الحرائق كسلاح إرهابي
فرع القاهرة

سلطت الحرائق التي اندلعت في محافظة اللاذقية بسوريا خلال شهر يوليو 2025 الضوء على توظيف التنظيمات الإرهابية عمدًا للحرائق كسلاح لأنشطتها العنيفة، لا سيما مع تبني تنظيم “سرايا أنصار السنة هذه الحرائق عبر إصداره بيانًا في 5 يوليو 2025 نص على: “بعون الله تعالى، أحرق مجاهدو سرايا أنصار السنة غابات القسطل بريف اللاذقية يوم 8 محرم، مما أدى إلى تمدد الحرائق إلى مناطق أخرى”، الأمر الذي يثير جملة من التساؤلات حول دوافع التنظيمات الإرهابية لاستخدام تكتيك الحرق العمد في عملياتها فضلًا عن ماهية التداعيات والمخاطر المترتبة على هذا التكتيك لا سيما مع سهولة استخدامه.

الدعوات التحريضية للعمليات الإرهابية

أطلقت التنظيمات الإرهابية دعوات تحريضية متعددة من أجل توظيف الحرق العمد في عملياتها الإرهابية إذ جاء مقال بعنوان “من حريتك إشعال قنبلة نارية” في العدد التاسع من مجلة “إنسباير” الصادرة عن تنظيم “القاعدة في اليمن” الإرهابي في مايو 2012، حيث قدم المقال إرشادات حول اختيار الوقت والظروف المناسبة لحرق الغابات، بالإضافة إلى إرشادات تفصيلية حول كيفية صنع “قنبلة الجمر”.

وناقش المقال بشكل تفصيلي حرائق الغابات الأسترالية في ديسمبر 1983 و2002، مشيرًا إلى الدمار الذي خلفته، كما جاء مقال بعنوان “حرق المركبات المتوقفة” في العدد العاشر من مجلة “إنسباير” في ربيع عام 2013، شجع على إحراق المركبات في الغرب باستخدام أدوات سهلة وبسيطة.

وبرز التحريض على استخدام النار في مقال بعنوان “تكتيكات الإرهاب فقط”، في العدد الخامس من مجلة “رومية” الصادرة عن تنظيم “داعش” الإرهابي في يناير 2017، والتي توقفت عن الصدور، حيث أكد المقال على أن “الهجمات الحارقة لعبت دورًا هامًا في الحروب الحديثة وحروب العصابات، وكذلك في إرهاب الذئاب المنفردة” وحدد أهدافًا قابلة للاستهداف بالحرق العمد مثل “المباني السكنية، والغابات المجاورة للمناطق السكنية، ومصانع السيارات، ومحطات الوقود، والمستشفيات، والنوادي الليلية، والبنوك، والمدارس، والجامعات، بالإضافة إلى الكنائس، والمعابد الرافضة (الشيعية)، وغيرها“.

كما طالب “محمد العدناني”(المتحدث باسم تنظيم داعش آنذاك) في سبتمبر 2017، مناصري التنظيم بقتل من سماهم بـ”الكفار” قائلًا: ابْذُل} جهدك في قتل أي أميركي أو فرنسي، فإن عجزت عن العبوة أو الرصاصة، فاستفرد بالكافر، فارضخ له بحجر، أو انحره بسكين… وإن عجزت، فاحرق منزله أو سيارته، أو تجارته أو مزرعته”.

كما نشر “مركز الحياة للإعلام” التابع لتنظيم “داعش” فيديو في يوليو 2020 بعنوان “وحرض المؤمنين” حث مناصريه على شن هجمات الحرق العمد، خاصة لمن لا يملكون أسلحة أو غير قادرين على السفر إلى الخارج للقتال. ويصور الفيديو حرائق تبدأ في جنوب ولاية كاليفورنيا وأوريغون الأمريكية ثم تنتشر إلى مواقع أخرى. وينصح المؤيدين باستهداف الغابات والحقول والمدن والقرى دون لفت الانتباه إليهم، والتخلص من الأدلة بأمان لإعاقة إنفاذ القانون.

 

كذلك نشرت مؤسسة “طلائع الأنصار الإعلامية”، وهي مؤسسة إعلامية مؤيدة لـــ”داعش”، فيديو في 8 أغسطس 2024، بعنوان “حان الوقت”؛ حيث حرض الفيديو أنصار التنظيم على شن هجمات ضد “الصليبيين” حول العالم، وحثهم على استغلال حر الصيف لإشعال الحرائق.

