تصعيد خطاب ترامب أمام بوتين
فرع القاهرة

في تحوّل لافت لموقفه تجاه موسكو، أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال لقائه مع الأمين العام للناتو في 14 يوليو 2025، تحذيرًا شديد اللهجة لروسيا، مطالبًا بإنهاء حربها في أوكرانيا خلال خمسين يوماً، ومهدداً بفرض عقوبات اقتصادية قاسية تشمل تعريفات جمركية تصل إلى 100% على السلع الروسية، بل وتمتد إلى شركائها التجاريين مثل الصين والهند. وجاء هذا التصعيد متزامنًا مع إعلان اتفاق أمريكي–أوروبي لتزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة عبر حلف الناتو، في إطار خطة تهدف إلى تعزيز قدرات كييف وردع موسكو؛ حيث أكد ترامب أن بلاده “سئمت من روسيا”، محذرًا من نفاد صبر واشنطن إزاء ما وصفه بالعدوان الروسي.

وهذا التحول الجوهري في خطاب ترامب تجاه روسيا، خاصة بعد تعهداته السابقة بالانفتاح على موسكو وإنهاء الحرب خلال 24 ساعة، يثير تساؤلات حول دوافع الموقف الأمريكي الجديد وآفاق التصعيد المحتمل.

سياق العلاقات الأمريكية الروسية

لفهم طبيعة التحولات التي طرأت على العلاقات الأمريكية – الروسية، سيكون من الضروري العودة إلى السياق التاريخي الذي سبق المرحلة الراهنة؛ حيث اتسمت تلك العلاقة خلال العقود الماضية بالتذبذب بين التقارب والحذر، ويمكن تقسيم هذه العلاقة إلى خمس مراحل أساسية:

المرحلة الأولى: مرحلة الوفاق المؤقت (1993 – 1999)في تسعينيات القرن الماضي، شهدت العلاقات ذروة ودّية بدفعٍ من الرئيسين “بوريس يلتسين” و”بيل كلينتون”، وأُعلنت في عام 1993 شراكة استراتيجية بين البلدين، غير أن هذه المرحلة لم تدم طويلًا؛ إذ سرعان ما تعكرت بفعل توسع الناتو شرقًا وتدخل حلف الأطلسي في كوسوفو، إضافة إلى التباينات في المواقف بشأن “إيران” و”العراق” والشيشان” و”الرقابة على التسلح”؛ مما أدخل العلاقة في مرحلة يُمكن وصفها بـــ “السلام البارد”. 

المرحلة الثانية: تقارب ظرفي (2000 – 2003)مع وصول “جورج بوش الابن” و”فلاديمير بوتين” إلى الحكم عام 2000، تجددت الآمال في إعادة إحياء التعاون الثنائي، خصوصًا بعد هجمات 11 سبتمبر التي وفّرت مناخًا مواتيًا لتقارب غير مسبوق بلغ حدّ الحديث عن “تحالف ثنائي”. وفي مايو 2002، أعلن الجانبان مجددًا عن “شراكة استراتيجية”، غير أن هذا التقارب لم يصمد طويلًا؛ إذ أعادت حرب العراق عام 2003 العلاقات إلى دائرة التوتر والفتور السياسي.

المرحلة الثالثة: محاولة “إعادة الضبط” (2008 – 2012)جاءت اللحظة المفصلية في عام 2008 مع تولي “باراك أوباما” الرئاسة في الولايات المتحدة، و”ديمتري ميدفيديف” في روسيا؛ مما بعث آمالًا بمرحلة جديدة من الانفراج. وفي هذا السياق أطلقت إدارة أوباما آنذاك سياسة “إعادة الضبط”، التي حققت بعض التحسن النسبي في العلاقات الثنائية، لكنه ظل محدودًا ويشوبه التردد، ولم يصمد طويلًا؛ إذ سرعان ما انهار هذا المسار قبل نهاية ولاية ميدفيديف، وتُرك جانبًا تمامًا مع عودة “فلاديمير بوتين” إلى الكرملين في 2012. ثم جاءت بعد ذلك أزمة أوكرانيا 2014 لتدفع بالعلاقات إلى منحنى تصادمي، عبر سلسلة من العقوبات الغربية والإجراءات المضادة الروسية.

المرحلة الرابعة: مرحلة التشكيك والتصعيد (2017 – 2020)مع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا في 2017 سادت تصورات أولية بوجود ميول مؤيدة لروسيا قد تُفضي إلى تحسن في العلاقات، إلا أن الضغوط السياسية الداخلية والاتهامات المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية قوضت هذا الاتجاه، لتزداد التوترات بدلًا من انحسارها. وبدأت واشنطن خلال تلك المرحلة بتسليح أوكرانيا وفرض عقوبات إضافية على موسكو. 

