هل يمكن أن تصبح المظلة النووية الفرنسية بديلاً عن الردع الأمريكي في أوروبا؟
فرع بنغازي

في خضم التحولات الجيوسياسية التي تشهدها أوروبا، أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سلسلة من الرسائل الإستراتيجية غير المسبوقة التي قد تعكس تحولاً في العقيدة الردعية لبلاده؛ ففي زيارته إلى البرتغال بتاريخ 28 فبراير 2025، أعلن عن استعداده لـفتح نقاش حول مستقبل الردع النووي الأوروبي، في إشارة مباشرة إلى احتمال توسيع المظلة النووية الفرنسية لتشمل حلفاء أوروبيين. وبعد أيام، وتحديداً في 5 مارس 2025، جدد ماكرون من خلال خطاب تلفزيوني رسمي هذه الدعوة من خلال طرح "نقاش استراتيجي" صريح بشأن انخراط فرنسا النووي في أمن القارة الأوروبية. وقد توَّج ماكرون هذا التوجه بإعلانه في 18 مارس 2025 عن إنشاء قاعدة جوية رابعة ذات طابع نووي في فرنسا؛ ما اعتُبر مؤشراً عملياً على استعداد باريس لتوسيع نطاق الردع. هذه السلسلة من المواقف أعادت إلى الواجهة سؤالاً جوهرياً: هل تستطيع فرنسا تحويل قدراتها الردعية إلى أداة لحماية القارة بأكملها؟ وهل يمكن للمظلة النووية الفرنسية أن تصبح بديلاً موثوقاً عن الردع الأمريكي؟

توسيع المظلة

تتعدد العوامل التي تدفع فرنسا إلى التفكير جدياً في توسيع مظلتها النووية لتشمل شركاء أوروبيين في ظل تحولات غير مسبوقة:

1– تصاعد الشكوك حول ديمومة المظلة النووية الأمريكية: أحدثت التحولات السياسية في الولايات المتحدة، خاصةً مع عودة دونالد ترامب، هزة عميقة في ثقة الحلفاء الأوروبيين بالضمانات النووية الأمريكية؛ فترامب لم يُخْفِ رغبته في تقليص التزامات بلاده تجاه الناتو، وذهب أبعد من ذلك حين أشار إلى أنه قد لا يلتزم بالدفاع عن الدول الأعضاء إذا تعرضت لهجوم. هذه التوجهات أذكت المخاوف لدى دول مثل ألمانيا وبولندا، التي باتت تعتبر احتمال "الطلاق النووي" مع واشنطن أمراً وارداً. وفي هذا السياق، ظهرت دعوات أوروبية لإعادة النظر في ترتيبات الردع الاستراتيجي، وبرزت فرنسا كخيار ممكن لسد هذا الفراغ انطلاقاً من أن مظلة الردع الأمريكية، رغم ضخامتها، ليست مطلقة أو مضمونة.

كما اعتبرت بعض القراءات التحليلية أن التقدم الذي حصل في الآونة الأخيرة يتمثل في أن الأوروبيين خرجوا من مجرد العبارات الرمزية نحو إرادة حقيقية لدفع هذا الملف إلى الأمام في سياق جيوسياسي غير مسبوق، وهذا ما يعكس التحول في إدراك الأوروبيين لواقعهم الأمني، ويُضفي على النقاش حول الردع الفرنسي طابعاً عملياً بعد سنوات من الجمود الخطابي.

 

2– الطلب المتجدد من الحلفاء الأوروبيين لتوسيع الحماية الفرنسية: 

ما كان يُعد من المحرمات السياسية في الماضي، أصبح اليوم مطروحاً في العلن: فألمانيا التي لطالما رفضت أي نقاش حول المظلة النووية الفرنسية، بدأت تطالب بفتح حوار رسمي مع باريس حول إمكانية الاستفادة من قدراتها النووية. وقد جاء ذلك على لسان المستشار الألماني القادم فريدريش ميرتس الذي دعا صراحةً إلى مباحثات مع الفرنسيين والبريطانيين حول توسيع حمايتهم النووية لتشمل ألمانيا قبل فوزه بالانتخابات بيومين؛ أي في 21 فبراير، ولاحقاً كرر الموقف نفسه في 9 مارس 2025.

