لا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بسرقة الأرض والتاريخ والذاكرة وحكايات الفلسطينيين، بل ينهب كل ما يمكن نهبه: أجسادهم وأعضاءهم، أموالهم ومدخراتهم، مجوهراتهم وأجهزتهم وحتى قروش أطفالهم هذه ليست مبالغة، بل واقع موثق منذ عقود، تصاعد بشكل صارخ خلال الحرب على غزة وبعدها.
كيف تحولت السرقات والنهب إلى ممارسة منهجية لدى الجنود والمستوطنين الإسرائيليين قبل الحرب الأخيرة وخلالها، فبحسب وثائق تاريخية تبين أن النهب رافق المشروع الصهيوني منذ بداياته، وأن تجاهل تلك الجرائم أو تبريرها يندرج ضمن سياسة أوسع لاقتلاع الشعب الفلسطيني وسلب حقوقه.
سرقات يومية تحت حراب الاحتلال
في الضفة الغربية المحتلة، اعتاد الفلسطينيون على مشهد الاقتحامات الليلية لبيوتهم على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، وغالباً ما يعقب تلك الاقتحامات اختفاء أموال أو مقتنيات ثمينة تروي عائلات فلسطينية قصصاً شبه يومية عن فقدان ممتلكاتهم بعد مداهمات الجيش؛ من نقود وذهب ومجوهرات إلى الهواتف والحواسيب وحتى السيارات.
وكثيراً ما لا يعيد الاحتلال ما يصادره ولا يقدم إيصالاً يوثق "المصادرة"، مما يترك الفلسطينيين على يقين بأن ما جرى هو سرقة صريحة لا إجراءات أمنية في بعض الحالات، يُصدر الجنود ورقةً بالمضبوطات للمظهر الشكلي فقط لكن فعلياً لا يتم إرجاعها أبداً.
ولا تقف السرقات عند حدود الحالات الفردية، إذ شهدت بعض البلدات حملات نهب جماعي ففي يوم واحد اجتاح الجنود بلدة يعبد قرب جنين، ووفق توثيق مجلسها البلدي، تعرض أكثر من مئة منزل للسرقة أبلغ عشرات السكان عن اختفاء مبالغ نقدية ومصاغ ذهبي وهواتف وحواسيب وساعات وحتى هدايا الأطفال. إحدى الشكاوى أفادت بأن الجنود حطموا حصالات الأطفال وأخذوا ما بداخلها من نقود صغيرة مشهد يجسد حرفياً سرقة "مدخرات الأطفال" التي يذكرها الفلسطينيون بأسى.
من الصعب حصر عدد حوادث السرقة أو تقدير قيمة الأموال والممتلكات المصادرة، في ظل غياب المتابعة القانونية والحقوقية، وامتناع كثير من الفلسطينيين عن التبليغ إدراكاً منهم أن الجنود لن يُحاسبوا وأن المسروقات لن تعود إليهم.
تلجأ سلطات الاحتلال إلى التلاعب بالألفاظ لتبرير سرقة ممتلكات الفلسطينيين فحين استولى الجنود على 50 ألف شيكل من منازل في بلدة الزاوية قضاء سلفيت عام 2020، زعم الجيش أنها "أموال مصادَرة" لدعم الإرهاب.
وتكرر هذا الادعاء مئات المرات كغطاء لأخذ النقود خلال الاقتحامات الليلية تقول منظمات حقوقية إن الجنود نادراً ما يُتهمون بالسرقة بسبب هذه الذريعة، حتى مع تكرار الشكاوى عن جيوبهم المنتفخة بالأموال بعد كل مداهمة وعلى أرض الواقع، يوثق الفلسطينيون كيف يضع الجنود أموالهم الخاصة في الجيوب بلا حسيب ولا رقيب.
فعلى سبيل المثال، في ديسمبر 2019، اقتحمت قوة عسكرية منزل عائلة محمد ريان في بلدة يعبد بجنين مستخدمة الكلاب البوليسية لتعيث فيه خراباً، وبعد انسحابها اكتشفت العائلة سرقة مبالغ مالية ومصاغ ذهبي من المنزل لم يتم اعتقال أي شخص في تلك المداهمة؛ كان الهدف الواضح هو السلب والنهب تحت ستار التفتيش الأمني.
تسمح الأوامر العسكرية للاحتلال للجنود بسرقة ممتلكات الفلسطينيين دون أي دليل على ارتكاب جريمة.