المرحلة الخامسة: ازدواجية خطاب ترامب (2025)مع عودة ترامب إلى الساحة السياسية مطلع 2025 برزت توقعات بتحول محتمل في العلاقات الأمريكية–الروسية، في ظل مواقفه الإيجابية تجاه موسكو. وقد أبدى رغبة في التفاوض لإنهاء الحرب بأوكرانيا، انطلاقًا من قناعة بأن روسيا تمثل تهديدًا إقليميًا لأوروبا أكثر من كونها تهديدًا مباشرًا لأمريكا، في مقابل تركيز واشنطن الاستراتيجي على آسيا والصين. ورغم هذا التوجه، لوّح ترامب خلال لقائه بأمين عام الناتو في 14 يوليو بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على روسيا خلال 50 يومًا إن لم تُنهِ الحرب، معلنًا عن صفقات تسليح لأوكرانيا، في مؤشر على تداخل خطابه التصالحي مع إجراءات تصعيدية ويُلاحظ كذلك أن ترامب قد لوّح باتخاذ تدابير اقتصادية مماثلة ضد الدول التي تواصل التعاون مع روسيا، وهو ما يشير إلى محاولة أمريكية لتوسيع نطاق العزلة المفروضة على موسكو دوليًا. ورغم أن هذه الرسوم لم تدخل بعد حيّز التنفيذ، فإنها تعكس توجهًا نحو استخدام “الضغط بالعقوبات الثانوية” كوسيلة لتضييق هوامش المناورة أمام روسيا ودفعها باتجاه تسوية تُنهي الحرب، بما يحقق الحد الأدنى من التوازنات المطلوبة أمريكيًا.

دوافع تحول خطاب ترامب تجاه روسيا

فور بدء ولايته الثانية في يناير 2025، سعى ترامب إلى الانفتاح على روسيا تنفيذًا لوعده الانتخابي بإنهاء الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة؛ مما أثار مخاوف في كييف من احتمال تخلّيه عن دعمها، خاصة بعد مهاجمته الرئيس الأوكراني زيلينسكي خلال زيارته لواشنطن في فبراير الماضي. لكنّ لهجة ترامب سرعان ما تبدلت؛ إذ عبّر مؤخرًا عن خيبته من بوتين الذي واصل التصعيد العسكري بدلًا من التهدئة، واصفًا إياه خلال لقائه بأمين عام الناتو بأنه “رجل صلب” ، ويمكن فهم هذا التحول في موقف ترامب في ضوء عدة اعتبارات؛ أبرزها:

أولًا: ضغوطات الداخل الأمريكي: يبدو أن تحول خطاب ترامب تجاه روسيا يعكس مراجعة استراتيجية داخلية لمسار الحرب الأوكرانية، بعد أن كان معروفًا بميله الواضح لبوتين، حتى وصل الأمر إلى التشكيك في تقارير الاستخبارات الأمريكية بشأن تدخل موسكو في انتخابات 2016 واتهامه أوكرانيا بإشعال فتيل الحرب. غير أن إخفاقه في إقناع بوتين بالتفاوض، واستمرار التصعيد الروسي، دفعاه إلى التحول نحو خطاب أكثر تشددًا، يستند إلى أدوات الضغط الاقتصادي والسياسي بدلًا من محاولات التهدئة السابقة هذا التبدل يتماشى مع نمط مألوف في السياسة الخارجية الأمريكية؛ حيث تبدأ الإدارات بمحاولات لإعادة ضبط العلاقات مع روسيا، ثم تنتهي إلى نهج تصعيدي بعد الاصطدام بتصلب الموقف الروسي.

ثانيًا: تأثير الضغوطات الأوروبية: يمكن تفسير تحول ترامب تجاه روسيا بتأثير الضغوط الأوروبية المتزايدة؛ حيث عمل عدد من القادة الأوروبيين على تعزيز التنسيق مع واشنطن وتوحيد الجبهة الغربية في مواجهة موسكو، بالتوازي مع تزايد ضيق ترامب من استمرار الحرب وتداعياتها على استقرار أوروبا والأسواق العالمية. ويعكس هذا التحول إدراكًا متأخرًا بأن تجاهل الأزمة لم يعد ممكنًا في ظل التنافس الجيوسياسي المتصاعد ويأتي إعلان ترامب عن تزويد أوكرانيا بمنظومات تسليحية متقدمة كأقوى دعم منذ بداية ولايته، في رسالة حازمة إلى موسكو بأن كلفة استمرار الحرب سترتفع، في ظل تماسك غربي تقوده واشنطن ويموّله الأوروبيون، وهو ما يُبرز تحوّلًا استراتيجيًا في مقاربة ترامب للأزمة.

