المسارات المحتملة للمفاوضات النووية الأمريكية الإيرانية بعد الحرب
فرع القاهرة

بينما كانت إيران تستعد لانطلاق الجولة السادسة من المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة يوم 15 يونيو 2025، قامت إسرائيل بشن هجمات عسكرية مُفاجئة ضدها قبل ذلك بيومين اثنين، لتستهدف أصولها العسكرية والدفاعية ومواقع نووية تابعة لها. فخلال 12 يومًا –هي عمر الحرب الإيرانية الإسرائيلية المباشرة – قامت إسرائيل بإضعاف القدرات الصاروخية والدفاعية والنووية لطهران، وذلك بالتعاون مع الولايات المتحدة التي دخلت على خط المواجهة بشكل واضح يوم 22 يونيو الماضي عبر مهاجمة 3 مواقع نووية بعينها تُعد درة البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية وهي منشآت “فوردو – نطنز – مجمع أصفهان”.

وقد ردت إيران على هذه الضربات بمهاجمة مراكز حساسة في الداخل الإسرائيلي، إلا أن طهران لم تستهدف مواقع نووية إسرائيلية سوى مركز “وايزمان” للأبحاث العسكرية النووية، وهو موقع بحثي وليس مفاعلًا يعمل على تخصيب اليورانيوم أو إنتاج “الكعكة الصفراء”. وانتهت الحرب عسكريًا يوم 24 يونيو 2025 إلا أن آثارها وتبعاتها السياسية لا تزال قائمة، خاصة ما يتعلق بالمفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة ودور الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في هذا الشأن.

آثار الحرب على مسار المفاوضات 

على الرغم من إعلان إيران خلال أيام الحرب عن استعدادها للعودة إلى طاولة المفاوضات النووية شريطة إيقاف الهجمات الإسرائيلية، فإن الموقف الإيراني تغير بشكل واضح عقب انتهاء المعارك الجوية. فقد برز موقف طهران بشأن هذه المفاوضات النووية معقدًا إلى حد كبير بعد الحرب؛ حيث عبّرت إيران في مواقف كثيرة عن صعوبة العودة لطاولة المفاوضات، وأكدت في الوقت نفسه مواصلتها عمليات تخصيب اليورانيوم بل وقام البرلمان والرئيسُ مسعود بزشكيان بالموافقة على تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في خطوة أثارت – ولا تزال – الكثير من القلق في الدوائر الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني بعد الحرب الأخيرة وتزايد حالة الغموض حوله بعد يوم 24 يونيو الماضي.

وعلاوة على ذلك، تهدد إيران في الوقت الراهن بالخروج من اتفاقية حظر الانتشار النووي “NPT”؛ مما يعني ضمنًا في هذه الحالة تحولًا جوهريًا غير مسبوق في تاريخ البرنامج النووي الإيراني الممتد لعقود وهو ما سوف يُقرأ حتمًا على أنه إعلان إيراني بالسعي رسميًا لامتلاك السلاح النووي.

ومع ذلك،لايمكن القول إن إيران تترك الباب مواربًا لعودة هذه المفاوضات واستئنافها من جديد. فعلى الرغم من أن وزير الخارجية، عباس عراقجي، قد أعلن يوم 3 يوليو 2025 عن رفض بلاده الدخول في مفاوضات جديدة “تكون نتيجتها إنهاء البرنامج النووي الإيراني بالكامل”، فإن نائبه، مجيد تخت روانجي، قد عبّر يوم الأول من يوليو الجاري عن استعداد الجمهورية الإسلامية لاستئناف المفاوضات النووية ولكن شريطة “تقديم الولايات المتحدة ضمانات بعدم توجيه أي ضربات جديدة على إيران”. وأضاف روانجي أنه “لم يتم التوصل إلى اتفاق بعد بشأن موعد استئناف المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة”، موضحًا أن بلاده “تبحث عن إجابة لهذا السؤال: عندما نشارك في الحوار، هل سوف نشهد تكرارًا للعمل العدواني؟”.