كما عبر رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك عن موقف مشابه في 7 مارس 2025 من داخل مجلس النواب البولندي، مقترِحاً التوجه نحو قدرات نووية غير تقليدية بالتعاون مع باريس. هذه التحولات لم تأتِ من فراغ، بل تعكس إدراكاً جديداً لدى هذه الدول بأن أمنها لم يعد مضموناً كما كان سابقاً، وأن فرنسا تُمثل اليوم رافعة محتملة للردع الأوروبي في مواجهة روسيا والفراغ الأمريكي.

3– تجذُّر البعد الأوروبي في العقيدة النووية الفرنسية: 

لم يكن الخطاب الفرنسي النووي يوماً منغلقاً على نطاق وطني ضيق، بل لطالما ارتكز على مفهوم "المصالح الحيوية" الذي يشمل، بشكل مرن وغامض، بعض الأبعاد الأوروبية. وأعاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إحياء هذا التصور في خطاباته منذ عام 2020، عندما أكد أن مصالح فرنسا الاستراتيجية لا يمكن فصلها عن استقرار أوروبا. وقبله، كان الرئيس فرنسوا ميتران قد عبِّر في تسعينيات القرن الماضي عن إمكانية تطوير "عقيدة ردع أوروبية" بالاتفاق مع الشركاء، لكن الظروف السياسية حينها لم تكن ناضجة.

وكان الجنرال ديجول قد اعتبر في عام 1964 أن تهديد أراضي ألمانيا الغربية ودول البنلوكس يُعد تهديداً لفرنسا، لكنه شدد على أن حماية أراضي الحلفاء تستوجب التنسيق معهم؛ مما يُقيِّد السيادة الفرنسية. ويمكن الاستدلال من ذلك على أن الردع النووي الفرنسي لم يُصمَّم منذ البداية ليشمل كامل أوروبا بل جزءاً منها. واليوم، تعود هذه الفكرة بقوة في ظل تنامي التهديدات المحيطة بالقارة الأوروبية، وبدأت باريس تتحدث عن سيناريوهات لتوسيع المظلة، ليس عبر نقل القرار النووي، بل عبر تدريب الحلفاء وإدماجهم في التمارين النووية، وإشراكهم بشكل رمزي في صياغة الرؤية الردعية المشتركة.

4– دور التهديد الروسي في إعادة الاعتبار للردع النووي الأوروبي:

منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، تحولت روسيا إلى عامل تهديد وجودي لأوروبا الشرقية؛ ليس فقط بسبب سياساتها التوسعية، بل أيضاً لاستخدامها المتكرر للتهديد النووي وسيلةً للترهيب. وتقوم الاستراتيجية التي تنتهجها موسكو، والتي تعرف "بالتحصين العدواني" Sanctuarisation agressive، على استخدام التلويح بالسلاح النووي لفرض أمر واقع في محيطها الحيوي. وبذلك أصبح الخطر النووي الروسي ماثلاً أمام الدول الأوروبية التي لطالما اعتقدت أنها آمنة تحت المظلة الأمريكية. وهنا، تبرز فرنسا بوصفها الطرف الوحيد في الاتحاد الأوروبي (وفي أوروبا) القادر على توفير ردع نووي له طابع مستقل؛ ما يمنح أوروبا هامشاً للرد دون انتظار موقف واشنطن، كما أن فرنسا تمتلك وسائل التوصيل والتخزين والبنية التحتية اللازمة، وإن كانت محدودة، لتوفير حد أدنى من التهديد المضاد القابل للتصديق في مواجهة موسكو. 

