آثار سياسات ترامب الداخلية (سياسياً واقتصادياً)
فرع القاهرة

 

منذ عودته إلى البيت الأبيض مطلع عام 2025، أعاد دونالد ترامب فتح ملف التجارة العالمية عبر حزمة جديدة من التعريفات الجمركية التي استهدفت شركاء اقتصاديين كبار وصغار على حد سواء هذه الخطوة لم تكن مجرد إجراء اقتصادي تقني، بل مثلت امتدادًا لرؤية سياسية أوسع تسعى إلى إعادة صياغة العلاقة بين الداخل الأمريكي والعالم الخارجي. غير أن هذه السياسات لم تبقَ حبيسة قاعات المفاوضات التجارية بل انعكست أيضًا على الحياة اليومية للمستهلك الأمريكي، وعلى حسابات رجال الأعمال، وعلى مسارات التضخم والأسعار داخل الأسواق المحلية وبينما يراها أنصار ترامب خطوة لاستعادة “العدالة التجارية” يعتبرها منتقدوه سببًا مباشرًا لاضطراب السوق وزيادة الأعباء على الطبقات الوسطى والدنيا وفي خضم هذه التجاذبات، برزت أسئلة كبرى تتعلق بجدوى هذه السياسات، وبمدى قدرتها على تحقيق أهدافها المعلنة وبما إذا كانت ستُعيد رسم المشهد الاقتصادي والسياسي في الداخل الأمريكي لعقود قادمة.

دوافع ترامب وأهدافه 

ينطلق خطاب ترامب التجاري في ولايته الثانية من شعارات “أمريكا أولًا” المألوفة، مع تأكيداته بأن الولايات المتحدة كانت “تفرض ضرائب على مواطنيها لتغذية اقتصادات أخرى”، وأن سياسته ستقلب المعادلة، بـ “فرض رسوم وجبايات على الدول الأجنبية لإثراء مواطنينا” وفي خطاب التنصيب وعد ترامب بأن سياساته التجارية ستصب بالدرجة الأولى في مصلحة العمال والمصنّعين الأمريكيين.

كثيرًا ما استند ترامب إلى قانون توسعة التجارة (المادة 232) لتحجيم واردات التي يُنظر إليها على أنها تهديد للأمن القومي الصناعي مثال ذلك فرضه تعريفات على واردات السيارات والألمنيوم والنحاس والخشب بأنواعها بذريعة حماية الصناعات ذات الأهمية الاستراتيجية (مثل شركات السيارات الوطنية، وشركات البناء والتكنولوجيا) كما استهدف الصين بسياسات مشابهة بحجة المساعدة في مكافحة إنتاج الميثامفيتامين (الصين المنشأ) وغيرها من المسالك التي تراها واشنطن تحمل ضررًا للاقتصاد الأمريكي.

استخدم ترامب التعريفات أيضًا لمعاقبة أو تحفيز سلوكيات حكومية لدول أخرى ففي سبيل ضغطه على الهند لعدم شراء النفط الروسي، على سبيل المثال، أصدر في أغسطس 2025 أمرًا تنفيذيًا يقضي برفع تعريفات على البضائع الهندية بحجة أن الهند تستورد نفطًا روسيًا بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وفي السياق نفسه، فرض تعريفات بنسبة 40% على بعض السلع البرازيلية انتقامًا لفرض رسوم من البرازيل على صادرات أمريكية كما استُخدمت التعريفات كسلاح سياسي؛ مثل فرض رسوم على الدول التي تشتري النفط الفنزويلي لتأمين ضغط دولي على حكومة فنزويلا وأشار ترامب في مذكرات له إلى أنه سيجري موازنة العلاوات الضريبية المتبادلة مع كل دولة فيما سماه “الخطة المتبادلة العادلة” للتقليل من العجز التجاري الأمريكي.

وتُعد تجربة الولايات المتحدة مع الحمائية التجارية طويلة ومتكررة، لا تقتصر على عهد ترامب فقط، بل تُشكل جزءًا من سياسة اقتصادية متكررة منذ ما بعد الحرب الأهلية فبعد الحرب الأهلية، كانت الرسوم الجمركية المصدر الرئيسي للإيرادات الحكومية؛ إذ وصلت إلى حوالي 95% من إجمالي الإيرادات في عام 1860، مع تبني قانون موريل (Morrill Tariff) عام 1861 الذي رسّخ الاتجاه الحمائي كاستجابة عاجلة للاحتياجات المالية والحماية الصناعية شمالًا. ودام هذا النمط لأكثر من نصف قرن، إلا أن اقتصاديات ما بعد الحرب بدأت تدفع نحو تخفيف الضرائب تدريجيًا كما جرى في قانون التعرفة لعام 1872 ضمن محاولات تقليل الفائض المالي واستعادة وتيرة النمو.