وانطلاقًا مما سبق، يمكن القول إنه وعلى الرغم من نفي بعض المسئولين في إيران اعتزام بلادهم الدخول في مفاوضات نووية قريبًا -مثل تصريحات المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، يوم 5 يوليو 2025 التي قال فيها: إن “الرأي العام غاضب لدرجة أنه لا يجرؤ أحد حاليًا حتى على التحدث عن المفاوضات النووية أو الدبلوماسية”– إلا أن طهران لا تزال ترغب في استمرار المفاوضات النووية، على الرغم من الهجمات الأمريكية الأخيرة ضدها.

وفي إطار ذلك، ومما تقدم من تصريحات المسئولين الإيرانيين في هذا الصدد، نستنتج أن طهران منفحتة على المفاوضات، ولكن شريطة تحقق أمرين اثنين هما:

ضمان عدم نص الاتفاق النووي المقبل على تصفير نسبة تخصيب اليورانيوم في إيران، أي لا يتضمن مثل هذا الاتفاق إنهاءً للبرنامج النووي الإيراني بالكامل.

تقديم واشنطن ضمانات طويلة المدى بعدم مهاجمة الولايات المتحدة أو إسرائيل لاحقًا للمنشآت النووية الإيرانية أو للأراضي الإيرانية بوجه عام.

وعليه، فإن الموقف الإيراني يبدو جادًا في استئناف المفاوضات النووية بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل إلا أن الشروط الإيرانية المتعلقة بنصوص الاتفاق النووي المحتمل نفسه -والتي كانت على طاولة المحادثات مع فريق ويتكوف قبل الحرب – لا تزال قائمة وأضيف إليها شرط آخر وهو عدم تكرار هجمات 13 يونيو 2025 مرة أخرى في المدى المنظور؛ مما سيعقد من مستقبل التعامل الأمريكي والأوروبي لهذا الملف الإيراني خلال الفترة المقبلة.

سيناريوهات ما بعد الحرب

يمكن القول إن خيار المفاوضات النووية لا يزال مطروحًا بقوة بين إيران وواشنطن من أجل معالجة أزمة البرنامج النووي الإيراني التي تم حلها لأول مرة في اتفاق عام 2015 الذي نص على السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67% فقط وعدم امتلاك مخزون كبير من اليورانيوم المخصب، إلى جانب تقليل عدد أجهزة الطرد المركزية (المتسخدمة في التخصيب) إلى حوالي 6 آلاف جهاز وعدم إجراء أي عمليات لتخصيب اليورانيوم في منشأتيّ “فوردو – آراك” على وجه التحديد، وذلك لمدة 15 عامًا، على الرغم من أن مدة الاتفاق الكلية 10 سنوات.

ومن ناحية أخرى، فإن الجدل الدائر بشأن نقل إيران لأكثر من 408 كيلوجرامات من اليورانيوم المخصب من مفاعلاتها النووية إلى أماكن غير معلومة حتى الآن، إلى جانب التقارير الأمريكية والغربية غير الرسمية بشأن عدم تأثر المفاعلات النووية والبرنامج النووي لإيران بشكل جوهري بعد الهجمات الأمريكية والإسرائيلية المشتركة الأخيرة، كل هذا سوف يخلق حالة من الضغط الكبير على الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب وعلى الحكومات الأوروبية أيضًا من أجل الإسراع في معالجة هذا الملف الإيراني، وذلك عن طريق خيارين اثنين:

التوصل لاتفاق نووي شامل: ترغب طهران والإدارة الأمريكية والأوروبيون في حل أزمة البرنامج النووي الإيراني عن طريق الخيار الدبلوماسي واستئناف المفاوضات النووية من جديد بعد عقد 5 جولات سابقة ما بين مسقط وروما قادها من الجانب الإيراني وزيرُ الخارجية عباس عراقجي، ومن الجانب الأمريكي مبعوث الإدارة الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف. ويُعزى هذا الميلُ الإيراني إلى رغبة طهران في منع تكرار سيناريو الهجمات مرة أخرى وسعي حكومتها إلى خلق حالة من الاستقرار السياسي الداخلي عن طريق تنشيط العملية الاقتصادية والإنتاجية في الداخل من أجل كبح جماح أي تحرك مناوئ للنظام في الداخل بمعاونة من المعارضة الإيرانية في الخارج.

