دوافع وتحديات زيادة الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو
فرع بنغازي

لم يستمر الارتباط الذى ظهر بين الاتحاد السوفيتى والكتلة الغربية مع اندلاع الحرب العالمية الثانية طويلا، فبمجرد زوال الخطر الألماني، بدأت الخلافات الأيديولوجية المتجذرة بين الكتلتين تظهر على السطح، معلنة بداية سباق تسلح غير مسبوق هيمن على الساحة الدولية لمدة تقترب من نصف القرن، حيث تأسس حلف الناتو فى سياق الحرب الباردة عام 1949 بهدف مواجهة الاتحاد السوفيتي، فى المقابل أنشأ الأخير حلف وارسو، ليبدأ سباق التسلح هذا، الذى اقترن بتعزيز القدرات النووية لدى الطرفين ما عرف "بتوازن الرعب". بيد أن إستراتيجية الناتو التي أنشئ من أجلها كان قد ورد عليها تغيرات جذرية عقب سقوط جدار برلين.

انحراف الناتو عن مساره التاريخي:

اعتقد الكثير من العسكريين أن الحروب التقليدية بين قوات نظامية قد زالت بزوال الاتحاد السوفيتي، وعززت تلك الفرضية هجمات الحادي عشر من سبتمبر، إذ تبين لدى البعض أن التحديات القادمة تكمن فى مواجهة الإرهاب، هذا بالضرورة لا يستدعى بناء جيوش تقليدية تستنزف مليارات الدولارات. فى هذا الصدد رأت أوروبا أن هذا السياق لا يتطلب غير بناء جيش صغير ذكى قادر على مواجهة تلك التحديات.

فى هذا السياق فسر جورج فريدمان هذا الاعتقاد خلال تقرير على موقع "ستراتفورد". فى سببين رئيسيين، فمن جانب أول أن العسكريين ما أن يدخلوا فى حرب إلا ويظنون أنها الأخيرة، حيث كان من الصعب خلال حقبة الحرب العالمية أن يتصورا شكل الحروب التى سيشهدها العالم وقت الحرب الباردة على سبيل المثال. ومن جانب آخر، أن تحول شكل الصراع من حروب تدور بين دول قومية إلى حرب بين دولة وفاعلين من دون الدول، يرجع إلى أنه خلال العقدين الماضيين لم يكن هناك قوة عالمية قادرة على تحدى الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين بشكل مباشر، لكن بكل تأكيد أنه فى المستقبل سيكون هناك قوة قادرة على تحدى الكتلة الغربية نتيجة اختلاف المصالح.

وضع الناتو الراهن:

ذكر تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن عام 2024 شهد أكبر زيادة في الإنفاق العالمي منذ الحربالباردة بقيمة بلغت 2.7 تريليون دولار، كان نصيب أوروبامن هذا الرقم 693 مليار دولار بنسبة 17%من الإنفاقالعالمي، وكان نصيب ألمانيا من هذا الرقم 88.5 مليار دولاربزيادة قدرها 28% على عام 2023، لتصبح برلين لأول مرةمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية صاحبة أعلى إنفاق عسكرىفى غرب ووسط أوروبا، وفى المقابل أنفقت الولايات المتحدة997مليار دولار بنسبة 37%من الإنفاق العالمي، و66% منإنفاق حلف الناتووقد شهد عام 2024 زيادة عدد الدولالأعضاء التى تلتزم بإنفاق بما يزيد على 2% من الناتجالمحلى الإجمالى إلى 23 من أصل 32 دولةيعزى البعضهذا التحول إلى انتقادات ترامب القاسية للحلف خلال ولايتهالأولى، وتلويحه فى أكثر من مناسبة عن نيته فى الانسحابمن الحلف الذى يشكل عبئا اقتصاديا على بلاده.

وصف ترامب الناتو بأنها مؤسسة عفا عليها الزمن، كما أنه طالما شدد على ضرورة التزام الأعضاء بالنسبة التي أقرت عام 2006 خلال اجتماع وزراء دفاع الناتو، والتي أكدتعليها قمة ويلز عام 2014، حيث لا يمكن أن تتحمل الولاياتالمتحدة وحدها 70%، من الإنفاق الدفاعي في الوقت الذي كانت تنعم فيه أوروبا بتنمية اقتصادية جزء منها نابع من الاعتماد على الغاز الروسى الرخيص، وترك مهمة الدفاع على كاهل واشنطن وحدها.

يمكن القول إن هذا التحول فى سياسة بروكسل الدفاعية نابع من إدراك أنهم استغرقوا طيلة ما يزيد على ثلاثة عقود فى الاعتماد المفرط على واشنطن فى هذا الشأن، ظنا منهم فى صلابة هذا التحالف، بيد أن فترة ترامب الأولى أوضحت أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة يمكن أن تتحول بين ليلة وضحاها وفقا للرئيس المنتخب، من ثم انضم مزيد من الأصوات إلى جانب باريس التى طالما دعت إلى عدم الاعتماد بشكل شبه كامل على واشنطن فى هذا الشأن.

مخرجات اجتماع أنطاليا:

بالتزامن مع قمة اسطنبول بين روسيا وأوكرانيا، عقد وزراء خارجية الناتو اجتماعا غير رسمى فى أنطاليا تمهيدا لقمة لاهاى المقرر إقامتها يومى 24 و25يونيوخلال الاجتماعصرح الأمين العام للحلف "مارك روتة": "علينا التأكد من أننا ننفق القدر الكافى من الأموال للحفاظ على سلامتنا"، وأضاف " أن هذه الأموال ضرورية لحماية التحالف من مخاطر مختلفة من بينها روسيا والحشد العسكرى فى الصين والإرهاب". وقد أعلن أيضا وزير الخارجية الألمانى"فودفاولتأييد بلاده للمطالبات الأمريكية بزيادة الإنفاق الدفاعى من جانب دول الحلف إلى ما يزيد على 5%.