الدوافع الرئيسية

ثمة دوافع متعددة تقف خلف دعوات التنظيمات الإرهابية لتوظيف النار كسلاح، منها ما هو متعلق بالقناعات الأيديولوجية، ومنها ما هو مرتبط بالقدرات اللوجستية، ومنها ما هو مقترن بالبروباجندا الدعائية، ويمكن استعراضها على النحو التالي:

قناعات أيديولوجية: ثمة قناعات أيديولوجية تقف خلف سردية التنظيمات الإرهابية لتوظيف النار كسلاح حيث تنظر تلك التنظيمات إلى النار كرمز للعقاب الإلهي، ومن ثم توظف الحرق العمد كشكل من أشكال القصاص في الدنيا، يستهدف به كل من لم يتسق مع منظومتها الفكرية والعقائدية المتطرفة.

فعلى سبيل المثال، نجد أن تنظيم “سرايا أنصار السنة” استند في تبريره لحرائق اللاذقية إلى فتوى صادرة عن “أبو الفتح الشامي”(المفتي العام للتنظيم) في أبريل 2025، والتي أباحت “تخريب اقتصاد الكفار وحرق ممتلكاتهم وقراهم وزروعهم”، وذلك في إشارة للطائفة العلوية.

كذلك عرفت مجلة رومية في عددها الخامس، الحرق العمد، بأنه “إشعال الحرائق باستخدام مواد قابلة للاشتعال لتدمير ممتلكات الصليبيين، وفي بعض الحالات قتل عدد منهم، وإرسالهم من نار الدنيا إلى نار جهنم” حيث أباح التنظيم استخدام هذا التكتيك مع غير “المؤمنين”؛ وذلك طبقًا لتعريفه للإيمان القائم على ثنائية “نحن وهم”.

وقد أصدر تنظيم “داعش” رسمًا بيانيًا حديثًا في 26 يونيو 2025 يوضح حصيلة عملياته خلال العام الهجري 1446، والذي امتد من 7 يوليو 2024 إلى 26 يونيو 2025. ويظهر الرسم البياني أنه استخدم النار كسلاح، حيث أحرق عناصره نحو 1616 منزلًا ومزرعة، و70 ثكنة عسكرية وموقعًا عسكريًا، و20 كنيسة، ولكنه لم يوضح الأماكن التي نفذ فيها هذه الحرائق. ويمكن القول إن رمزية إحراق مساحات واسعة من الأراضي والبنى التحتية تغذي سردية تلك التنظيمات التي تسعى إلى تدمير المجتمعات باعتبارها “ديار كفر”، وتدشين نظام حكم قائم على أفكارهم المتطرفة.

تكتيك منخفض التكلفة: يعتبر تكتيك الحرق العمد تكتيك منخفض التكلفة؛ حيث يعتمد على أدوات بسيطة دون الحاجة إلى تصنيع عبوات ناسفة معقدة أو شراء أسلحة نارية، كما أنه تكتيك منخفض المهارات، بما يعني القدرة على التجنيد من بين مجموعة أكبر من المجندين المحتملين ذوي المهارات المحدودة. بالإضافة إلى أن التدريب الافتراضي، والبرامج التعليمية مفتوحة المصدر عبر الإنترنت، ما يقلل من احتمال اكتشاف الجهات الأمنية للعنصر في مراحل التخطيط. ويعد الحرق العمد جذابًا للإرهابيين الذين يتطلعون إلى ضرب أهداف بسيطة سهلة مثل الحقول والغابات، فضلًا عن أن هذا التكتيك يتميز بفاعلية ويمكن تكرار الهجمات المرتبطة به بسهولة.

 

بروباجندا دعائية: في عام 1974وصف خبير الأمن الأمريكي برايان جنكيز “الإرهاب مسرحية” بمعنى أن الهجمات الإرهابية غالبًا ما يتم تصميمها بحرص لجذب انتباه وسائل الإعلام. ومن ثم، تستخدم التنظيمات الإرهابية النيران للتعبير عن القوة التي يعتقدون أنهم يمتلكونها أو سيمتلكونها، حيث تزيد صور النيران من التغطية الإعلامية، وتجذب انتباه العالم.

