منذ مطلع عام 2025، يعيش قطاع غزة إحدى أسوأ مراحله الإنسانية، حيث تتعرض لحرب إسرائيلية مستمرة منذ أكثر من ستة أشهر، وسط حصار خانق ودمار شامل للبنية التحتية، ما تسبب في انهيار تام للقطاعات الصحية والغذائي لم تَعُد الأزمات في القطاع تُقاس فقط بعدد الضحايا أو كمية الدمار، بل بمستويات الجوع والمجاعة الفعلية التي تهدد حياة أكثر من مليوني إنسان في هذا السياق، تبرز ضرورة البحث في مسألة الانهيار الإنساني في غزة بوصفه قضية لا تنفصل عن الأبعاد السياسية والعسكرية والإنسانية للصراع القائم.
تُسلّط هذه الدراسة الضوء على العلاقة بين استمرار القصف الإسرائيلي وفرض المجاعة كسلاح ضد المدنيين، محاولةً تقديم تحليل علمي للواقع القائم، وقراءة سيناريوهات المرحلة المقبلة في ضوء المعطيات الحالية.
الحرب المستمرة في غزة
بدأت الحرب في 7 أكتوبر 2023، عندما أطلقت حركة حماس عملية مفاجئة على المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية لقطاع غزة، في ما سُمِّي بـ”طوفان الأقصى”. أسفرت العملية عن مقتل وأسر مئات الإسرائيليين، وأثارت صدمة أمنية غير مسبوقة داخل إسرائيل، الأمر الذي دفع الحكومة إلى إعلان حالة الحرب، وبدء رد عسكري واسع النطاق.
اتّسم الرد الإسرائيلي بشدة غير معهودة، حيث شمل قصفًا مكثفًا بالطائرات والمدفعية استهدف المنازل السكنية، والبنية التحتية، والمستشفيات، والمدارس، والمخيمات وبحلول نوفمبر 2023، بدأت الاجتياحات البرية التي تمركزت أولًا في شمال القطاع، وامتدت تدريجيًا نحو الوسط والجنوب، مدفوعة بهدف معلن من الحكومة الإسرائيلية يتمثل في “القضاء التام على حماس”، وهو ما فتح الباب أمام حرب مفتوحة بلا سقف زمني واضح.
مع مطلع عام 2025، تجاوزت الحرب 18 شهرًا، لتتحول إلى صراع استنزاف طويل الأمد، لم يسفر عن حسم عسكري نهائي لأي من الطرفين، بل تسبب في كارثة إنسانية وجيوسياسية معقّدة وقد ترافق ذلك مع:
تهجير قسري واسع النطاق لأكثر من 1.7 مليون فلسطيني من سكان القطاع، معظمهم من شمال غزة، إلى مناطق الجنوب مثل رفح، التي شهدت بدورها موجات قصف ودمار لاحقًا.
تدمير شبه كامل للبنية التحتية، بما في ذلك شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، فضلًا عن توقف عمل غالبية المستشفيات، ونفاد الأدوية والمستلزمات الطبية.
تقييد المعابر والمعونات، مما جعل القطاع يعيش حالة حصار مزدوج: عسكري واقتصادي، وسط تجاهل دولي ملحوظ لفداحة الكارثة.
وقد أسهمت طبيعة الحرب المفتوحة، والانخراط الإسرائيلي العميق فيها، إلى جانب الدعم الغربي غير المشروط، في تعقيد آفاق التسوية، وتحويل غزة إلى ساحة اختبار دامية لصراعات القوى الإقليمية والدولية.
الانهيار الإنساني والمجاعة في غزة
تشير التقارير الصادرة عن منظمات دولية إلى أن قطاع غزة يشهد مستويات غير مسبوقة من الانهيار الإنساني، نتيجة للحرب المستمرة منذ أواخر عام 2024، والتي خلفت دمارًا واسعًا في البنية التحتية وشبكات توزيع الغذاء والمياه. ومع دخول الحرب شهرها السابع، باتت مؤشرات المجاعة واضحة في أكثر من 70% من مناطق القطاع، وخصوصًا في شمال غزة والمناطق الشرقية من خان يونس.