وشهدت حقبة أواخر القرن التاسع عشر أعلى درجات الحمائية، خاصة مع قانون التعرفة الذي اقترحه وليام ماكينلي عام 1890، والذي فرض تعريفات ناهزت 50% على آلاف السلع لحماية الصناعة الأمريكية وتعزيز الأجور المحلية، لكنه تسبب بارتفاع أسعار المستهلكين ورفض شعبي واسع نَجم عنه خسارة الجمهوريين أغلبية الكونغرس عام 1890. قبل ذلك، حُدّثت التعريفات بقانون دينجلي (Dingley Act) عام 1897 لتعيد فرض حماية صناعية قوية بعد تخفيفات سابقة.

انتقلت الحمائية إلى ذروتها مع قانون سموت-هولي (Smoot-Hawley Tariff Act) عام 1930، الذي رفع التعريفات الجمركية بدرجة حادة على أكثر من 20 ألف سلعة في محاولة لمواجهة الكساد العظيم. لكن هذه الخطوة دفعت الدول الأخرى إلى الرد بالتعريفات المضادة؛ مما أدى إلى تراجع حاد في التجارة العالمية وتعمّق الأزمة الاقتصادية داخل الولايات المتحدة.

آثار سياسة ترامب علىالداخل الأمريكي

تسبّبت الإجراءات الجمركية الشاملة بآثار ملموسة على الأسواق الأمريكية والتضخم المحلي. تشير تقديرات عديدة إلى أن حملة التعريفات أدت إلى ارتفاع تكاليف بعض الواردات بأكثر من التوقعات الأولية. مثلًا، يقدر “معهد ييل للميزانية والدين” أن السياسات الجمركية الكاملة حتى أبريل 2025 رفعت من متوسط التعريفة الأمريكية الفعلية إلى 22.5% (أعلى مستوى منذ 1909) وترى تحليلاتهم أن جميع هذه الرسوم سترفع مستوى الأسعار في الأجل القصير بحوالي 2.3%؛ مما يوازي خسارة شرائية للمستهلك العادي قدرها نحو 3,800 دولار سنويًا (والأسر الأقل دخلًا حوالي 1,700) بتعبير آخر، فإن عبء التعريفات يقع غالبًا على المستهلكين والعمال بأشكال ضرائب ضمنية تزيد من أسعار السلع والخدمات.

على صعيد التضخم، بدأت آثار الرسوم تظهر تدريجيًا ففي الربع الأول من 2025 كان مؤشر أسعار المستهلكين (CPI) مستقرًا بحوالي 2.3% سنويًا، لكن مع دخول الصيف ارتفعت إلى نحو 2.7% في يوليو الماضي. وأظهرت بيانات يوليو 2025 تسارعًا في معدل التضخم في أسعار الواردات (مثل مستحضرات التجميل، والأحذية، والألعاب) وأيضًا في الخدمات (كالتعليم والرعاية الصحية) ويرجع ذلك جزئيًا إلى رد الفعل الأولي لفرض التعريفات الذي بدأ يظهر تدريجيًا في السلع المستوردة. ورغم تأكيد البنك المركزي أن الغالبية العظمى من التعريفات لم تُمرَّر كاملة بعد للمستهلكين حيث حاولت الشركات امتصاصها أو تغيير سلاسل التوريد، فإن هناك إجماعًا على أنها سترفع التضخم تدريجيًا وليس دفعة واحدة كبيرة.

أما تأثير التعريفات الجمركية الجديدة على النمو الاقتصادي، فإن تحليل ييل يتوقع تباطؤًا واضطرابًا. فقد يرفع طوفان الرسوم معدل تضخم مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 2.3%، بينما يتوقع انخفاض نمو الناتج المحلي الحقيقي بنحو 0.9 نقطة مئوية في 2025 أي أن اقتصاد الولايات المتحدة سينكمش، حسب هذا المتوقع، بنحو 0.6% على المدى الطويل مقارنة بالسيناريو الخاص بعدم وجود هذه الرسوم من الأساس.

