حكومة سودانية “موازية”
فرع القاهرة

في خضم تطورات ميدانية وسياسية متسارعة، أعلن تحالف السودان التأسيسي “تأسيس” رسميًا في 26 يوليو 2025، عن تشكيل الحكومة الموازية التي أطلق عليها حكومة “السلام الانتقالية”؛ حيث أفاد المتحدث باسم الهيئة القيادية للتحالف “علاء الدين نقد” من مدينة نيالا عاصمة جنوب دارفور، باكتمال تشكيل المجلس الرئاسي للتحالف برئاسة “حميدتي”، وعبد العزيز الحلو، نائبًا له، بجانب عددٍ من الشخصيات البارزة كأعضاء في المجلس الرئاسي الذي يتألف من خمسة عشر عضوًا. بجانب ذلك، تم تعيين “محمد حسن التعايشي” رئيسًا للوزراء، وتعيين عددٍ من الشخصيات في مناصب حكام الأقاليم والولايات.

يمكن تفكيك دلالات إعلان الحكومة الموازية من مدينة نيالا، وطبيعة وشكل الاختيارات في هيكلها التنفيذي إلى مجموعة من النقاط الأساسية في مقدمتها؛ مجيء اختيار مدينة نيالا لإعلان الحكومة الموازية، لترسيخ حقيقة أن الحكومة تنطلق من قاعدة إقليمية وحاضنة سياسية ومعقل استراتيجي لمليشيا الدعم السريع في الهامش السوداني، بعيدًا عن مركز السلطة التقليدي في العاصمة الخرطوم والمنطقة النيلية. كما شمل الإعلان المجلس الرئاسي، ورئاسة الوزراء، وتعيينات رئيسية لحكام الأقاليم والولايات، في محاولة لإضفاء طابع تمثيلي على نطاق أوسع، وجاء تعيين “التعايشي” في منصب رئيس الوزراء، في محاولة واضحة لاستقطاب شخصيات من مرحلة الانتقال الديمقراطي السابقة من أجل تعزيز شرعية الحكومة الجديدة.

بالتالي، تظهر التفاصيل الدقيقة للهيكل الحكومي والأساس الدستوري الذي تستند إليه، تحولًا محسوبًا في استراتيجية الدعم السريع، ومحاولة لإضفاء شرعية على تحركاتها وإعادة ترتيب أوراقها السياسية والعسكرية، فضلًا عن التشويش على الحكومة الانتقالية الشرعية في بورتسودان، والأهم من ذلك، تمرير أجندة لتقسيم البلاد سياسيًا وجهويًا، وتحويل السودان إلى كيانات إدارية متنازعة، بدلًا من دولة موحدة ذات سيادة، وفي سردية تحالف “تأسيس”، لا تعتبر الحكومة الموازية بديلًا مؤقتًا أو محاولة لتقاسم السلطة، بل تُمثل خطوة تأسيسية لإعادة تشكيل الدولة وفق رؤية مختلفة، ومن ضمن شعاراتها “إسقاط دولة 56”.

على الرغم من خطوة إعلان الحكومة الموازية التي جاءت بعد أكثر من 5 أشهر من انطلاق تحالف “تأسيس” بتوقيع الميثاق السياسي بنيروبي في فبراير 2025، تحت شعار “السلام والوحدة”، تظل هناك مجموعة من التساؤلات الجوهرية؛ حول التوازنات الداخلية في الحكومة الموازية، والعلاقات البينية التي تربط بين أطرافها، وما ردود الفعل المحلية والإقليمية والدولية على هذه الخطوة، وما تداعياتها على مستقبل السودان، ويمكن توضيح وتفصيل ذلك على النحو التالي:

 

 

التوازنات الداخلية في الحكومة الموازية

يعتبر تحالف “تأسيس” خليطًا من الكيانات السياسية والعسكرية والمدنية غير المتجانسة؛ حيث تشكل الدعم السريع بقيادة حميدتي، والحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال بقيادة “عبد العزيز الحلو”، العمود الفقري العسكري للتحالف. أما الفصائل السياسية، فيضم التحالف تيارات منشقة عن أحزاب تقليدية كبرى مثل حزب الأمة القومي  تيار “فضل الله برمة ناصر”، والحزب الاتحادي الديمقراطي تيار منشق بقيادة “إبراهيم الميرغني”، بالإضافة إلى الجبهة الثورية بقيادة “الهادي إدريس”. بجانب ذلك، يشمل التحالف مجموعات من المجتمع المدني، وإدارات أهلية، وشخصيات مستقلة.