5– غياب بدائل واقعية لأوروبا في ظل التزامات عدم الانتشار النووي: في الوقت الذي يدفع فيه السياق الأمني نحو البحث عن حلول ردعية أوروبية، تبقى الخيارات المتاحة شديدة المحدودية؛ فالاتحاد الأوروبي لا يملك قدرة نووية جماعية، كما أن معظم أعضائه موقِّعون على معاهدة عدم الانتشار النووي التي تمنعهم من تطوير أو امتلاك السلاح النووي. ومن ثم، فإن خيار بناء قدرة نووية أوروبية جديدة من الصفر غير ممكن من الناحيتين السياسية والتقنية. في هذا الإطار، تُعد القوة الفرنسية البديل الأكثر قابليةً للتفعيل، ضمن حدود احترام المعاهدة وعدم نقل التكنولوجيات الحساسة.

انعكاسات محتملة

إن توسيع المظلة الفرنسية لا يمر من دون تبعات إستراتيجية على مستقبل الأمن الجماعي في أوروبا:

1– تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي:

من أبرز الانعكاسات المحتملة لتوسيع المظلة النووية الفرنسية، تحفيز أوروبا على تطوير مفهوم "الاستقلالية الإستراتيجية"، الذي لطالما روَّجت له باريس؛ إذ إن فك الارتباط التدريجي مع واشنطن في المجال النووي، حتى وإن كان جزئياً، يدفع الأوروبيين إلى إعادة التفكير في منظومتهم الدفاعية الجماعية، بعيداً عن الهيمنة الأمريكية. ولعل الرؤية الفرنسية في هذا السياق لا تقوم على القطيعة مع الحلف الأطلسي، بل على خلق توازن بين الاعتماد على الناتو من جهة، وتكريس قدرة أوروبية مستقلة من جهة أخرى. وإذا ما تم إدماج المظلة النووية الفرنسية ضمن إطار تنسيقي أوروبي، فإن ذلك سيشكل رافعة قوية لتعزيز سيادة القرار الأوروبي في قضايا الحرب والسلم، دون أن يلغي التنسيق مع الحلفاء الأمريكيين. من هنا، تصبح المظلة الفرنسية أداة لخلق "ضمان إضافي" بجانب قوة الردع الأمريكية.

 

2– تسريع بناء عقيدة دفاعية أوروبية مشتركة: 

إن إدماج بعض الشركاء الأوروبيين ضمن منظومة الردع الفرنسية، سواء من خلال التدريبات أو الانتشار المشترك، يستدعي بالضرورة صياغة عقيدة دفاعية متقاربة؛ فمسألة الردع النووي لا يمكن فصلها عن تصور شامل لمصادر التهديد، وأنماط الرد، وسيناريوهات التصعيد. بهذا المعنى، فإن توسيع المظلة الفرنسية قد يكون عاملاً محفزاً لوضع نواة عقيدة نووية أوروبية مصغرة، حتى إن بقي القرار النهائي في يد فرنسا؛ فمن خلال المشاركة في التدريبات النووية الفرنسية مثل تمرين "بوكر" (Poker) الذي نفِّذ في عام 2022 بمشاركة طائرة تزويد بالوقود إيطالية، أو عبر إقامة آليات تنسيق لوجستي وعقائدي مع دول مثل بولندا وألمانيا، يصبح ممكناً تقليص الفجوة بين التصورات الدفاعية الوطنية الأوروبية المختلفة. وهذا من شأنه أن يُعزز تماسك أوروبا في حالات الطوارئ، ويُقلص من الاعتماد الكلي على القوة الأمريكية كمصدر أوحد للردع الاستراتيجي. 

3– إحداث انقسامات داخلية محتملة في الاتحاد الأوروبي: 

 

رغم طابعها الطموح، لا تخلو فكرة توسيع المظلة النووية الفرنسية من مخاطر سياسية، أبرزها احتمال إحداث شرخ داخل الاتحاد الأوروبي بين الدول المؤيدة والمعارضة للردع النووي؛ إذ لا تزال بعض الدول، مثل النمسا أو إيرلندا، تُعارض بشدة أي دور للسلاح النووي في الأمن الأوروبي، استناداً إلى التزاماتها الأخلاقية والقانونية.

