في تغريدة على منصة "تروث سوشيال" زفَّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خبراً عقب الضربة الإيرانية لقاعدة "العديد" في قطر مساء 23 يونيو 2025، في صيغة أقرب إلى إعلان قرار رئاسي ليس فقط لرئيس الولايات المتحدة ولكن لمن يعتبر نفسه صاحب الحق في إصدار القرارات الملزمة للعالم ومن ضمنه الشرق الأوسط، حيث قال ترامب في تغريدته: "مبارك أيها العالم! إنه وقت السلام".
وسط أجواء ملتهبة في الإقليم كله، وصافرات إنذار تدوي على الأقل في أربع دول عربية، هي قطر والبحرين والكويت والعراق، وغلق للأجواء في هذه الدول الأربعة، فضلاً عن الإمارات، وتحديد حركة الطيران فوق المملكة العربية السعودية، كل ذلك عقب الرشقة الصاروخية الإيرانية على قاعدة "العديد" الأمريكية في قطر كرد على الضربة الأمريكية الموجعة لثلاث منشآت نووية إيرانية، وسط هذه الأجواء يخرج علينا ترامب بهذه التدوينة ليعلن أن مرحلة الحرب والصراعات المسلحة والرشقات الصاروخية وتهديد الأمن ومصالح دول الخليج والملاحة والتجارة وأسواق النفط قد انتهت والآن حان وقت "السلام".
ترامب قدم نفسه منذ البداية على أنه "رجل السلام"!، الرئيس الذي سيوقف كل السياسات – التي يصفها بالغبية- للإدارات الأمريكية السابقة سواء الديمقراطية أو الجمهورية، كافة السياسات التي جعلت الولايات المتحدة تنخرط في حروب خارج حدودها وإرسال قوات برية كلّفت الولايات المتحدة خسائر مادية وخسائر في الأرواح. في كثير من مناسبات حملته الانتخابية، أكد ترامب على تعهداته بإحلال السلام في العالم وإيقاف الحروب بل والأهم الوعد بعدم انخراط واشنطن في أي حرب قد تنشب في المستقبل.
كانت تصريحات ترامب عن "السلام" واضحة خلال حملته الانتخابية، لكنه لم يذكر شيئاً عن طريقه لإتمام هذا السلام، كما لم يذكر شكل هذا السلام أو مدى ملائمته لقيم العدالة والقانون الإنساني والدولي!.
هنا، يطرح السؤال التالي نفسه: أي سلام يبشر به ترامب العالم؟، وما هي مفردات هذا السلام العالمي الذي يدعو له ترامب؟، وما هي تكلفته، أو المسكوت عنه لتحقيق هذا السلام؟
ترامب وتبشيره بالسلام وإيقاف الحرب العالمية الثالثة
في المناظرة الرئاسية لشبكة CNN في يونيو 2024، انتقد ترامب الرئيس السابق جو بايدن بسبب سماحه بحدوث الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب بين إسرائيل وحماس في عهده. وقال ترامب تحديداً: "(بايدن) سيدفعنا إلى الحرب العالمية الثالثة، ونحن أقرب إلى الحرب العالمية الثالثة مما يتصوره أحد".
وفي مؤتمر لترامب في أغسطس 2024، قال إن الديمقراطيين والمستقلين سيصوتون لصالحه جزئياً لأنه سينهي الحروب. كما وعد خلال المؤتمر ببناء جيش أقوى بكثير، قادر على منع اندلاع الحروب وقال: "سيعود السلام من خلال القوة".
الوعد بالسلام امتد بدوره إلى خطاب تنصيب ترامب، حيث قال: "إن إرثي الذي سأفتخر به سيكون إرث صانع السلام والموحد"، وأضاف: "سوف نقيس نجاحنا ليس فقط بالمعارك التي نفوز بها، ولكن أيضاً بالحروب التي ننهيها، وربما الأهم من ذلك، الحروب التي لا نشارك فيها أبداً". وقال ترامب في تجمع انتخابي في غرينزبورو في أكتوبر 2024: "إيران لا يمكنها امتلاك سلاح نووي ....أريد السلام في الشرق الأوسط... أريد السلام... لقد أبرمت اتفاقيات إبراهام... أريد السلام في الشرق الأوسط".
شروط السلام الترامبي للشرق الأوسط
تتمثل شروط السلام في الشرق الأوسط التي يتبناها الرئيس ترامب في:
1- تغيير خريطة موازين القوى في المنطقة: لا تتضمن خطة ترامب للسلام في الشرق الوسط إسقاط النظام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكنها تشمل ضمان عدم امتلاك طهران لسلاح نووي بأي صورة ممكنة، إلى جانب إضعاف كامل للفاعلين المسلحين المتحالفين مع إيران وفي مقدمتهم حزب الله اللبناني، وهو ما تم بالفعل، فضلاً عن الفاعلين المسلحين في العراق، وربما فك الارتباط بين طهران والحوثي وليس القضاء على الأخير لصعوبة ذلك بالنسبة للحالة اليمنية. باختصار الدفع في اتجاه تراجع النظام الإيراني داخل حدوده بدرجة لم يكن عليها من قبل.