أعلنت منظمة الأغذية العالمية (WFP) في تقريرها الصادر في أبريل 2025 أن غزة “تعيش واحدة من أسوأ الأزمات الغذائية في العالم خلال العقد الأخير”، إذ تُسجل معدلات انعدام الأمن الغذائي الحاد (IPC 5) وهو المستوى الذي يُصنف رسميًا كمجاعة، في عدة مناطق. بينما تُقدّر منظمة الصحة العالمية (WHO) أن أكثر من 500 ألف طفل يعانون من سوء تغذية حاد ومزمن، ويفتقرون إلى الرعاية الطبية الأساسية بسبب انهيار المنظومة الصحية.
كما تؤكد “اليونيسف” أن ما لا يقل عن 40% من الأطفال في غزة يعانون من الأمراض، ما يهدد نموهم الجسدي والعقلي. ومع توقف توزيع المساعدات الإنسانية في أغلب مناطق القطاع نتيجة للهجمات الإسرائيلية المتكررة على قوافل الإغاثة، فإن فرص النجاة للسكان المدنيين باتت محدودة.
في السياق ذاته، بيّنت تقارير “أطباء بلا حدود” أن المستشفيات المتبقية تعمل بأقل من 20% من طاقتها التشغيلية، وتفتقر إلى المياه والكهرباء والأدوية الأساسية، في ظل حصار خانق يمنع إدخال أي تجهيزات طبية أو وقود.
يترافق ذلك مع دمار أكثر من 60% من شبكات المياه والصرف الصحي، ما فاقم من انتشار الأوبئة بين السكان المحاصرين، خصوصًا في المخيمات المكتظة، مما يُعَد مؤشرًا إضافيًا على الانهيار الكامل للمنظومة المدنية في القطاع.
فيُعد استخدام التجويع كأداة حرب انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، وقد نصّ البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على تجريم “تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب القتال”. كما تُجرّم المادة 8 (2) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (نظام روما) استخدام التجويع ضد المدنيين بوصفه جريمة حرب.
في حالة غزة، تُظهر الوقائع الميدانية أن استهداف منظّم للبنية التحتية المدنية (كمخازن الأغذية، المخابز محطات المياه، وشبكات الكهرباء) ترافق مع منع دخول المساعدات الإنسانية عبر المعابر، وهو ما يُعدّ تنفيذًا ممنهجًا لسياسة “التجويع كسلاح” من قِبل القوات الإسرائيلية، بحسب ما ورد في تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش.
كما أن استهداف قوافل الإغاثة الدولية، ومنع وصول المساعدات الغذائية إلى الشمال على وجه الخصوص، يتنافى مع القواعد العرفية للقانون الدولي، التي توجب على أطراف النزاع ضمان وصول المساعدات للمدنيين دون عرقلة.
ولم تقتصر الانتهاكات على التجويع فقط، بل إن استمرار القصف العشوائي لمناطق مدنية مكتظة، بما فيها مدارس وملاجئ تديرها الأمم المتحدة، يمثل خرقًا واضحًا لمبدأ التمييز والتناسب في النزاعات المسلحة، الذي يُلزم الأطراف بتجنب الإضرار بالمدنيين.
جدير بالذكر أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة دعا في أبريل 2025 إلى فتح تحقيق دولي مستقل في جرائم الحرب المحتملة في غزة، مع التركيز على استخدام التجويع كسلاح، وتوثيق الانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين، إلا أن هذه الدعوات لم تُقابل بأي استجابة سياسية فعالة من الدول الكبرى.