كما أن دولاً أخرى قد ترفض استضافة أي شكل من أشكال الانتشار النووي على أراضيها، سواء لأسباب داخلية أو بدافع الحذر من استفزاز روسيا. هذا الانقسام قد يؤدي إلى نشوء استجابة أوروبية متعددة السرعات في المجال النووي؛ ما يضعف وحدة القرار الأمني الجماعي، ويُعيد فتح نقاشات حول شرعية السياسات الدفاعية المشتركة؛ لذا فإن توسيع المظلة الفرنسية يتطلب توازناً دقيقاً بين الطموح الردعي والحد الأدنى من الإجماع السياسي داخل الاتحاد الأوروبي.

4– احتمال تصاعد التوترات مع روسيا:

من الزاوية الجيوسياسية، قد يُنظر إلى أي توسع في الحضور النووي الفرنسي في شرق أوروبا، كتهديد مباشر لروسيا. ولطالما أبدت موسكو حساسية شديدة تجاه التغييرات في المعادلات العسكرية الأوروبية، واعتبرت التمدد الدفاعي لحلف الناتو في محيطها تهديداً وجودياً. وإذا ما أضيفت المظلة النووية الفرنسية إلى هذا المشهد، خاصةً إذا رافقها نشر أسلحة أو طائرات فرنسية قرب الحدود الروسية، فقد تُستخدم من قبل الكرملين مبرراً لمزيد من التصعيد، أو حتى كذريعة لسباق تسلح جديد. وفي هذا السياق أثار خطاب ماكرون الذي تناول فيه مسألة حماية أوروبا عبر المظلة النووية الفرنسية في 5 مارس ردوداً حادة من موسكو؛ حيث شبَّه لافروف ماكرون بهتلر ونابليون واتهمه بمحاولة غزو روسيا، فيما اعتبر بوتين، في 6 مارس 2025، أن هناك "من لا يزال يحلم بعصر نابليون، متناسياً كيف انتهى". وفي المقابل جاء رد ماكرون باتهام بوتين بأنه إمبريالي يريد إعادة كتابة التاريخ. 

5– خلق دينامية جديدة لتقاسم الأعباء داخل الاتحاد الأوروبي:

من النتائج الإيجابية المحتملة لتوسيع المظلة النووية الفرنسية أنها قد تفتح الباب أمام مقاربة أوروبية جديدة لمسألة "تقاسم الأعباء"، سواء في المجال النووي أو الدفاعي الأوسع؛ إذ يمكن لهذا التوسيع أن يدفع دولاً مثل ألمانيا إلى المساهمة مالياً في صيانة الردع الفرنسي، مثلما سبق أن طُرح في البرلمان الألماني عام 2017، كما يُمكن أن يؤدي إلى نشوء برامج تسليح مشتركة مثل المقاتلة SCAF، أو إلى اعتماد مبدأ "المفتاحين" الذي يسمح للطائرات المقاتلة التابعة لدول أوروبية أن تُنفِّذ ضربات بالسلاح النووي الفرنسي، لكن التحكُّم بهذه الأسلحة يبقى حصرياً بيد فرنسا. وبذلك، يتحول الردع النووي من مسؤولية فرنسية بحتة إلى مشروع أوروبي تشاركي؛ ما يُعزز التماسك الدفاعي. هذا التحول يتطلب شفافية، واستعداداً فرنسياً للانفتاح، وإجماعاً أوروبياً على تحمل التبعات المالية والسياسية لهذه الخطوة غير المسبوقة. 

حدود الردع

رغم أهمية المبادرة الفرنسية، فإن قدرتها الفعلية على ردع روسيا أو الحلول محل المظلة الأمريكية تبقى موضع نقاش معقد، وفقاً للتالي:

1– محدودية الترسانة النووية الفرنسية:

تمتلك فرنسا حالياً نحو 290 رأساً نووياً، وهي كمية تُعد كافية لمبدأ "الردع بالحد الأدنى" أو ما تسميه العقيدة النووية الفرنسية "القدر الكافي للردع"، لكن هذه الترسانة تبقى محدودة إذا ما قورنت بالقدرات الأمريكية الهائلة، التي تتجاوز 3700 رأس نووي موزعة على عدة منصات بحرية وبرية وجوية. في حالة المواجهة الشاملة مع روسيا (التي تمتلك 4300 رأس نووي)، لا يمكن للردع الفرنسي أن يُوازي، لا من حيث الكثافة ولا من حيث التغطية الجغرافية، المظلة الأمريكية التي تؤمن حماية ممتدة تشمل المحيطين الأطلسي والهادئ.