ثالثًا: إعادة تعريف دور أمريكا في الحربيمثّل التوافق الأمريكي الأوروبي في فرض عقوبات على روسيا وتزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة، تحولًا مهمًا في طبيعة الدعم الغربي لأوكرانيا، من حيث الآليات والتمويل. وبموجب هذا التفاهم، ستقوم الدول الأوروبية بتزويد أوكرانيا بأسلحة من مخزونها العسكري، على أن تتكفّل الولايات المتحدة بإعادة تزويد تلك الدول بالمعدات المستبدلة بما لا يُحمِّل الخزانة الأمريكية أعباء مباشرة أو يثير تحفظات دافعي الضرائب، وهو ما حرص ترامب مرارًا على تأكيده في خطابه الداخلي. هذا الترتيب يبدد قدرًا كبيرًا من الشكوك التي رافقت بداية الولاية الحالية له، بشأن مدى استعداده للاستمرار في دعم أوكرانيا عسكريًا، لا سيما في ظل مقاربته الاقتصادية المتشددة وتحمل هذه الخطوة أهمية داخلية وخارجية؛ إذ تتيح لترامب الظهور بموقف حازم تجاه روسيا دون أعباء مالية مباشرة، وتُعزّز في الوقت ذاته القدرات العسكرية الأوكرانية عبر دعم الدفاع الجوي، وتوفير أسلحة بعيدة المدى، وزيادة قذائف المدفعية لتعزيز الجبهات الأمامية.

وفي ضوء هذه التطورات، يبدو أن ترامب نجح -ولو تكتيكيًا- في إعادة صياغة دور بلاده في الحرب دون التخلي عن شعار “أمريكا أولًا”، مع المحافظة على حد أدنى من التماسك الغربي في مواجهة روسيا.

 

 

 

 

 

ردود الأفعال الروسية المتوقعة

في ضوء التصعيد الأمريكي المتزايد ضد موسكو، تجد روسيا نفسها أمام معادلة معقدة تفرض عليها إعادة تقييم خياراتها الاستراتيجية. فبين ضغوط العقوبات الغربية، والتحولات في المواقف الأمريكية، والانقسامات داخل النخبة الروسية، باتت موسكو مطالبة بالتعامل مع واقع جديد يتطلب موازنة دقيقة بين الردع والمناورة. وتنعكس هذه التحديات على مواقف مسئوليها وخياراتها المحتملة، التي تتراوح بين التصعيد والتسوية الحذرة، ويُمكن رصد ذلك في النقاط التالية:

أولًا: التباين في الخطاب الروسيتزامن التصعيد الكلامي من جانب الرئيس الأمريكي مع تباين ملحوظ في ردود الأفعال الصادرة عن المسئولين الروس؛ مما يعكس حالة من الحذر المشوب بالتقليل من شأن التهديدات الغربية ففي حين وصف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس الروسي السابق “دميتري مدفيديف” إنذار ترامب بأنه “مسرحية سياسية لا تستحق الرد”، اتخذ الكرملين موقفًا أكثر توازنًا؛ حيث أكد المتحدث باسم الكرملين “دميتري بيسكوف” أن موسكو “ستأخذ وقتها لتحليل التصريحات”، واصفًا إياها بـ”الجدية للغاية”. 

ثانيًا: بوادر تململ في أوساط النخبة الروسيةعلى الجانب الآخر، فإن تصاعد انتقادات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للحملة العسكرية الروسية ترك أثرًا واضحًا لدى بعض فئات النخبة الروسية؛ حيث بدأوا يشككون في جدوى استمرار الحرب، خاصة مع تصاعد المخاوف من أن يكون الرئيس بوتين قد بالغ في تقدير قدراته. 

ثالثًا: الانقسام داخل الكرملينتكشف تصريحات ترامب عن تحوّلات لافتة تثير قلقًا متصاعدًا داخل دوائر صنع القرار الروسية؛ حيث يتنامى التباين بين جناح اقتصادي يدعو إلى التهدئة والتفاوض لحماية المصالح الروسية، وجناح عسكري–دبلوماسي يضغط باتجاه مواصلة الحرب حتى تحقيق الحسم الميداني. 