من الممكن أن تلخص نتائج النماذج الاقتصادية أن الرسوم -بالرغم من هدفها حماية بعض القطاعات- تضغط على العرض الكلي وترفع التكلفة. قطاعات مثل صناعة النسيج والملابس ستتأثر بشكل كبير؛ حيث هناك توقعات بزيادة أسعار الملابس بنسبة 17%. وأظهرت البيانات الأولية للشركات والمؤشرات الاقتصادية تراجعًا في الطلب الداخلي وضعفًا في ثقة رجال الأعمال، كما أن مؤشرات التوظيف بدأت تضعف؛ حيث أظهرت مراجعات مكتب العمل الأمريكي وظائف أقل بكثير في الربع الثاني 2025؛ مما كان مقدرًا في السابق.

لكن بالرغم من هذه التوقعات السلبية، يبرز أيضًا جانب يتعلق بالإيرادات الخاصة بتحصيل هذه الرسوم الجمركية. فعند فرض الرسوم، تحصل الحكومة الأمريكية على إيرادات جمركية إضافية هائلة. مثلًا، بلغت إيرادات الجمارك أكثر من 27 مليار دولار في يونيو 2025؛ أي ثلاثة أضعاف العام السابق. ومكتب الموازنة في الكونجرس يضع تقديرات ضخمة أيضًا (كل الرسوم حتى نيسان 2025 قد تدرّ نحو 3.1 تريليون دولار على مدى عشر سنوات). لكن بالرغم من ذلك هناك تحذيرات من أن الاعتماد على تلك الإيرادات لا يأتي دون تكلفة؛ لأن الاقتصاد سينكمش والخزينة قد تخسر فائدة اقتصادية موازية.

ردود الفعل الشعبية والسياسية الداخلية

وتتوافق هذه البيانات مع استطلاعات أخرى، فمثلًا نشرت جالوب في أبريل 2025 أن 89% من الأمريكيين كانوا متيقنين من أن التعريفات سترفع أسعار مشترياتهم، وأن الأغلبية تتوقع أن الرسوم ستكلف الولايات المتحدة أكثر مما ستجلب (70% في المدى القصير، 62% في المدى البعيد) ويفسر الفارق بين الأحزاب بأن المنتمين للحزب الجمهوري يعتقدون أكثر من غيرهم أن الرسوم ستجلب أموالًا ومزيدًا من الوظائف الصناعية، في حين يعتقد الغالبية العظمى من الديمقراطيين أنها ستؤدي إلى أسعار أعلى دون مكاسب واضحة.

على الصعيد السياسي والنيابي، أثار فرض التعريفات أزمات وتحركات داخل الحكومة. فقد حاول عدد من أعضاء الكونجرس، بما في ذلك جمهوريون كبار، عرقلة بعض الرسوم. ففي مثال بارز، صوت مجلس الشيوخ (2 أبريل 2025) بأغلبية ضئيلة (51/48) لصالح إلغاء إعلان حالة الطوارئ الوطنية الذي استند إليه ترامب لفرض الرسوم على سلع كندية. وأصدر أعضاء مجلس الشيوخ (من كلا الحزبين) بيانًا حذّر من أن تلك “الرسوم غير المعقولة” سترفع كلفة المعيشة وتضر بالعائلات الأمريكية وشركاتها وتؤذي علاقتها بأقرب حلفائها.

وعلى الصعيد العام، بدا أن مواطني المدن الساحلية والمستهلكين الحساسين للأسعار هم الأقل تسامحًا مع الرسوم، بينما بدا ناخبو وسط وغرب البلاد ومنظّرو فكرة “الحمائية” أكثر دعمًا لفرض الرسوم. وذكرت استطلاعات للرأي العام أن جزءا كبيرًا من المستهلكين بدأ بالفعل تغيير سلوكياته الشرائية، مثل تأجيل شراء سلع استهلاكية انتظارًا لتغير الأسعار كما أشارت استطلاعات إلى بروز قلق في أوساط الأعمال الصغيرة من تكاليف الامتثال للرسوم الجديدة.

تداعيات سياسات ترامب المستقبلية

قد يُفهم فرض التعريفات كجزء من استراتيجية “الضغط الشامل” لتحقيق غايات ترامب السياسية وهي خطوة تنتمي إلى استراتيجية طويلة المدى لإعادة تشكيل التحالفات التجارية للأمة، واستعادة توازن القوى الإقليمية لكنها تأتي أيضًا في سياق مُغذى برؤى العداء للتجارة الحرة ومخاوف من التبعية الاستهلاكية للصين وغيرها.