فعلى سبيل المثال وليس الحصر، تعكس هجمات مومباي في نوفمبر 2008 هذا الطرح، حيث نفذت عناصر من جماعة “لشكر طيبة” الإرهابية هذه الهجمات على مدى ثلاثة أيام، باستخدام مزيج من الأسلحة الآلية والمتفجرات والنيران وأسفرت عن مقتل 166 شخصًا وإصابة أكثر من 300آخرين ، وعلى الرغم من حجم العنف والدمار والضحايا، تظل الصور الأكثر شهرة من ذلك الحدث هي حريق فندق تاج محل.

وفي سياق متصل، تظل عملية إعدام الطيار الأردني الشهيد “معاذ الكساسبة” حرقًا التي نفذها تنظيم “داعش” في مطلع عام 2015 وتم توثيقها في أحد إصدارات التنظيم المرئية بعنوان “شفاء الصدور” من أكثر العمليات الإرهابية التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة، وكشفت عن مدى توحش التنظيم ورغبته في تجاوز كل ما فعلته التنظيمات الإرهابية التي سبقته، حيث وجد “داعش” في تكتيك الحرق حيًا غيته.

هجمات انتقامية: لجأت التنظيمات الإرهابية إلى استراتيجية الأرض المحروقة كوسيلة للضغط والانتقام من المجتمعات المحلية التي رفضت وجودها، حيث أشار تقرير صادر عن مركز دراسات الحرب عام 2015 إلى أن تنظيم “داعش” هدد بحرق حقول المحاصيل ما لم يسلم المزارعون في جنوب وغرب كركوك نصف محاصيلهم من القمح والشعير من أجل تمويل نشاط التنظيم. 

كذلك أفادت وسائل إعلام محلية عراقية أن مسلحي التنظيم أحرقوا محاصيل القمح والشعير في الحويجة في يونيو 2018، كوسيلة للضغط على المجتمعات المحلية لدعم التنظيم.

وبالتزامن مع موسم الحصاد في شهر مايو على مدار عامي 2019 و2020 أحرق التنظيم الآلاف من أفدنة من المحاصيل في مختلف أنحاء العراق وسوريا، مما أسفر عن خسائر تقدر بملايين الدولارات لمجتمعات تعاني بالفعل، وقد تباهى بذلك على مدار عددين متتالين من صحيفة النبأ التابعة له، حيث جاء في العدد183 الصادر في 23 مايو 2019، مقالًا بعنوان “شمروا عن سواعدكم وابدأوا الحصاد: بارك الله في حصادكم جنود الخلافة يحرقون مزارع المرتدين في العراق والشام”، كذا نشر مقال في العدد (184) الصادر في 30 مايو 2019، بعنوان” أحرقوا أرض المرتدين وتجنبوا ممتلكات المسلمين”.

التداعيات المتعددة

في ضوء ما تقدم، يحمل التوظيف الاستراتيجي للنار كسلاح جملة من التداعيات، ويمكن تناولها على النحو التالي:

استنزاف الموارد: يتسبب حرق الأراضي الزراعية والمراعي في أضرار اقتصادية بالغة للمجتمعات المحلية، مما يعيق أنشطة توليد الدخل، وقد مثل أسلوب الأرض المحروقة، الذي اتبعه تنظيم “داعش” تحديات واسعة للأمن الغذائي العراقي، ووفقا لتقييم منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) لعام 2016 للمناطق المحررة، تدهور الوضع في القطاع الزراعي بسرعة مع صعود تنظيم “داعش” بسبب تدفق النازحين داخليا، ومعدات الري المدمرة والمحروقة، والتخلي عن الأراضي الزراعية.

وفي تقريرها لعام 2017، أكدت (الفاو) أن تنظيم “داعش” كان مسؤولًا عن انخفاض الإنتاج الزراعي في العراق بنسبة 40%، حيث أشار التقرير إلى فقدان حصاد القمح والشعير والخضراوات بسبب نزوح السكان والنهب وحرق صوامع الحبوب.

ولم يقتصر التنظيم على استهداف الأراضي الزراعية بتكتيك الحرق العمد، بل أقدم في عام 2016 على حرق آبار نفطية ومنشآت بترولية قبل انسحابه أمام القوات العراقية جنوب الموصل، وتسببت هذه النيران في خسارة الملايين من براميل النفط.