ومع الخسائر العسكرية والتنظيمية لحزب الله، إلى جانب خسائر حماس أيضاً للسلاح والأنفاق وعدد كبير من قياداتها، فضلاً عن الضربات المتلاحقة لما بقى من القدرات العسكرية للجيش السوري عقب سقوط نظام الأسد، تصبح المعادلة في الإقليم – حتى اللحظة الراهنة - هي خسائر كبيرة للفاعلين من الدول والفاعلين المتوازيين للدول "التي كانت تمثل خطراً محتملاً" على إسرائيل وهو ما يعني إعادة ترتيب أوزان القوة في الإقليم لصالح إسرائيل، في ظل تراجع إيران، وتحول النظام في سوريا، والتفكك والصراعات التي لحقت بالكثير من الدول العربية في المنطقة.
باختصار، خطة ترامب للسلام تقوم على أساس امتلاك أحادي للسلاح النووي من قبل إسرائيل، دون السماح نهائياً بامتلاكه من أي دولة أخرى في المنطقة بصورة نهائية لا تقبل الجدال أو التحايل، مع احتفاظ إسرائيل بقدرات عسكرية أعلى من دول جوارها بالقدر الكافي الذي يحقق تفوقها وحمايتها، ومن ثم نزع فتيل أي محاولة جديدة للصراع المسلح في المنطقة بسبب وجود إسرائيل أو ممارساتها.
2- تحييد دور روسيا والصين: بدا واضحاً، منذ تطور الصراع المسلح بين تل أبيب وطهران خلال الأيام القليلة الماضية، وصولاً إلى الضربة الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية، أن روسيا والصين لن تشترك في هذا الصراع، بل والأهم لن تنازع ترامب في خطته وتصوره لفرض السلام في المنطقة بأي درجة.
إن إعادة ترتيب أوزان القوة وإعادة كتابة قواعد اللعبة في الإقليم لا يمثل أي درجة من الأهمية بالنسبة للمصالح الصينية. فالمصالح الصينية تستفيد من تحقيق السلام في المنطقة وفتح الممرات البحرية وسهولة حركة النفط وحركة التجارة، ووصولها السلس إلى استثمارتها الكبرى في قارة إفريقيا، أما مدى عدالة خطة ترامب للسلام، أو تعزيز قوة إسرائيل على حساب بقية دول المنطقة فمسألة لا تمثل أي مساس بالمصالح الصينية.
على الجانب الآخر، تتركز المصالح الروسية في أوكرانيا وحدودها مع دول حلف الناتو بصورة أساسية، أما الخسائر العسكرية التي قد تمس حلفائها في المنطقة، فمسألة تأتي في مرتبة متأخرة جداً الآن بالنسبة لموسكو، ويبدو أن هناك قبولاً لأن يكون ترامب هو "مايسترو" خطة السلام في الإقليم.
3- التغيير الديمغرافي في غزة والضفة: بينما تعتمد خطة ترامب على إضعاف بعض الفاعلين من الدول وغير الدول عسكرياً وتنظيمياً، أو حتى عبر إسقاط الأنظمة الحاكمة أو الدخول في مرحلة الفوضى، تتركز خطة ترامب في مواجهة ما يسمى بـ"الخطر الفلسطيني" على الأمن الإسرائيلي من خلال التخلص من المكون البشري نفسه لكونه هو السلاح الأهم. فالفلسطينيون يمثلون خطورة على بقاء دولة إسرائيل، بسبب الخلل الديموجرافي بين المكون اليهودي والمكون العربي واستمرار هذا الخلل نتيجة لتراجع معدلات الإنجاب داخل إسرائيل وتصاعدها على الجانب الفلسطيني. إلى جانب ذلك أصالة فكرة المقاومة بين الفلسطينيين ورغبتهم في إقامة الدولة وانتقال روح المقاومة من جيل لآخر. ومن ثم لن تكتمل خريطة السلام الترامبية إلا بتقليص عدد الفلسطينيين داخل غزة والضفة. وهذا التقليص لن يتم فقط باستمرار آلة القتل العشوائي للمدنيين في غزة، بل يكتمل بمخطط التهجير الذي يطلق عليه ترامب تارة القسري وتارة الطوعي.
4- الحل الثقافي والقيمي لقبول إسرائيل: تعتمد خطة ترامب للإقليم على فكرة "السلام الإبراهيمي"، فقد ظل السلام بين إسرائيل ومحيطها العربي، وفقاً لرؤية واشنطن، هشاً قابلاً للتزعزع. ومن وجهة النظر الأمريكية، فإن هذه الهشاشة لا تعود إلى السياسات الإسرائيلية الاستيطانية ولا إلى عدم مصداقيتها في تنفيذ حل الدولتين، ولا حتى نمو التيار اليميني المتشدد في إسرائيل، بل إلى فشل التطبيع بين إسرائيل وجيرانها العرب، حتى مع الدول الموقعة على اتفاقية سلام مع تل أبيب.