ومنذ شن حرب الإبادة على غزة، ازدادت التقارير عن عمليات السرقة الرسمية المصحوبة بـ"إيصالات" في الضفة، وكذلك عن اختفاء مقتنيات ثمينة وأموال نقدية أثناء اقتحام الجنود للمنازل وقد انتقلت عقلية "كل شيء مسموح به" و"الجميع إرهابي" من غزة إلى الضفة الغربية، وفقاً لمنظمتي "يش دين" و"كسر الصمت".
سرقة المقتنيات والذهب خلال حرب الإبادة على غزة
على امتداد حرب الإبادة في غزة، وثقت منظمات حقوقية وتقارير صحفية دولية وإسرائيلية نمطاً ممنهجاً لقيام جنود الاحتلال بسرقة مقتنيات وأموال ومجوهرات من منازل الفلسطينيين فبينما يوثق الجنود جرائم القتل والدمار التي يرتكبونها، كانوا يوثقون جرائم حرب أخرى، لكنها لم تحظَ باهتمام وإدانة واسعين رغم شيوعها: النهب.
تقرير لمجلة +972 قدم شهادات لجنود إسرائيليين تصف كيف تحول ما يُعرف بـ"التعفيش" إلى ممارسة روتينية موازية للقتل، شملت سرقة ساعات، وأجهزة كهربائية، ودراجات نارية وهوائية وأكواب، وحتى أغراض الأطفال والملاعق بل إن بعض هذه المسروقات أُرسلت كهدايا إلى داخل إسرائيل، في مجموعة على الفيسبوك للنساء الإسرائيليات، تضم ما يقارب 100 ألف مستخدمة تساءلت إحداهن عن كيفية التعامل مع "هدايا غزة" التي أحضرها لها شريكها، الجندي شاركت صورة لمنتجات تجميل، وكتبت: "كل شيء مغلف باستثناء منتج واحد هل ستستخدمين هذه المنتجات؟ وهل يعرفها أحد أم أنها متوفرة فقط في غزة؟"
ويبدو أن عملية النهب لممتلكات الفلسطينيين لم تكن جديدة أو سراً؛ فقد وثقتها علناً قناة "كان 11" العبرية، وكتب عنها الصحفي نحوم برنياع في يديعوت أحرونوت كما نشرت صحيفة هآرتس مقالاً نقلت فيه عن جنود كيف كانوا "يطبخون" في منازل الفلسطينيين باستخدام ما وجدوه في المطابخ، حيث قال أحدهم: "المطبخ الغزي، مما رأيناه، مليء بالتوابل".
وبحسب صحيفة L'Orient Today، نقلاً عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، بلغت قيمة المسروقات من ذهب، وأموال، ومقتنيات ثمينة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب نحو 25 مليون دولار وأوردت الصحيفة مقطع فيديو عن جندي إسرائيلي في غزة وهو يفتح صندوق مجوهرات داخل منزل فلسطيني ويضع الخواتم في جيبه.
جدير بالذكر أن النهب لا يمكن إحالته كحالات فردية لجنود الاحتلال؛ إذ توجد في الجيش الإسرائيلي وحدة خاصة مكلفة بـ"مصادرة" الأموال والممتلكات التي يُعثر عليها في ساحة المعركة. وحتى الآن، أقر الجيش بمصادرة عشرات ملايين الشواكل من غزة بزعم أنها تابعة لحركة حماس.
وبحسب شهادات الجنود، يتضح أن النهب لم يكن فعلاً فردياً أو سرياً، فبحسب شهادتهم، إن بعض قادتهم شاركوا فيه فعلى لسان أحد الجنود، وزع رقيب أول في السرية كتباً لتعليم القرآن الكريم كان قد استولى عليها، وأعطاها لمن يرغب. وفي حادثة أخرى، أخذ جندي طقم فناجين قهوة وصينية تقديم وإبريقاً، بينما أحضرت وحدة أخرى دراجة نارية شبيهة بدراجات القوات الخاصة التابعة لحماس، وأعلن أحد الجنود أنها أصبحت ملكه، متحدثاً عن خططه لـ"تجديدها".
لم تقتصر السرقة على مقتنيات منازل الغزيين فقط بل امتدت لتشمل نهب ما تبقى منها في المناطق التي اجتاحتها القوات الإسرائيلية، اتهم العديد من النشطاء إسرائيل بنقل كميات ضخمة من ركام المنازل من حجارة الأسمنت وحديد التسليح عبر شاحنات وجرافات إسرائيلية إلى داخل إسرائيل، وأشاروا إلى أن هذه المواد يُعاد معالجتها وبيعها لشركات مقاولات، ليتحول أثر البيت الفلسطيني المهدَّم إلى مورد اقتصادي لجيش الاحتلال ووفق صحيفة هآرتس العبرية، يتقاضى كل مقاول خاص يتعاون مع الجيش نحو 5 آلاف شيكل (قرابة 1,474 دولاراً) عن كل منزل يُهدم في القطاع.