تدمير المؤسسات التعليمية: وظفت التنظيمات الإرهابية تكتيك الحرق العمد لاستهداف المؤسسات التعليمية، وعد أشهر نموذج في هذا الصدد، جماعة “بوكو حرام”، والتي يُترجم اسمها في اللغة الهاوسية عادة إلى الإنجليزية على أنه “التعليم الغربي حرام”؛ إذ كان استهداف المدارس جزءًا من استراتيجيتها العملياتية.

وقد أكد “أبو بكر شيكاو” (زعيم جماعة بوكو حرام آنذاك) على هذا النمط من الهجمات في رسالة فيديو في 12 أغسطس 2013 قائلًا: “لقد قلنا إننا سنحرق المدارس التي تقدم تعليما غربيا؛ لأنها ليست مدارس إسلامية.. سنواصل شن هذه الهجمات على المدارس حتى آخر نفس“. 

وفي هذا السياق، ذكر تقرير لمنظمة العفو الدولية أن ما يصل إلى 50 مدرسة تعرضت للهجوم أو الحرق أو التدمير في ولاية بورنو وحدها في عام 2013، مما أسفر عن مقتل 70 معلمًا وعشرات الطلاب. 

كذا وفقًا للرصد الذي أجرته شركة Insecurity Insight، تم الإبلاغ عما لا يقل عن 130 هجومًا حرق متعمدًا على المدارس في جميع أنحاء بوركينا فاسو والكاميرون ومالي والنيجر ونيجيريا بين1 يناير 2018 و30 يونيو 2023، وقد تم تنفيذ تلك الهجمات من قبل كل من “بوكو حرام”، وتنظيم “داعش في غرب أفريقيا”، جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، و”جبهة تحرير ماسينا”، وذلك في إطار معارضتهم للتعليم الذي يعتبرونه “غربيا”.

التأثير على النظام الإيكولوجي: يترتب على الحرق العمد للغابات الإضرار بالنظام الأيكولوجي؛ إذ يؤدي حرق الغابات والأحراش إلى فقدان أحواض الكربون في الغابات وانبعاث غازات دفيئة إضافية في الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى تغييرات جذرية في أنماط المناخ ويساهم في ظاهرة الاحتباس الحراري. ومن منظور بيئي، تؤثر حرائق الغابات واسعة النطاق وغير المُسيطر عليها تأثيرًا بالغًا على النظم البيئية والنباتات والحيوانات، مما قد يخلف آثارًا طويلة المدى على استعادة الحياة البرية، إذ إن أحد الاتجاهات المقلقة هو تراجع تنوع الأنواع البيولوجية داخل المناطق المتضررة من الحرائق.

عرقلة جهود القوات الأمنية: تعرقل النيران من جهود القوات الأمنية؛ إذ أن النار والدخان المصاحب لها، قد يربكان القوات الأمنية المنوط بها التعامل مع الحادث، ويمنعان الوصول إلى الهدف، ما يزيد من عدد الضحايا.

فعلى سبيل المثال، قامت عناصر تنظيم “داعش” خلال اللحظات الأولى لهجومهم على سجن “الصناعة” في مدينة “الحسكة” شمال شرقي سوريا، الذي يضم الآلاف من عناصر التنظيم في يناير 2022 بتفجير واحراق صهاريج نفط في شركة “سادكوب” قرب السجن، بهدف خلق سحب دخانية في المنطقة لمنع طيران التحالف الدولي من التدخل في المعركة، وهذا ما تسبب بإطالة امد المعركة، حيث استمرت قرابة تسعة أيام.

مجمل القول، يمزج توظيف التنظيمات الإرهابية لتكتيك الحرق العمد بين الأبعاد العقائدية والإعلامية، حيث ينطلق من قناعات أيديولوجية، وفي الوقت ذاته يهدف إلى تحقيق بروباجندا دعائية، ما يجعله يحمل تداعيات واسعة على أمن المجتمعات؛ الأمر الذي يقتضي الفهم المعمق للتكتيكات منخفضة التكلفة التي تستخدمها تلك التنظيمات في تحقيق أهدافها، من أجل الوقوف على كافة الأبعاد التقليدية وغير التقليدية للظاهرة الإرهابية.

 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الكاتب : تقى النجار

التاريخ : 31/7/2025

----------------------------------------------------------

المصدر: النهار العربي 

الكاتب : عبدالله سليمان علي

التاريخ : 6/7/2025

المقالات الأخيرة