وكذلك، فإن الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية (خاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا) لا تريد سوى حل دبلوماسي يضع نهاية لهذه الأزمة. وفي ضوء ذلك، فقد تتوصل إيران مع واشنطن (أو مع واشنطن والحكومات الأوروبية) إلى حل توافقي يضمن للغرب عدم تطوير إيران لسلاح نووي ويضمن لإيران أيضًا السماح لها بتخصيب اليورانيوم ولكن بنسبة غير مُقلقة أي حوالي 5%. فعلى الرغم من تأكيد ويتكوف على أن بلاده تريد تصفير تخصيب اليورانيوم في إيران، فإن إصرار الحكومة الإيرانية على مواصلة تخصيب اليورانيوم قد يدفع إدارة ترامب إلى القبول بتخصيب طهران لليورانيوم ولكن بنسبة لا تقود إلى إنتاج سلاح نووي في المستقبل.

ومن المتوقع أن يُغضب مثل هذا الأمر الحكومة الإسرائيلية التي يقودها اليميني بنيامين نتنياهو، إلا أن الحرب الأخيرة أثبتت أن لدى واشنطن القدرة على كبح جماح الطموحات الإسرائيلية تجاه إيران، خاصة وأن مثل هذه النسبة لن تقود إلى إنتاج سلاح نووي.

وفي هذا السياق، من المرجح أن تعزز الأطراف الغربية المتفاوضة مع إيران من قيودها على البرنامج 

وفي هذا السياق، يمكن القول إن الاتفاق النووي المقبل قد يتخذ إحدى الصيغ التالية:

اتفاق نووي ثنائي بين إيران والولايات المتحدة: وفيه، تلتزم إيران بالحد الأدنى من نسبة تخصيب اليورانيوم في الداخل -سواء كان ذلك من خلال مواصلة تخصيب اليورانيوم في الداخل الإيراني أو من خلال مشاركة واشنطن أو دول إقليمية ثالثة- وتكون مسئولة في ذلك أمام الولايات المتحدة، ويكون لهذا الاتفاق آلية عقابية دولية أيضًا من خلال الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. ويجيء هذا في إطار رغبة إدارة دونالد ترامب في عدم مشاركة الأطراف الأوروبية في الاتفاق النووي المقبل، وحملة التصريحات الإيرانية الأخيرة الغاضبة من الموقف الأوروبي تجاه الصراع الأخير مع إسرائيل.

اتفاق نووي شامل بين إيران والأوروبيين والأمريكيين:وهو سيناريو آخر مرجح قد يتضمن مشاركة الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) في الاتفاق النووي مع إيران إلى جانب الولايات المتحدة، وهو ما سوف يُكسب مثلَ هذا الاتفاق في الواقع صيغة دولية أقوى والتزامًا أعمق من جانب إيران. وعلى الرغم من ذلك، فإن اتفاقًا نوويًا ثنائيًا بين طهران وواشنطن يظل في ضوء معطيات ومجريات الأمر الواقع في الوقت الراهن هو الأكثر ترجيحًا.

مهاجمة وتدمير المنشآت النووية الإيرانية

قد تلجأ الولايات المتحدة وإسرائيل إلى العودة لمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية، ولكن بقوة أكبر مما كانت عليه ضرباتُ الـ 12 يومًا؛ ذلك لأن التقارير الواردة بشأن عدم تأثر برنامج إيران النووي من جراء الحرب الأخيرة والهجمات الأمريكية، وكذلك نقل إيران لـ 408 كيلوجرامات من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، إلى جانب استمرار إصرار إيران على مواصلة تخصيب اليورانيوم ورفضها الحلول الأمريكية الأخرى المذكورة آنفًا في هذا الصددد قد يدفع واشنطن وتل أبيب إلى العودة مرة أخرى للأجواء والأراضي الإيرانية ولكن من أجل إحداث “تدمير حقيقي” للبرنامج النووي الإيراني؛ وهو ما قد يأتي مدفوعًا بضغوط داخلية سياسية في الولايات المتحدة وإسرائيل.

كما أن صحة هذه التقارير تعني انتفاء “انتصار” نتنياهو شخصيًا في حربه مع إيران التي يعول عليها لإنقاذ مستقبله الشخصي ومستقبله السياسي، وهو ما قد يسهم في عودة هذه الضربات مرة أخرى ولكن بقوى أكبر هذه المرة.