ويواجه تحالف “تأسيس” خلافات داخلية حادة عرقلت تشكيل الحكومة الموازية التي تم الإعلان عنها مؤخرًا؛ حيث تفجرت التباينات بين مكوناته، خاصة حركة جيش تحرير السودان  المجلس الانتقالي بقيادة “الهادي إدريس”، وتجمع قوى تحرير السودان بقيادة “الطاهر حجر”، بشأن توزيع المناصب داخل الحكومة الموازية. كما انفجرت الخلافات حول منصب رئيس الوزراء؛ حيث رفضت الحركات المسلحة منح المنصب للحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة “عبد العزيز الحلو”، رغم توافقها السابق على “حميدتي” رئاسة المجلس الرئاسي، وهددت الحركة الشعبية بالانسحاب من التحالف إذا لم تُمنح الموقع التنفيذي الأول؛ مما كشف عن هشاشة التفاهمات داخل تحالف “تأسيس”، وأدت هذه الخلافات إلى تأجيل الإعلان عن الحكومة الموازية خلال هذه الفترة القليلة الماضية.

وتعكس هذه التباينات هشاشة التحالفات المؤقتة المبنية على التوازنات العسكرية والسياسية، ويغلب على الفصائل المنضوية في تحالف “تأسيس”، غياب الرؤية الموحدة، في ظل الانقسامات الحادة بين مكوناته، ويظهر ذلك جليًا في التباينات بين الحركة الشعبية لتحرير السودان  شمال، وبعض الحركات الدارفورية مثل جيش تحرير السودان بقيادة “الهادي إدريس”، وتجمع قوى تحرير السودان بقيادة “الطاهر حجر”، ويعكس هذا التباين تنافسًا على السلطة والمناصب بما يرسخ منطق الغنائم والمحاصصة بدلًا من التأسيس لمشروع دولة، وعدم توافقها على مبادئ وطنية أو تصور مشترك للمستقبل. 

بالإضافة إلى ذلك، تظل العلاقة بين الدعم السريع والحركة الشعبية  شمال، علاقة تكتيكية أكثر منها استراتيجية، وتفتقر إلى الانسجام الميداني؛ مما يخلق احتمالية تفجر صراعات عسكرية داخل هذا التحالف في المستقبل، في ظل افتقار هذه المجموعات لهياكل تنظيمية واضحة. كما تظهر بوادر خلافات أخرى؛ حيث حذرت حركة تمازج من تهميشها في الحكومة الجديدة.

بالتالي، يعتبر تحالف “تأسيس” ائتلاف مصلحة توحده مواجهة عدو مشترك متمثل في القوات المسلحة السودانية ومؤسسة “السودان القديم” أكثر مما توحده رؤية حقيقية ومستدامة؛ مما يجعله هشًا بطبيعته وعرضة للانهيار السريع، وقد يؤدي وجود مكونات في التحالف ذات مصالح تاريخية متباينة مثل أجندة الحكم الذاتي العلماني للحركة الشعبية شمال، وأهداف الدعم السريع القائمة على السلطة والموارد، إلى صراعات داخلية حول تقاسم السلطة والاستراتيجية، كما يتضح من التأجيلات والتهديدات بالانسحاب.

ردود الفعل المحلية والإقليمية والدولية

واجه إعلان الحكومة الموازية رفضًا شديدًا من الحكومة السودانية؛ حيث اعتبرتها الخارجية السودانية حكومة وهمية لتوزيع مناصب لإدارة السودان، وطالبت بعدم الاعتراف بها وحذرت الدول من التعامل معها. كما أثار الإعلان مجموعة من ردود الفعل الداخلية والإقليمية والدولية، وسط تحذيرات من تداعيات هذه الخطوة على مستقبل السودان، ووحدة ترابه، واستقرار شعبه، ومخاطر التحول إلى كانتونات متناحرة.