رابعًا: القيود الاقتصادية وحدود المناورةتشير التقديرات الاقتصادية إلى أن روسيا لا تزال قادرة على مواصلة مجهودها الحربي لفترة تتراوح بين 18 إلى 20 شهرًا إضافيًا، رغم الضغوط والتحديات الاقتصادية وذلك شريطة بقاء أسعار النفط عند مستويات مرتفعة وعدم تعرضها لانخفاض حاد وطويل الأمد. وفيما يتعلق بتهديدات الرئيس الأمريكي بفرض رسوم جمركية تصل إلى 100% على الدول التي تحتفظ بعلاقات تجارية مع روسيا، وعلى رأسها الصين والهند، فإن النخبة الروسية تعتبر هذه التهديدات غير قابلة للتنفيذ ويفتقر تطبيقها للجدوى الواقعية. 

خامساً: حدود فاعلية الردع الأمريكيعند محاولة الإجابة عن التساؤل المحوري حول ما إذا كانت تصريحات الرئيس الأمريكي المناهضة لروسيا، وما رافقها من خطوات تصعيدية، قادرة على دفع موسكو إلى تغيير سلوكها أو التوجه نحو تسوية حقيقية، فإن الإجابة تبقى غير محسومة، بل تميل إلى النفي في ظل معطيات استراتيجية معقدة. 

كما تحظى موسكو بعضوية دائمة في مجلس الأمن وتمتلك حق النقض “الفيتو”، الذي استخدمته مرارًا لإفشال تحركات أمريكية، لا سيما في الملف السوري. ويُضاف إلى ذلك أن روسيا تتبنى رؤية عالمية منافِسة للغرب، تقوم على استعادة مكانتها كقوة عظمى، وهي رؤية تتجذر في العقيدة الاستراتيجية الروسية وفي خطابات الرئيس بوتين، الذي يؤمن بأن حماية الأمن القومي الروسي لا تنفصل عن استعادة النفوذ الجيوسياسي في المجال السوفيتي السابق. وتُظهر التحركات الروسية منذ 2014 (ضمّ القرم، التدخل في سوريا، والحرب الأوكرانية الجارية) أن موسكو تعتمد في سياستها الخارجية على مزيج من الأدوات الصلبة والناعمة، بما في ذلك العمليات غير المتكافئة والضغوط الاقتصادية والنفوذ المعلوماتي.

من هذا المنظور، فإن الأزمة الأوكرانية بالنسبة لروسيا ليست مجرد نزاع حدودي، بل معركة وجودية فاصلة ترتبط برؤية الكرملين لأمنه القومي ومكانته الدولية، ولا يمكن فصلها عن رفضه القاطع لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو. وبالتالي، فإن توقع تراجع موسكو بسهولة تحت وطأة التصريحات الأمريكية أو حتى الضغوط الاقتصادية يظل خيارًا بعيدًا، ما لم يرتبط بتغير جوهري في ميزان القوى أو معادلات الردع.

وأخيراًًًً، يمكن القول إن العلاقات الروسية-الأمريكية تمر بمنعطف حرج، تُعيد فيه واشنطن صياغة أدوات الضغط والمواجهة تجاه موسكو، ضمن مسعى لتغيير معادلات الحرب الأوكرانية دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة ورغم أن التصعيد الأخير يعكس تحوّلًا لافتًا في خطاب الإدارة الأمريكية، فإن قدرة هذا التحول على كبح الطموحات الروسية تبقى محدودة في ظل قناعة الكرملين بأن الأزمة تمس جوهر الأمن القومي الروسي ومكانته الدولية وفي المقابل، فإن استمرار التنسيق الأمريكي-الأوروبي حول تسليح أوكرانيا وفرض عقوبات مشددة، يكشف عن توجه غربي لإطالة أمد النزاع كوسيلة إنهاك استراتيجية لروسيا. وبينما يُراهن ترامب على فاعلية الضغوط الاقتصادية والعسكرية لإضعاف الموقف الروسي، فإن موسكو -مدفوعةً بدعم صيني وكوري شمالي وحسابات ميدانية متغيرة- لا تُبدي حتى الآن مؤشرات حقيقية على التراجع. وعليه فإن مستقبل العلاقات بين البلدين سيبقى مرهونًا بمدى قدرة كل طرف على تعديل كلفة الحرب أو توظيف مخرجاتها لصالح إعادة رسم توازنات القوة في النظام الدولي.

 

 

المصدر : المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الكاتب : أحمد السيد

التاريخ : 26/7/2025

------------------------------------------------------

المصدر: الجزيرة نت

الكاتب : ماكسيميليان هيس

التاريخ : 21/7/2025


المقالات الأخيرة