واجه العالم تحديات تنموية كبرى، يأتي في مقدمتها تغير المناخ الذي يهدد الأمن الغذائي العالمي في ظل تزايد معدل النمو السكاني. تشير توقعات للبنك الدولي إلى أن الاستمرار في ارتفاع درجات الحرارة قد يؤدي إلى خفض إنتاجية المحاصيل بنسبة تتراوح بين 10 إلى 20% بحلول عام 2050 بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الحبوب عالميًا بالرغم من مساهمة إفريقيا بنحو 4% من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية، لكنها تعد أكثر القارات تضررًا من تغير المناخ؛ حيث تراجعت إنتاجية المحاصيل في شمال إفريقيا من الحبوب عام 2023 بنحو 10% مقارنة بمتوسط الخمس سنوات السابقة وفي نفس العام قد عانى نحو 282 مليون إفريقي من انعدام الأمن الغذائي وعليه برزت الزراعة الذكية مناخيًا كنهج متكامل يعمل على تحقيق الاستدامة البيئية وضمان تحقيق الأمن الغذائي.
تُعرف الزراعة الذكية مناخيًا (Climate smart agriculture) بأنها نهج متكامل يشتمل على مجموعة من التقنيات والأساليب تهدف لتحقيق الاستدامة وضمان الأمن الغذائي من خلال زيادة إنتاجية المحاصيل، ودعم قدرة الأنظمة الزراعية على التكيف مع التغيرات المناخية كالجفاف وارتفاع درجات الحرارة والفيضانات إلى جانب سعيها لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة.
تشير التقديرات إلى أن عدد سكان العالم سيصل إلى 9.7 مليار نسمة بحلول عام 2050، ولسد الاحتياجات الغذائية لهم لابد من زيادة إنتاج الغذاء بنحو 70%؛ لذلك لجأت المنظمات الأممية والبنوك الدولية والحكومات الوطنية إلى تعزيز أساليب الزراعة الذكية مناخيًا وظهر ذلك بوضوح في دعم منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “الفاو” الحكومات لتفعيلها وتقديم الدعم الفني فضلًا عن رفع مستوى الوعي بأهمية الزراعة الذكية مناخيًا في ظل تحديات تغير المناخ ونمو السكان ومن أبرز الأمثلة على ذلك تقديمها طبعتين من “دليل الزراعة الذكية مناخيًا” ويقدم هذا الدليل معلومات حول كيفية جعل الزراعة أكثر استدامة وإنتاجية فضلًا عن التكيف مع التغيرات المناخية والحد منها، وأنظمة الإنتاج المتكامل وأنظمة دعم المعرفة للمزارعين ودور النوع الاجتماعي
ومن جانب آخر يعزز البنك الدولي استثماراته في الزراعة الذكية مناخيًا بشكل كبير؛ حيث حدد البنك الدولي في خطة عمله بشأن تغير المناخ خلال الفترة (2021-2025) الزراعة والغذاء والماء كركائز أساسية لتطبيق اتفاقية باريس 2016، ومنذ اعتماد الاتفاقية زاد البنك الدولي تمويله للزراعة الذكية مناخيًا ثماني مرات حتى وصل إلى نحو 3 مليارات دولار سنويًا. بالإضافة إلى تقديمه لتقارير المناخ والتنمية الُقطرية وملفات تعريف بالزراعة الذكية مناخيًا، كما يدعم البنك الدولي برامج البحث بالتعاون مع المجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية.
تتمتع إفريقيا بمساحات شاسعة من التربة الخصبة ومواسم زراعية متنوعة وموارد مائية وفيرة مثل نهر النيل والكونغو والزامبيزي وبحيرتي فيكتوريا وتنجانيقا وتعد الزراعة أحد الركائز الأساسية لاقتصاد القارة حيث يعتمد أكثر من 60% من سكانها عليها كمصدر للدخل والغذاء وتواجه الزراعة في إفريقيا العديد من التحديات لعل أبرزها الافتقار إلى البنية التحتية المناسبة للري؛ مما يحد من قدراتها على التكيف مع شح المياه إلى جانب الحروب الأهلية والصراعات التي تحول الأراضي الزراعية إلى ساحات للقتال ويتم تدمير المحاصيل وإجبار المزارعين على الفرار وترك أراضيهم فضلًا عن ضعف البنية التخزينية وغياب الحلول الفعالة بعد الحصاد؛ حيث يتضرر نحو 40% من المحاصيل بعد الحصاد ويأتي على رأس تلك التحديات تداعيات التغيرات المناخية على نحو الجفاف والتصحر واضطراب معدل سقوط الأمطار والفيضانات التي تعمل على تراجع الإنتاجية الزراعية وزيادة معدلات الفقر.