سرقة أجساد الفلسطينيين بعد قتلها
لا يكتفي الاحتلال بقتل الفلسطينيين، بل يمتد النهب ليطال أجسادهم بعد الفتك بها فخلال حرب غزة، اختطف جيش الاحتلال عدداً غير معلوم من الجثامين من ثلاجات الموتى ومقبرة جماعية في مستشفى الشفاء والمستشفى الإندونيسي، إضافة إلى ممر النزوح على شارع صلاح الدين.
وفي 26 ديسمبر 2024، سلم الاحتلال نحو 70 جثة لشهداء من غزة وشمال القطاع، داخل أكياس بلاستيكية مكدسة في حاوية، نُقلت عبر معبر كرم أبو سالم إلى مستشفى الشهيد أبو يوسف النجار، بإشراف الصليب الأحمر
ورفض تحديد أسماء الشهداء والأماكن التي سرقها منها، وبعد معاينتها، تبين أن ملامحها متغيرة بشكل كبير في إشارة واضحة إلى سرقة الاحتلال أعضاء حيوية منها فالاحتلال تعمد إبقاء جثامين الشهداء لديه فترة طويلة، حتى تميل إلى الذوبان أو إلى الاقتراب من التحلل، وأنه "سرق أعضاءهم ثم أغلق أجسادهم وتعمد تأخير تسليم الجثامين إلى حين اهترائها".
وأشار الثوابتة إلى احتمال سرقة القرنيات والجلد وصمامات القلب والعظام، مستشهداً بحوادث سابقة لانتزاع أعضاء من أجساد أسرى استشهدوا داخل السجون.
فهذه الأفعال لم تكن وليدة حرب الإبادة، ففي يوليو 2022، اتهم رئيس الوزراء الفلسطيني آنذاك محمد اشتية، مؤكداً امتلاك الحكومة معلومات تثبت أن بعض كليات الطب في الجامعات الإسرائيلية تقوم باستخدام وسرقة جثامين الشهداء الفلسطينيين، دون معرفة مصيرهم وما يدور من كواليس في هذه الجريمة.
ويبدو أن هذه ليست اتهامات فحسب، فقد ذكرت الطبيبة الإسرائيلية مئير فايس في كتابها "على جثتهم الميتة القوة والمعرفة في المعهد الوطني للطب الشرعي" أن أعضاء أُخذت من جثامين فلسطينيين بين عامي 1996 و2002 استُخدمت في الأبحاث الطبية بالجامعات الإسرائيلية، وزُرعت في أجساد مرضى إسرائيليين.
حيث تسمح التعاليم اليهودية بزراعة الأعضاء، مع اعتبار ضرورة إنقاذ الأرواح فوق كل الوصايا الدينية الأخرى.
كما أكد أحد أطباء التشريح في مستشفى جامعة النجاح في نابلس أنه "بعد فحص بعض الجثث التي تم استلامها من الصليب الأحمر تبين وجود آثار تشريح لعدد من جثامين الشهداء".
و أن ما تم رصد سرقته من جثامين الشهداء يتجلى في قرنية العين، وقوقعة الأذن، وأعضاء حيوية أخرى كالكبد، والكلى، والقلب، وخلايا من الدماغ والنخاع الشوكي، وأنسجة جلدية سميكة من أعلى الفخذ.
يبدو أن إسرائيل لا تنكر ذلك؛ فإسرائيلياً، أصدرت المحكمة العليا عام 2019 قراراً يتيح احتجاز جثامين الشهداء، وفي 2021 تبنى بيني غانتس المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم حرب سياسة عدم تسليم جثامين منفذي العمليات، قبل أن يسن الكنيست قانوناً يمنح الجيش والشرطة الحق في الاحتفاظ برفات الفلسطينيين.
وجاء الاعتراف الأبرز من يهودا هس، المدير السابق لمعهد أبو كبير للطب الشرعي، الذي أقر بسرقة أعضاء حيوية للفلسطينيين بين الانتفاضتين، بموافقة القانون. ويؤكد حقوقيون أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تحتجز جثامين الشهداء كسياسة ممنهجة، وتُصنف ضمن أكبر مراكز تجارة الأعضاء غير القانونية في العالم.
إذ تضمن تحقيق تلفزيوني إسرائيلي مثير للجدل عام 2014 اعترافات لمسؤولين رفيعي المستوى بأن الجلد كان يؤخذ من جثامين فلسطينيين وعمال أفارقة قُتلوا، بهدف علاج إسرائيليين، بينهم جنود مصابون بحروق. وفي هذا السياق، كشف مدير بنك الجلد الإسرائيلي أن احتياطي البلاد من "الجلد البشري" بلغ 17 متراً مربعاً، وهو رقم ضخم مقارنة بعدد سكان إسرائيل.