المواقف الدولية والعربية تجاه غزة
رغم حجم الكارثة الإنسانية غير المسبوقة التي يشهدها قطاع غزة، فإن ردود الفعل الدولية ظلت إلى حد بعيد “خطابية” و”غير ملزمة”، ما يعكس حالة من التواطؤ أو التقاعس البنيوي داخل المنظومة الدولية، خصوصًا في ظل استخدام الولايات المتحدة لحق النقض (الفيتو) أكثر من مرة لمنع صدور قرارات دولية ملزمة لوقف إطلاق النار أو إدخال المساعدات الإنسانية بشكل آمن ومنتظم.
أبرزت تقارير مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة وجود “مؤشرات مقلقة” على ارتكاب جرائم حرب في غزة، إلا أن آلية المحاسبة الدولية ما تزال معطلة فعليًا. وقد اكتفى مجلس الأمن في جلسته الطارئة في مايو 2025 بإصدار بيان رئاسي غير ملزم يدعو إلى تهدئة إنسانية، دون الإشارة إلى محاسبة أو إجراءات ردع.
أما على الصعيد الأوروبي، فقد أظهرت بعض الدول مواقف أكثر تقدمًا، لا سيما إيرلندا، إسبانيا، وبلجيكا التي دعت إلى فرض عقوبات على إسرائيل لخرقها المتكرر للقانون الدولي. في المقابل، ظلت المواقف الرسمية للاتحاد الأوروبي ككل متحفظة، بسبب الانقسامات الداخلية وميل بعض الحكومات إلى دعم الرواية الإسرائيلية بشأن “حق الدفاع عن النفس”.
فيما يخص المواقف العربية، فقد تفاوتت بين الإدانات اللفظية والدعوات لوقف إطلاق النار، وبين مبادرات إنسانية محدودة النطاق. وقد جاءت أبرز التحركات من مصر وقطر، حيث لعبتا دورًا محوريًا في التفاوض لإدخال المساعدات عبر معبر رفح، رغم تعرضه للقصف في أكثر من مناسبة. كما سعت الأردن والإمارات لإرسال مستشفيات ميدانية متنقلة، لكن التحديات الأمنية والرفض الإسرائيلي حال دون استمرار هذه المبادرات بفعالية.
في المقابل، وُجهت انتقادات حادة إلى النظام العربي الرسمي في عدم اتخاذ مواقف سياسية أو قانونية حاسمة، سواء عبر الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي، حيث لم تُفعّل أي من آليات الضغط أو المقاطعة أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية كما حدث في قضايا مشابهة في مناطق أخرى من العالم.
لم تكن الحرب المستمرة على غزة مجرد حدث عسكري أو إنساني، بل حملت أبعادًا سياسية عميقة انعكست على الداخل الفلسطيني والمحيط الإقليمي والدولي.
فعلى الصعيد الفلسطيني، أدت الحرب إلى مزيد من تفاقم الانقسام بين الفصائل، لا سيما بين حركتي فتح وحماس، وسط تراجع فرص تحقيق وحدة وطنية. تزايدت أيضًا حدة الخطاب المتشدد في الشارع الفلسطيني مما أعطى دفعة أكبر للتيارات الرافضة للحلول السلمية، في ظل شعور عام بأن المجتمع الدولي خذل الفلسطينيين.
إقليميًا، أثارت الحرب توترًا في العلاقات بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، خاصة تلك التي كانت قد وقعت اتفاقيات تطبيع في السنوات الأخيرة. بعض الدول وجدت نفسها تحت ضغط شعبي وسياسي كبير دفعها إلى مراجعة سياساتها، وإن لم يصل ذلك إلى قطع العلاقات.
أما على المستوى الدولي، فقد أعادت الحرب طرح القضية الفلسطينية إلى الواجهة بعد سنوات من التهميش. إلا أن هذه العودة لم تترافق مع إرادة سياسية حقيقية لإنهاء الاحتلال أو محاسبة إسرائيل، بل ظلت في إطار الإدانات الخطابية والمواقف الرمزية.
رغم التحذيرات المتكررة من قبل الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية من كارثة إنسانية في غزة، فإن حجم المساعدات الفعلية لم يلبِّ الحد الأدنى من الاحتياجات.