وقد استقر الاجتماع على أن بحلول عام 2033 ستكون كلدولة تنفق كحد أدنى 5% مقسمة إلى نسبة 5.3%إنفاقعسكرى مباشر على القوات والأسلحة والتدريب، و5.1%فى مجالات البنية التحتية من أمن سيبرانى، ونقل عسكرى، وخطوط إمداد، وموانئ. فى هذا السياق يتم تشكيل فرق عمل لدراسة الجدول الزمني، وآليات التطبيق. رغم ذلك لم يتم التصديق على هذه الأرقام خلال الاجتماع، بينما اتفقوا على منح هذا الملف الأولوية خلال قمة لاهاي. ويأتى هذا التحرك من الجانب الأوروبى نتيجة اتباع إدارة ترامب سياسة ضغط عليهم تهدف إلى تخفيف الأعباء الاقتصادية التى تتكبدها الولايات المتحدة فى الدفاع عن القارة الأوروبية.

وقد صرح ترامب فى يناير 2025 بأن دول الحلف عليها أنيتجاوز إنفاقها 5%من ناتجها المحلي، وفى أثناء اجتماعأنطاليا أشار وزير الخارجية ماركو روبيو خلال لقائه عبرفضائية فوكس نيوز على أن جميع دول الحلف ستنفق مايزيد على 2%، وأن بعض الدول سيزيد إنفاقها على 4%،علاوة على أن الجميع سيكونون قد وافقوا على إنفاق 5%خلال العقد المقبل.

عقبات تعترض مستقبل الحلف:

إن العقبات التي تعترض حلف الناتو فى اللحظة الراهنة تجتاز مجرد الحديث أو التنسيق بشأن رفع المساهمة الدفاعية بين الأعضاء. بل يلوح فى الأفق اختلاف واضح بين رؤية واشنطن وأوروبا القارية بالأساس حول مهددات الأمن القومي، فبينما يسود داخل دائرة صنع القرار الأمريكى رؤية أن الصين هى الدولة القادرة على زعزعة عرش الولايات المتحدة وأن روسيا ليست إلا دولة تحاول العبث بالنظام العالمى القائم ، تجد أوروبا إن روسيا المهدد الرئيسى لأمنها القومي، من هنا يتولد اختلاف فى أولويات كلا الطرفين، وقد بدأ ذلك جليا عقب تولى دونالد ترامب فترته الرئاسية الحالية ورغبته فى إنهاء الصراع بين روسيا وأوكرانيا بشكل متسرع عن طريق تقديم تنازلات لموسكو دون مقابل فى سبيل التفرغ لمجابهة الصين، ذلك دون أدنى اعتبار لصالح الحلفاء الغربيين، وما لذلك من تداعيات على الأمن القومى الأوروبي، لاسيما بعدما تم استبعادهم من مفاوضات السلام، علاوة على عدم إبداء ترامب اعتراضا على رغبة بوتين فى نيل الاعتراف الدولى بالأقاليم الغربية التى تم الاستيلاء عليها. دون أدنى شك أن ذلك سيؤسس لنهج تغيير الحدود داخل القارة عن طريق قوة السلاح، وهو الأمر الذى ظن الأوروبيون أنه قد انتهى لغير رجعة بزوال الحرب العالمية الثانية.

على الرغم من أن الحلف كان له هدف رئيسى يكمن فى رفع مستوى الاندماج بين أعضائه إلا أنه لا يمكن التغاضى عن عدم الثقة بين القوتين الأكبر داخل أوروبا القارية (ألمانيا، وفرنسا)، خاصة بعد تنامى نفوذ التيارات اليمينية داخل برلين، وإعادة إحياء النزعة القومية. بالإضافة لذلك لا يمكن الوثوق فى أن تشمل المظلة النووية للدول الثلاث (بريطانيا، والولايات المتحدة، وفرنسا) غيرها من دول الحلف فى حال وقوع تهديد نووى عليها.

 

ختاما:

تأسس الناتو فى سياق الحرب الباردة وسط بيئة مشحونة بين الكتلتين الغربية والشرقية وكان له غايتان الأولى، مقاومة التوسع السوفيتى والأخرى، إرساء التقارب بين دوله الغربية التى أنهكتها الحروب، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى دخل الحلف فى مرحلة مختلفة اتسمت بالترهل والتقاعس عن القيام بواجبات أعضائه الدفاعية التى اعتادوا القيام بها، وربما استيلاء روسيا على القرم ثم الأزمة الروسية-الأوكرانية عام 2022 هو ما أفاق الحلف من سباته الذى استمر لمايقرب من ثلاثة عقود.

فى هذا السياق يتضح أن استعادة قوة ردع الناتو، لمستوى يضاهى ما كان عليه قبل انتهاء الحرب الباردة حلم بعيد المنال، ذلك نتيجة زوال الرؤية الموحدة بين الأعضاء، ناهيك عن الريبة وغياب الثقة فيما بينهم. كل ذلك يجعل من زيادة الدعم المالى الموجه للحلف أمرا ثانويا ما لم يتم حل أوجه الخلاف الهيكلية التى تعترض المستقبل.



المراجع:

أحمد عزمى عبد الوهاب، 21.5.2025، دوافع وتحديات زيادة الإنفاق الدفاعى لحلف الناتو، السياسة الدولية.

سارة آيت خرصة،24.6.2025، هل ينقذ الإنفاق الدفاعي وحدة صف الحلفاء في الناتو؟، الجزيرة نت.

المقالات الأخيرة