 

كما أن غياب عناصر مثل الصواريخ البالستية العابرة للقارات، يقيِّد نطاق التهديد الفرنسي خارج محيطه الأوروبي، وهذا ما يجعل فكرة الاستبدال الكامل للردع الفرنسي مكانَ الردع الأمريكي، أمراً غير واقعي من منظور القوة الصلبة وحدهاوتُقدَّر بعض الدراسات كلفة توسيعالردع النووي الفرنسي ليشمل المستوى الأوروبي بمايتجاوز 10 مليارات يورو سنوياًوقد عبَّر الباحث الفرنسيفريدريك إنسيل عن هذا التوجه معتبراً أن الترتيب الحالي للردع النووي الفرنسي سيكون ذا مصداقية لعدد أقل بكثير من الدول مقارنةً بردع الولايات المتحدة.

 

2– غموض العقيدة الفرنسية حول المصالح الحيوية: 

العقيدة النووية الفرنسية تقوم منذ تأسيسها على مبدأ "الغموض الإاستراتيجي"، خاصةً فيما يتعلق بتحديد "المصالح الحيوية" التي تستوجب الرد النووي؛ فالرئيس الفرنسي، بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، يحتفظ وحده بحق تحديد إذا ما كانت هذه المصالح قد تعرَّضت للتهديد. هذا الغموض، وإن كان فعالاً في إطار ردع وطني، قد يصبح مصدر قلق عندما يُراد توسيع المظلة إلى حلفاء آخرين، خصوصاً أن الخبير النووي الفرنسي برونو تيرتريس مؤلف كتاب "السلام الذري" يؤكد أن المستوى الأوروبي لن يحل محل القرار الوطني الفرنسي، بل سيضاف إليه.

وهذه المعادلة تعكس حدود التزام فرنسا، وتجعل الشركاء الأوروبيين يتساءلون عن مدى موثوقية الردع إذا بقي القرار النهائي أحادياً وسيادياً. وفي هذا الإطار تتساءل بعض الدراسات: في أي سياق سيُعتبَر استهداف تالين أو وارسو مساساً "بالمصالح الحيوية" الفرنسية"؟ وهل سيكون الرئيس الفرنسي مستعداً للمخاطرة بتدمير باريس لحماية ليتوانيا مثلاً؟ هذه الأسئلة تبقى بلا إجابة واضحة؛ ما يُضعف مصداقية الردع المشترك، ويزرع الشك في أوساط الشركاء الأوروبيين حول جدية التزام فرنسا بالرد إذا تعلق الأمر بأراضيهم لا بأراضيها.

3– احتياج الردع النووي إلى إطار مؤسسي مستقر وطويل الأمد:

لا يبنى الردع النووي على الرؤوس والصواريخ فقط، بل على عقيدة مستقرة، وإجماع سياسي، وبنية مؤسساتية تُؤطر قرار الردع الجماعي. في حالة الولايات المتحدة، فإن "الردع الموسَّع" قائم منذ عقود، ويستند إلى مؤسسات دائمة مثل مجموعة التخطيط النووي في الناتو، والأنظمة المترابطة للاتصالات والقيادة والتحكم. في المقابل، لا تمتلك فرنسا حالياً هذا الإطار المؤسسي؛ إذ تبقى قراراتها النووية محصورة في قنوات سيادية مغلقة. ويتطلب إنشاء آلية ردع أوروبية مشتركة حول الترسانة الفرنسية إعادة صياغة شاملة للعقيدة، واستحداث آليات للتشاور والتنسيق والرقابة المتبادلة. وهذا جهد ضخم، لا يمكن تحقيقه قبل عام 2035 حسب بعض وجهات النظر. 