كما ظهر رفض واسع من قبل القوى السياسية؛ فاعتبرت قوى الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية، الحكومة الموازية “واجهة إسفيرية” هشة لتبرير جرائم التمرد المسلح، وللتغطية على الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق الشعب السوداني. فيما انتقد مجلس الصحوة الثوري السوداني هذه الخطوة، واعتبرها محاولة بائسة من الدعم السريع للضغط على الحكومة السودانية بعد فشلها في الاستيلاء على السلطة بالقوة. فيما قالت المجموعة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات: إن تشكيل الحكومة الموازية، يُمثل انتهاكًا لقواعد تأسيس الدولة السودانية.

وتُشير المواقف السياسية إلى إجماع وطني واسع ضد أي محاولات لتقسيم السلطة في السودان بين قوتين متنازعتين، وتؤكد القوى السياسية أن الحل لا يكمن في تشكيل حكومات موازية، بل في وقف الحرب بشكل فوري، والدخول في عملية سياسية شاملة تستهدف استعادة الشرعية الدستورية والحفاظ على وحدة البلاد. حيث اعتبر الحزب الشيوعي الحكومة الموازية ورقة ضغط سياسية في أي مفاوضات مقبلة. كما أشار حزب المؤتمر السوداني إلى أن إعلان حكومة الدعم السريع يكرّس سباقًا نحو سلطات متنازعة يُهدد وحدة السودان ويُغذّي الانقسام. من جهته، اعتبر حزب البعث العربي الاشتراكي الأصل، أن إعلان الحكومة الموازية يندرج ضمن مخطط لتبادل الأدوار بين المعسكرين المتصارعين؛ مما يُطيل أمد الحرب. فيما حذر رئيس المكتب التنفيذي للتجمع الاتحادي “بابكر فيصل” من تداعيات وجود حكومتين متوازيتين، بما يهدد وحدة السودان. كما أكدت الحركة الشعبي التيار الثوري الديمقراطي، أن وجود حكومتين متنازعتين، يعيق التحول الديمقراطي ويُضعف سيادة الدولة. فيما أفاد التجمع الاتحادي- الأمانة العامة، بأن إعلان الحكومة الموازية جاء بضغوط خارجية. كما أوضح حزب الأمة القومي أن إعلان حكومة تأسيس، يمثل تطورًا بالغ الخطورة وينذر بمآلات كارثية على وحدة وسلامة البلاد.

أما على المستوى الإقليمي والقاري والدولي، جددت السعودية وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي وإريتريا والسنغال، رفضهم تشكيل حكومة موازية في السودان، مع اعتبار هذه الخطوة محاولة لفرض واقع بالقوة. كما أعربت الأمم المتحدة عن قلقها الشديد ورفضها لأي خطوات من شأنها أن تؤدي إلى تقسيم السودان أو تقويض وحدته وسيادته، وهو ما أعلنته الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة “إيجاد” والولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج ودول أخرى بعد إعلان ميثاق نيروبي، أنها لن تعترف بحكومة في مناطق الدعم السريع، وعدّتها خطوة لتمزيق البلاد، مع التأكيد على أن أي محاولة لتشكيل أجسام بديلة أو موازية خارج إطار التوافق السوداني مرفوضة.

وتعتمد هذه المواقف على عدة محاذير ومخاوف؛ حيث ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن تشكيل حكومة موازية تعرقل محاولات تحقيق السلام وتزيد من تعقيد الأزمة. كما تخشى أن تصبح سابقة قد تتكرر في دول أخرى تعاني من هشاشة سياسية مثل إثيوبيا وإريتريا. فيما تخشى الدول الأوروبية أن تؤدي الحكومة الموازية إلى إطالة أمد الحرب؛ مما يزيد من موجات اللجوء نحو أوروبا. فيما ترفض إريتريا وتشاد الحكومة الموازية لأنها تراها خطوة قد تؤدي إلى تفتيت السودان وتزيد الاضطرابات على حدودها المباشرة.