ولكن، على الرغم من ذلك، يبدو أن إيران سوف تعمل لتجنب مثل هذا الخيار، والعودة لطاولة المفاوضات، وهو ما يتضح من تصريحات مسئوليها خلال الساعات والأيام الماضية التي أعقبت انتهاء الحرب، والتي تؤكد على عزم الجمهورية الإيرانية على استئناف المفاوضات النووية ولكن شريطة عدم إنهاء البرنامج النووي للبلاد بشكل كامل، وهو أمر قد يجد له المفاوضون الغربيون حلولًا عدة.   

كما أن المخاوف الإيرانية سوف تتجذر أكثر عند القول إن أي هجمات مستقبلية من جانب إسرائيل وواشنطن قد لا تركز فقط على الأهداف النووية، بل القضاء أيضًا على ما تبقى لدى إيران من قدرات دفاعية وصاروخية، مثلما حدث بشكل جزئي خلال المواجهة الأخيرة.

إسقاط النظام في طهران

من المحتمل أن تلجأ الأطراف الإسرائيلية والأمريكية -وربما الأوروبية – إلى سيناريو إسقاط النظام في إيران كحل نهائي للتخلص من البرنامج النووي الإيراني حال مواصلة إيران إصرارها على تخصيب اليورانيوم في الداخل بنسبة كبيرة، وهو هو أمر كان مطروحًا خلال الحرب الأخيرة مع تشجيع إسرائيلي وتحفظ أمريكي؛ حيث إن ذلك الإصرار الإيراني الشديد بعد انتهاء الحرب لن يترك أمام الإسرائيليين والأمريكيين خيارًا على الأغلب سوى التحرك من أجل هذا السيناريو، والذي يُعتقد أن الطرفين قد يسعيان لتحقيقه باستخدام آليات متعددة متزامنة تركز على تحريك الداخل الشعبي الإيراني جنبًا إلى جنب مع إحداث موجة خلخلة في القيادات الأمنية و فوضى في الشارع الإيراني. وكان هذا الأمر مطروحًا على طاولة خيارات بنيامين نتنياهو خلال الأشهر الأخيرة، سواء في أثناء هجمات شهري أبريل وأكتوبر 2024 أو الحرب الأخيرة في يونيو 2025.

وفي الوقت نفسه، يصبح من المرجح بشدة بالتالي أن تحاول إيران تجنب هذا السيناريو عن طريق الانخراط في مفاوضات نووية مع الغرب بوجه عام؛ وذلك في ظل توجيهات قادة وأركان النظام السياسي في طهران منذ روح الله الخميني وصولًا إلى المرشد الأعلى الحالي، علي خامنئي، بأن “بقاء النظام له الأولوية القصوى”، وهو ما يُعتقد أنه سوف يدفع قادة النظام الحالي في إيران للمناورة سياسيًا بعض الوقت ثم الانخراط مجددًا في المفاوضات النووية، خاصة وأن الهجمات العسكرية الأخيرة قد قلصت ولو بشكل جزئي من قدرات إيران النووية عمليًا؛ مما يعني فرض حقائق عملية جديدة في هذا الملف. 

الاستنتاج برغم تعثر المسار التفاوضي في الوقت الحالي بين إيران والولايات المتحدة، فإن استئناف المباحثات النووية يصبح الخيار الأكثر ترجيحًا في المستقبل، وهو ما يعود إلى إدراك النظام السياسي في إيران أن تبعات عدم القبول بالعودة لتلك الطاولة سوف تعني حربًا أكثر ضراوة مما كانت عليه في يونيو 2025، وأن مثل هذه الحرب إما أن تكتب النهاية للبرنامج النووي الإيراني أو للنظام السياسي في طهران نفسه. كما أن عدم ميل واشنطن -على اختلاف إداراتها- لشن حرب واسعة ضد إيران أو إسقاط نظامها السياسي، وهو موقف مشابه لما عليه الأوروبيون، سوف يعزز من احتمالات التوصل لاتفاق نووي في نهاية المطاف، إلا أنه من المتوقع أن يكون اتفاقًا مختلفًا بشكل كبير عما كان عليه اتفاق 2015.

 

 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الكاتب : علي عاطف

التاريخ: 8/7/2025

-----------------------------------------------------------------------

المصدر: سكاي نيوز عربية

التاريخ : 29/6/2025

---------------------------------------------------------------------

المصدر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

التاريخ : 6/5/2025

المقالات الأخيرة