هذه السياسة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، خلال انتفاضة الحجارة عام 1987، وتجدَّدت عام 2015 مع هبة القدس، كجزء من استراتيجية ردع وإرهاب ممنهج، لإيصال رسائل تحذيرية لمن يفكر بالقيام بأي عمليات جديدة.
لا يقتصر النهب على جنود الاحتلال؛ فالمستوطنون أيضاً لهم باع طويل في سرقة كل ما يمكن سرقته من الفلسطينيين تحت حماية السلاح والقانون الإسرائيلي. فاعتداءات المستوطنين على القرى الفلسطينية تترافق عادة مع إحراق المزروعات أو سرقة المحاصيل، وقطع أشجار الزيتون لحرمان أصحابها أو سرقة ثمارها.
سرقات منذ النكبة لم تنتهِ
من النكبة إلى اليوم: تاريخ طويل من النهب الممنهج، تُظهر الشواهد التاريخية أن سرقة ممتلكات الفلسطينيين ليست طارئة ولا مقتصرة على زمن الحرب الحالية. فخلال نكبة 1948 التي شهدت تطهيراً عرقياً واسعاً للفلسطينيين، لم تكتفِ الميليشيات الصهيونية آنذاك بطرد مئات الآلاف من السكان من ديارهم بل انخرطت على نطاق واسع في نهب كل ما خلفه اللاجئون وراءهم يصف المؤرخون تلك الفترة بأنها شهدت "سلباً ونهباً" هائل النطاق لممتلكات الفلسطينيين.
إذ سرق المستوطنون والجنود الصهاينة كل ما وقعت عليه أيديهم: أثاث المنازل، والمجوهرات والتحف الثمينة، والآلات الزراعية، والمحاصيل والمواشي، ومحتويات المخازن والمتاجر، وحتى الكتب والمكتبات الخاصة. لم يسلم أي شيء من السجاد الفارسي الفاخر إلى أواني القهوة الفضية إلى أدوات المطبخ البسيطة من أيدي الناهبين.
وثق ذلك رسائل ومذكرات صهيونية معاصرة تصف ببهجة كيف حصلوا على "غنائم" من بيوت العرب المهجورة: فساتين مطرزة، وحلي، وسجاد نفيس، وأثاث فاخر يفوق ما لدى أثرى أثرياء تل أبيب أحد الجنود كتب لزوجته عام 1948 من صفد قائلاً إنه وجد لها "فساتين عربية مطرزة جميلة وأكواب قهوة فضية رائعة وحتى سجادة فارسية جديدة لم أر مثلها قط". هذه ليست قائمة تسوق من متجر، بل قائمة نهب تفاخر بها الجندي كأنها مكسب مشروع من مدينة طالما كذب الاحتلال أنها بلا شعب.
تناول المؤرخ الإسرائيلي آدم راز في كتابه "نهب الممتلكات العربية في حرب 1948" قضية السلب الواسع الذي رافق النكبة. ورغم أن الكتاب يقدم توثيقاً مهماً وشاملاً لعمليات النهب في تلك الفترة فإنه يغفل السياق الاستعماري الأوسع، ويتجنب أي نقاش حول إنهاء الاستعمار أو عودة اللاجئين الفلسطينيين.
رغم ذلك، يقدم في تفاصيل مؤلمة، معتمداً على شهادات أصحاب العقارات الفلسطينيين المحفوظة في الأرشيفات الإسرائيلية، أن القوات الصهيونية والمستوطنين اليهود، بدلاً من الاستيلاء على أرض قاحلة مهجورة، نهبوا بعنف ووقاحة منازل الفلسطينيين المهجرين المفروشة جيداً، ومحالهم التجارية المزدحمة ومزارعهم وبساتينهم التي يرعونها بعناية.
على حد تعبير الباحث الأميركي توماس سواريز: "استولت إسرائيل على بلد سليم وجاهز منازل وممتلكات وأموال، وبساتين، ومحاجر، و10,000 فدان من مزارع الكروم، و25,000 فدان من بساتين الحمضيات و10,000 منشأة تجارية، وبساتين زيتون، وآلات" إذ يرى توماس أن لهؤلاء الغزاة كان كل شيء في متناول أيديهم.
المصدر: عربي بوست
الكاتب : أحمد إبراهيم
التاريخ : 12/8/2025
----------------------------------------------------------------
المصدر: صحيفة أخبار اليوم
الكاتب : هالة العيسوي
التاريخ : 19/6/2025