تعاني قوافل الإغاثة من قيود شديدة على الدخول عبر معبري رفح وكرم أبو سالم، كما تتعرض أحيانًا للتفتيش أو المنع من قبل القوات الإسرائيلية، مما يعيق وصولها إلى المناطق الأكثر تضررًا. من جهة أخرى، تواجه منظمات مثل أونروا والصليب الأحمر نقصًا حادًا في التمويل، بعد أن خفضت عدة دول مساهماتها لأسباب سياسية أو مالية.
وقد أدت هذه المعوقات إلى تدهور فعالية المساعدات، مع انتشار السوق السوداء للمواد الأساسية، مما حرم الفئات الأشد فقرًا من الوصول إليها.
السيناريوهات المحتملة بعد الحرب على غزة
مع استمرار الحرب وغياب أفق لحل سياسي شامل، تتجه التقديرات الاستراتيجية إلى عدة سيناريوهات محتملة لما بعد الحرب، تتداخل فيها العوامل المحلية والإقليمية والدولية، ويطغى عليها الهاجس الإنساني والسيادي في ظل انهيار قطاع غزة. استنادًا إلى مسار الحرب في 2025، يمكن تصور أربعة سيناريوهات رئيسية:-
- استمرار الحرب والمجاعة: وهو السيناريو المرجّح حاليًا، مع غياب ضغوط دولية فعالة على إسرائيل.
- إعادة الاحتلال الإسرائيلي الكامل للقطاع: تُشير تحليلات مراكز أبحاث إسرائيلية كـ”معهد دراسات الأمن القومي INSS” إلى خيار إعادة الانتشار الإسرائيلي الدائم داخل غزة.
- هدنة مؤقتة بضغط دولي: تشمل إدخال مساعدات مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار، مع بقاء الوضع الإنساني هشًا.
- تسوية سياسية برعاية إقليمية: تتطلب دورًا محوريًا من مصر وقطر وتركيا، لكنها تظل بعيدة المدى في ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي..
في النهاية، تكشف هذه الدراسة حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة في ظل حرب مستمرة اتخذت من المدنيين هدفًا مباشرًا عبر التجويع والقصف، ما أدى إلى انهيار شبه كامل لكل مقومات الحياة لقد أصبحت المجاعة أداة ممنهجة في الحرب، وسط صمت دولي مُريب وتقاعس عربي واضح، ما يطرح تساؤلات أخلاقية وسياسية حول مستقبل النظام الدولي، وقدرته على حماية المدنيين وقت النزاعات.
ورغم تعدد السيناريوهات لما بعد الحرب، فإن أغلبها لا يقدم حلولًا حقيقية تُنهي الأزمة الإنسانية أو تضمن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، بل يعيد إنتاج الأزمة بشكل مختلف أما توصيات الدراسة، فهي:
- الدعوة لتحقيق دولي عاجل حول استخدام التجويع كسلاح حرب في غزة، ومساءلة المسؤولين الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية.
- الضغط من قبل الدول العربية والمنظمات الإقليمية لتوفير ممرات إنسانية دائمة وآمنة لإدخال الغذاء والدواء دون عوائق.
- تفعيل أدوات القانون الدولي عبر الأمم المتحدة والجامعة العربية لوقف إطلاق النار الإجباري، وإعادة الإعمار بضمانات قانونية وسياسية.
- الدعوة لحوار وطني شامل بقيادة فلسطينية مستقلة يضمن وحدة الأرض والقرار.
- تسليط الضوء إعلاميًا وأكاديميًا على الأبعاد الإنسانية للحرب، بعيدًا عن الخطابات السياسية التقليدية، من خلال دعم الأبحاث الميدانية والتوثيقية.
المصدر: مركز رع للدراسات الاستراتيجية
الكاتب : د. نورا يسري السيد الحلو
التاريخ : 20/5/2025
-----------------------------------------------
المصدر: صحيفة الخليج
التاريخ : 25/5/2025