4– تردد بعض الدول الأوروبية في المشاركة في مشروع المظلة النووية: 

حتى لو افترضنا وجود إرادة سياسية أوروبية لتحقيق ذلك، فإن بعض الدول الأوروبية ليست مؤهلة تقنياً أو سياسياً للدخول في منظومة ردع تشاركي فرنسي؛ فمثلاً، الصواريخ النووية الفرنسية ASMPA لا يمكن تركيبها إلا على مقاتلات "رافال". أما معظم القوات الجوية الأوروبية فتعتمد مقاتلات مختلفة، مثل "F–18" أو "F–35 الأمريكية، كما أن تحويل هذه الطائرات إلى حوامل نووية يتطلب عمليات تحديث وتدريب وتأهيل معقدة ومكلفة. أضف إلى ذلك أن جزءاً من الدول الأوروبية يعارض من حيث المبدأ أي انخراط نووي، ويُفضل البقاء تحت حماية الناتو بصيغته التقليدية.

5– الفجوة في العقيدة النووية بين فرنسا وروسيا: 

كما أن الفجوة في العقيدة النووية بين فرنسا وروسيا تعقِّد من قدرة الأوروبيين على إرسال إشارات ردعية فعَّالة، خاصةً أن فرنسا تلتزم بعقيدة "الضربة التحذيرية الأخيرة"، بينما تُلمِّح روسيا إلى إمكانية استخدام السلاح النووي بشكل مبكر في مسار التصعيد. هذا التفاوت يجعل من المظلة الفرنسية في شكلها الحالي أداة غير كافية للردع المتكافئ مع الخصم الروسي؛ ففرنسا تُقدِّم سلاحها النووي وسيلةً لحماية "المصالح الحيوية" في حال العدوان الواسع، في حين تعتمد موسكو، كما تظهر في الحرب الأوكرانية، على مفهوم الردع التصعيدي، وهو استخدام مبكر ومحدود للسلاح النووي؛ من أجل فرض التراجع على الخصم. وبهذا تُصبح المظلة الفرنسية ردعاً نظرياً في مواجهة سلاح روسي يُستخدم كأداة سياسية تكتيكية. هذه الفجوة في العقيدة تُعيق التناظر في الردع وتضعف القدرة الفرنسية على فرض قواعد الاشتباك النفسية والعسكرية ذاتها التي تعتمدها موسكو.

 

ختاماً، رغم أن الترسانة النووية الفرنسية تظل محدودة مقارنة بنظيرتها الأمريكية أو الروسية، فإنها لا تُختزل في عدد الرؤوس فقط، بل في العقيدة والاستعداد للتكيُّف. ولقد أظهرت باريس أنها قادرة على إرسال إشارات إستراتيجية واضحة، وأنها منفتحة على مقاربات أوروبية جديدة للردع. ومع تزايد مؤشرات الانكفاء الأمريكي، تكتسب المبادرة الفرنسية أهميةً مضاعفةً؛ ليس فقط كأداة لحماية الحلفاء، بل أيضاً كحاجز أمام نزعات الانتشار النووي داخل القارة الأوروبية، لكن هذا الطموح الفرنسي يصطدم بتحديات سياسية، وقيود عقائدية، وأسئلة استراتيجية لم تُحسَم بعد. من هنا، يبدو أن استباق الفراغ الأمريكي لا يقتضي تطوير القدرات فقط، بل بناء توافق أوروبي حقيقي حول معنى الردع الأوروبي نفسه.





 

المراجع :

نوار الصمد،2.4.2025، هل يمكن أن تصبح المظلة النووية الفرنسية بديلاً عن الردع الأمريكي في أوروبا؟،انترريجونال.

Gregory loryK،8.3.2025، هل يمكن أن تصبح المظلة النووية الفرنسية بديلاً عن الردع الأمريكي في أوروبا؟،يور نيوز.

المقالات الأخيرة