارة، في مواجهة تصاعد النفوذ الصيني وشراكات جنوب–جنوب المتنامية.

لقد أثبتت الأزمة أن الهشاشة البنيوية لاقتصادات إفريقية عديدة ما زالت قائمة، في ظل الاعتماد المفرط على الأسواق الخارجية والتخصص في صادرات المواد الخام، مما يجعل القارة عُرضة لتقلبات السياسات الاقتصادية للقوى الكبرى. وعلى هذا الأساس، تصبح ضرورة تنويع الشراكات وتعزيز التكامل الاقتصادي الإفريقي أمرًا غير قابل للتأجيل.

وفي ضوء ما سبق، تبرز جملة من التوصيات: تعزيز تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية كإطار بديل لبناء قدرات إنتاجية إقليمية وتوسيع الأسواق الداخلية.

تنويع الشراكات الدولية عبر التوسع في التعاون مع قوى ناشئة كالصين والهند وتركيا، بما يضمن شروطًا أكثر توازنًا واستقلالية.

تعزيز القدرات التفاوضية الجماعية لافريقيا في المنتديات التجارية الدولية، عبر موقف مُوحَّد يُعبِّر عن مصالح القارة في مواجهة السياسات الحمائية.

توسيع نطاق الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والصناعية، لا سيما في مجالات التكنولوجيا، والتعليم الفني، والبنية التحتية، بما يرفع من مرونة الاقتصادات الإفريقية في مواجهة الصدمات.

إن التعامل مع التحديات الناجمة عن الرسوم الجمركية الأمريكية لا يتطلب فقط ردودًا دبلوماسية، بل رؤية إستراتيجية شاملة لإعادة صياغة موقع افريقيا في النظام التجاري العالمي، بما يُحقّق السيادة الاقتصادية والتنمية المستدامة.

 

 




المصدر: مركز رع للدراسات الاستراتيجية

الكاتب: د مصطفى عيد

التاريخ : 28/4/2025

--------------------------------------------

المصدر: الملف العربي

التاريخ : 13/4/2025

المقالات الأخيرة