وفي سياق متصل تلعب الزراعة الذكية مناخيا دورًا محوريًا في تعزيز الأمن الغذائي خاصة في ظل التداعيات السلبية المتزايدة للتغيرات المناخية؛ وذلك من خلال استخدام أجهزة الاستشعار عن بعد والطائرات بدون طيار “الدرونز” لجمع بيانات دقيقة تساعد في تحسين الإنتاجية الزراعية. تتيح هذه التقنيات تصوير الأراضي ورصد حالة المحاصيل والتربة والتنبؤ بالطقس وتحسين إدارة المياه ورش الأسمدة والمبيدات بشكل آمن وفعال. كما تم إنتاج روبوتات زراعية قادرة على رصد الآفات والأمراض ومعالجتها في وقت قصير بالرغم من المساحة الشاسعة فضلًا عن التقاط الحشائش والبذور وحصاد المحاصيل[14]. بالإضافة إلى ذلك يتم إنتاج أصناف جديد من المحاصيل المرنة قادرة على تحمل الظروف المناخية مثل الجفاف والتصحر كما يتم اعتماد الزراعة الرأسية من خلال زراعة المحاصيل في هياكل عمودية داخل بيئات محكمة التحكم، والزراعة المحافظة -الزراعة منخفضة الحرث- للحفاظ على جودة التربة وعلاوة على ذلك الزراعة الحراجية التي تتضمن زراعة الأشجار بجانب المحاصيل لكي تعمل كمصدات للرياح وتخزين ثاني أكسيد الكربون.
تجارب الزراعة الذكية في إفريقيا
ويمكن الإشارة إلى أبرز التجارب الإفريقية الرائدة في الزراعة الذكية مناخيًا على النحو التالي:
مصر: يواجه القطاع الزراعي المصري مجموعة من التحديات أهمها زيادة الكثافة السكانية، بالإضافة إلى نقص المياه وتزايد حالات التعدي على الأراضي الزراعية، حيث بلغ إجمالي حالات التعدي على الأراضي الزراعية نحو 79,1 ألف فدان خلال الفترة من (2011-2019)، فضلًا عن تفتيت الحيازة الزراعية حيث من المتوقع أن ينخفض متوسط الحيازة عن ثلاث أفدنة لحوالي 80% من المزارعين. وعليه من المحتمل انخفاض العائد من الزراعة ولجوء صغار المزارعين إلى تبوير الأراضي وبيعها كأراضي بناء لتحقيق عائد أكبر. وعليه سوف يتزايد الطلب على الغذاء ارتفاع أسعاره خاصة بعد أن أشارت دراسات إلى أن ارتفاع دراجات الحرارة سوف يؤثر سلبًا على إنتاجية المحاصيل.
وعليه سعت الدولة المصرية إلى تعزيز الزراعة الذكية من خلال تفعيل تقنياتها في الحيازات الكبيرة على نحو تقنية “البيفوت” التي تدار عن بعد وتتحكم في كميات المياه في “مشروع الدلتا الجديدة”، فضلًا عن إطلاق وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي بالتعاون مع بعض المؤسسات المحلية والدولية المعنية تطبيق “الزراعة الذكية مناخيًا” لتحقيق أقصي استفادة ممكنة للمزارعين من الذكاء الاصطناعي (AI)، ويضم التطبيق قاعدة معلوماتية عن أبرز أربع محاصيل استراتيجية يأتي على رأسها القمح وتحتوي القاعدة على صورة تفصيلية بالآفات والحشرات التي قد تصيب المحصول والطرق الفعالة لمعالجتها.
بالإضافة إلى إطلاق تطبيق المساعد الذكي للفلاح “هدهد” باللغة العربية ، وهو يعتمد على الذكاء الاصطناعي ويهدف إلى مساعدة المزارعين للحصول على الاستشارات الزراعية بسهولة.
كما أطلقت وزرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي شراكة مع مجموعة البنك الدولي في عام 2023 لتعزيز الاستفادة من مشروع (EgCITE) الممول من الصندوق الإنمائي الكوري للنمو الأخضر والذي يعمل على توطين أفضل التقنيات والممارسات الدولية لتعزيز الزراعة الذكية مناخيًا في القاهرة.
فضلًا عن تعاون وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي مع منظمة “الفاو” في تنفيذ مشاريع المدارس الحقلية لتنفيذ نحو 105 مشروع في واحة الخارجة في محافظة الوادي الجديد.