التحديات التي تواجه الحكومة الموازية

ثمة تحديات ماثلة أمام الحكومة الموازية أبرزها؛ المشكلات الإثنية والعرقية وحجم التناقضات وتحديدًا من المكونات الاجتماعية الأصلية في دارفور ضد الحكومة الموازية مثل قبائل المساليت في الجنينة بغرب دارفور، والقوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح التي تقاتل جنبًا إلى جنب الجيش السوداني، بجانب تحفظ مجموعات قبلية أخرى على قيام حكومة منفصلة مكونها الأساسي القبلي ينتمي للدعم السريع. بالتالي، ستعمل هذه التحديات على استنزاف الحكومة في ظل استمرار الحرب مع صعوبة إيجاد قبول دولي كما حدث وقت إعلان نيروبي بعدم ترحيب من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وعدد من الدول العربية ودول الجوار.

بالإضافة إلى ذلك، عدم وجود دعم شعبي أو حاضنة مدنية وسياسية حقيقية؛ إذ تعتبر المكونات المنضوية في تحالف “تأسيس”، شظايا من جماعات متمردة لا تمتلك التأثير في الأرض، والدعم السريع نفسه لا يمتلك سيطرة جغرافية مستدامة من أجل ممارسة سلطة الدولة، في ظل التقدم الميداني المستمر من قبل الجيش السوداني في مناطق واسعة من البلاد؛ مما يضعف من قدرة الحكومة الموازية على ترسيخ نفسها ككيان حقيقي. بجانب ذلك، يفتقر تحالف “تأسيس” إلى القاعدة الجماهيرية؛ حيث يعتبره الشعب السوداني جزءًا من الصراع الدائر. كما تفتقد القوى الداعمة للحكومة الموازية إلى الامتدادات المجتمعية الصلبة التي تجعلها غير قادرة على استقطاب تأييد شعبي واسع. كما تفتقر المكونات السياسية للحكومة الموازية إلى التأثير الحقيقي، وتعتمد بشكل أساسي على الدعم العسكري لمليشيا الدعم السريع دون امتلاك رؤية سياسية واضحة لكيفية إدارة الدولة.

علاوة على ذلك، يبرز تحدي الشرعية والاعتراف بالحكومة الموازية؛ حيث يفتقر “حميدتي” إلى الشرعية كقائد وطني بسبب تاريخ الدعم السريع في ارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي وانتهاكات لحقوق الإنسان ويشكل الدعم السريع خطرًا على دول جوار السودان وفي مقدمتها تشاد، ولا سيما أن الدعم السريع يتكون من مجموعات إثنية تمتد إلى خارج حدود البلاد، ولذلك تخشى تلك الدول من انتقال أطماع الدعم السريع والصراع إلى داخل أراضيها، مع إدراك مخاطر التمرد المسلح. بجانب ذلك، العقوبات الدولية المفروضة على “حميدتي”، والمعارضة الواسعة من القوى السياسية التي تعتبر هذه الخطوة خدمة للمصالح العسكرية على حساب الأهداف الثورية والمدنية بشكل أوسع.

حاصل ما تقدم، يكرس إعلان الحكومة الموازية خطر الانقسام السياسي والتشظي الجغرافي في السودان؛ مما يشكل دافعًا إضافيًا لكي تتوحد القوى الوطنية حول حل سياسي شامل يحافظ على وحدة الدولة السودانية وسلامتها الإقليمية، خاصة في ظل المواقف الداخلية والخارجية التي جاءت النسبة الغالبة منها رافضة لهذا الإعلان.


 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجة

الكاتب : نسرين الصباحى

التاريخ : 7/8/2025

---------------------------------------------------------------

المصدر: موقع فيتو

الكاتب : محمد ابو المجد

التاريخ : 6/8/2025

المقالات الأخيرة