من هنا، تكمن فكرة السلام الإبراهيمي، فهي عصب خريطة ترامب للسلام في المنطقة، لأنه سلام يقوم على أساس تغيير في المنظومة القيمية التي تحكم العلاقة بين الشعوب العربية وإسرائيل من الأساس، بحيث تكون هناك منظومة قيمية تقبل التعايش السلمي ليس فقط بين الأديان السماوية الثلاث، بل مع إسرائيل كما هي، وتجاوز كل الذاكرة التاريخية الرافضة لها ولممارساتها العنصرية والاستيطانية بل والوحشية لبناء دولتها منذ النكبة والحفاظ على بقاءها حتى الآن، وأيضاً قبولاً لا يشوبه تشكك في نوايا إسرائيل تجاه دول المنطقة.
المسكوت عنه في سبيل تحقيق السلام الترامبي
يمكن اعتبار هذا النهج "الترامبي" تحولاً مهماً في السياسة الخارجية للحزب الجمهوري، حيث يبتعد ترامب عن المدرسة الفكرية المحافظة الجديدة التي قادت الولايات المتحدة إلى الحرب في العراق وأفغانستان، تحت مظلة دور الولايات المتحدة في تعزيز الديمقراطية أو محاربة دول "محور الشر" وفقاً لوصف الرئيس الجمهوري الأسبق جورج دبليو بوش. يتبنى ترامب اقتراباً مختلفاً لتحقيق المصالح الاقتصادية وإضعاف الأنظمة المعادية لمصالح الولايات المتحدة دون الدخول في حروب مكلفة لواشنطن، وهو تحقيق "السلام" وفقاً لشروطه. والسلام الوحيد الذي يراه ترامب ليس فقط منع الحرب أو إيقافها بل أيضاً التأكد من أن الحرب توقفت بعد إعادة ضبط قواعد وأوراق القوة بما يتناسب مع تحقيق المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة، وهو ما يعني باختصار "تحقيق الرخاء من خلال السلام"، ولكن بعد "تحقيق السلام من خلال القوة".
لكن تظل هناك الكثير من البجعات السوداء تهدد هذا الحلم الترامبي بأن يكون عرّاب السلام العالمي، ومنها:
1- ظهور أنماط جديدة للعنف سيكون من الصعب مواجهتها لأنها لن تشبه الكيانات التنظيمية التي اعتاد العالم عليها خلال العقود الثلاثة الماضية. عنف سينشأ بسبب شعور كبير يتشكل الآن بعدم عدالة المنظومة الدولية، فضلاً عن تغير الصورة الذهنية لدولة إسرائيل في العقل الغربي والعالمي من مكانة الضحية إلى الجاني.
2- على الرغم من أن الخسائر في الأرواح والدمار الذي قد يطال البشر والمجتمعات مسألة لا تؤثر كثيراً في حسابات الدول، إلا أن حجم التداعيات الإنسانية الخطيرة في منطقة الشرق الأوسط جراء هذا الدمار وهذه الحروب ينذر بمخاطر صحية قد تتجاوز حدود ظهورها، فضلاً عن موجات من النزوح واللجوء، خاصة في ظل التراجع في عمل المنظمات الإنسانية الدولية، على نحو سيؤثر بالضرورة على أمن الدول الأوروبية الأقرب جغرافياً للإقليم.
3- العصب الرئيسي لخطة ترامب للسلام في المنطقة، وهو تحقق السلام عبر القبول الشعبي والمجتمعي لإسرائيل في المنطقة بناءً على منهجية السلام الابراهيمي، أمر يجانبه الصواب وبما أنه يقوم بالأساس على المكون الثقافي والقيمي والقبول المجتمعي فبدايةً لا يصح حسابه وفقاً لعدد الدول التي تقبله والدول التي ترفضه، ولكن بحجم وقوة الشعوب التي تقبله والتي ترفضه.
4- عدم رجاحة الرهان الأمريكي على أن إسرائيل ستكون هي الفاعل الإقليمي الأقوى في الإقليم وذلك لأنه حتى مع خسائر إيران وحلفائها وخسائر حماس، لا يمكن إغفال كم الضرر الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي من الداخل وكم الأذى الذي طال "سمعة" إسرائيل التي تحولت إلى دولة منبوذة في العالم.
كل ذلك إلى جانب أن التعويل على أن السلام الإبراهيمي سيحقق التطبيع والقبول لإسرائيل في إقليمها، هو "البجعة البيضاء التي لا يمكن تجاهلها في اللحظة الراهنة وليس في المستقبل، على نحو يجعل من السيناريو الترامبي للسلام في الشرق الأوسط أمراً يحتاج إلى مراجعة وتدقيق كبير.
المصدر : مركز الأهرام للدرسات السياسية والاستراتيجية
الكاتب : أمل مختار
التاريخ : 24/6/2025
---------------------------------------------------------------------------------------
المصدر : موقع فيتو
الكاتب : محمد طاهر أبو الجود
التاريخ : 26/6/2025
---------------------------------------------------------------------------------------
المصدر : مجلة السياسة الدولية
الكاتب : نهال ناصر
التاريخ : 3/6/2025