كينيا: تعد الزراعة البعلية هي أساس الاقتصاد الكيني حيث تشكل نحو ثلث الناتج المحلى الإجمالي السنوي، وتوظف نحو 70% من الريفيين وتملك واحدًا من أكبر قطاعات الألبان في إفريقيا جنوب الصحراء، حيث يشكل نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي. وبالرغم من ذلك ترتفع معدلات الفقر، فضلًا عن تهديد تغير المناخ للقطاع الزراعي حيث تقدر تكاليفه بنحو 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا، لذلك وضعت كينيا استراتيجية للزراعة الذكية مناخيًا خلال الفترة (2017-2026) من أجل تعزيز مرونة النظم الزراعية للتكيف مع التغيرات المناخية.
وتساعد التقنيات النووية العلماء على تتبع الكربون والماء والمغذيات أثناء انتقالها عبر التربة لتزويد المزارعين بكافة المعلومات الدقيقة؛ من أجل تحديد أفضل التقنيات للري والزراعة التي يمكن أن يعتمد عليها المزارع في ظل شح المياه والتغيرات المناخية. ووفقًا لإحصائيات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في سبتمبر 2024 ساعدت تلك التقنيات آلاف المزارعين في كينيا على زيادة إنتاجية محاصيلهم بنسبة 20%، وتوفير20% من تكاليف الأسمدة.
وعلاوة على ذلك يستخدم بعض المزارعين في نيروبي الهواتف الذكية في مسح النباتات واكتشاف الآفات وتقديم حلول سريعة لمعالجتها، بالإضافة إلى الحصول على نصائح لشراء بذور ذات جودة أعلى من خلال التواصل مع خبراء زراعيين عبر تطبيق طورته شركة (plant village).
أوغندا: خلال الفترة (2018-2022) أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووزارة الزراعة وصناعة الحيوان ومصايد الأسماك في أوغندا بدعم من الكوميسا مشروعًا في بعض مقاطعات كامبالا؛ لتعزيز أفضل تقنيات الزراعة الذكية مناخيًا واستخدام أحواض زراعة دائمة تتسم بالعمق وتعمل على تجميع مياه الأمطار بشكل فعال وتوفيرها للنباتات على فترات طويلة، ونتيجة لذلك زاد حصاد الذرة من 300-500 كجم لكل فدان إلى 1500 إلى 3000 كجم.
تحديات فنية وتمويلية
رغم الفوائد الملموسة للزراعة الذكية مناخيًا في تحقيق الاستدامة البيئية والأمن الغذائي إلا أن انتشارها لا يزال محدودًا بسبب عدة تحديات لعل أبرزها: الاستثمارات المبدئية المرتفعة؛ حيث يتطلب شراء المعدات الحديثة تكاليف كبيرة تفوق قدرة صغار المزارعين، بالإضافة إلى الدعم السياسي والمؤسسي المحدود؛ حيث تتطلب تلك الزراعة سياسات ومؤسسات تدعمها لتلبية الأهداف المرجوة، فضلًا عن افتقار العديد من المزارعين للوصول إلى المعلومات والتقنيات مثل المحاصيل المقاومة للتغيرات المناخية وأدوات الزراعة الدقيقة وعلاوة على ذلك عدم توافر الانترنت باستمرار في العديد من المناطق الريفية إلى جانب نقص الكفاء التكنولوجية يمثل تحدى بارز؛ حيث يتطلب تشغيل معدات الزراعة الذكية مناخيًا فهم التكنولوجيا وكيفية استخدامها بفعالية.
وختامًا لما سبق؛ تعد الزراعة الذكية مناخيًا خيارًا استراتيجيًا لا غنى عنه لتحقيق الأمن الغذائي، لاسيما في ظل التحديات المتصاعدة لتغير المناخ خاصة في الدول الإفريقية التي تواجه مشكلات متكررة كالجفاف وتعتمد بشكل كبير على مياه الأمطار رغم امتلاكها مصادر مائية وفيرة.
ويتميز هذا النهج بالشمولية حيث يهدف إلى تعزيز الإنتاجية الزراعية، ودعم النظم الزراعية للتكيف مع التغيرات المناخية، بالإضافة إلى الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة؛ مما يجله ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الزراعية المستدامة. ولكي تؤتي الزراعة الذكية مناخيًا ثمارها المرجوة يتطلب ذلك توفير بيئة داعمة تشمل الإرادة السياسية والتنسيق المؤسسي وتوفير البنية التحتية الرقمية إلى جانب تمكين المزارعين من خلال التدريب المستمر على استخدام التكنولوجيا وتأمين مصادر تمويل مستدامة تدعم عملية التحول الزراعي.
المصدر: مركز رع للدراسات الاستراتيجية
الكاتب : فوزية صبري
التاريخ : 23/7/2025
------------------------------------------------------------
المصدر: موقع مصراوي
الكاتب : حسن مرسي
التاريخ : 17/7/2025