ومع ذلك، فإن تكاليف هذه الاستراتيجية على المدى المتوسط قد تضع مخاطر كبيرة على واقع ترامب السياسي والاقتصادي 

أولًا: على الصعيد الاقتصادي، من المتوقع أن يشكل التضخم المتزايد، حتى لو تدريجيًا، ضغطًا على الأسر الأمريكية، خصوصًا الفقيرة منها وأشار استطلاع جديد للبنك الفيدرالي في كليفلاند إلى توقع زيادة معدلات التضخم بنحو 3.5% بالنسبة للعاملين في الشركات خلال العام القادم، رغم أن إدارة ترامب برهنت على أرقامها بأن التضخم تحت السيطرة وحسب توقعات الخبراء، لو استمر التضخم فوق المستهدف، فقد يرتفع الضغط على الفيدرالي لرفع الفائدة؛ مما قد يجهد النمو أكثر

ثانيًا: قد يؤدي الانكماش النسبي في الاقتصاد، كما تشير النماذج السابقة، إلى فقدان الثقة والتراجع في سوق العمل وهذا بالفعل بدأ يلوح في بيانات سوق العمل الضعيفة في الربع الثاني.

أيضًا قد ينعكس تراجع الاقتصاد والتضخم على شعبية ترامب فقد هبطت مؤشرات الموافقة على أدائه بشكل ملحوظ خلال الأسابيع الأولى من تطبيق التعريفات، وفق استطلاعات رويترز/إبسوس، مع تزايد الشكاوى حول ارتفاع الأسعار وملفات الاقتصاد وإذا استمرت أسعار المستهلك في الارتفاع، فقد يخسر بعض من قاعدة تأييده التي كانت تطمح إلى ازدهار اقتصادي سريع.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تصاعد الجدل الداخلي حول الرسوم قد يقتطع من دعمه داخل الكونجرس؛ فبعض النواب الجمهوريين بدأوا علنًا المطالبة بكبح هذه التعريفات، وهناك قلق في مجلس الشيوخ، وقد ينشأ انقسام أوسع إذا استمرت هذه السياسات. كذلك، سيكون للضغوط الناشئة من قطاعات الأعمال والنقابات مثل رابطة الصناعة وتجار التجزئة، وزن مع مرور الوقت، خصوصًا إذا بدأت الشركات الأمريكية تتكبد خسائر أو تتخلى عن خطط استثمارية بسبب التعريفات.

بالنظر إلى السياسة الدولية، فإن فرض تعريفات كبيرة سيعيد رسم خريطة التحالفات الاقتصادية. على الأمد القصير، بدا أن الصين والكثير من الشركاء يسعون إلى هدنة تفاوضية، كما حدث مع تأجيل رسوم الصين لمدة ثلاثة أشهرلكن لو تفاقمت النزاعات قد تنشأ جبهة أكثر عدوانية: الحلفاء التقليديون (مثل الكنديون والأوروبيون) يبنون استراتيجيات انتقامية من قبيل فرض رسوم مماثلة على منتجات أمريكية أو دعم صناعات محلية مستهدفة، كما هو واضح من إجراءات للسلطات الكندية التي تدعم الصناعات المحلية.

إن نفور الحلفاء والتفكيك المؤقت لسلاسل الإمداد يمكن أن يُفضي إلى تراجع طويل في حصة السلع الأمريكية في الأسواق العالمية. وفي ضوء ذلك، قد تواجه إدارة ترامب ضغوطًا إقليمية وسياسية لإعادة تقييم سياساتها التجارية.

وفي الختام، من المؤكد أن حملة التعريفات الجمركية التي شنها ترامب تندرج في إطار استراتيجية اقتصادية وسياسية طموحة لكنها محفوفة بالمخاطر. فمن المحتمل أن تؤدي إلى تضخم أعلى على المدى القصير وتعطيل بعض سلاسل الإمداد وفي الداخل الأمريكي ستلقي بأعباء أكبر على الطبقات المتوسطة والدنيا؛ مما قد يولد توترًا شعبيًا وسياسيًا إلا أن تلك الإجراءات قد تؤدي إلى مزيد من الدعم والتعزيز لبعض الصناعات المحلية، كالصلب والسيارات، التي قد تستقطب عوائد مؤقتة، بالإضافة إلى زيادة في إيرادات الجمارك الحكومية وقد يوفر هذا لترامب رصيدًا انتخابيًا مؤقتًا لدى ناخبيه التقليديين، إلا أن العواقب السلبية المحتملة قد تنتقص من هذا الرصيد.

 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الكاتب : بيير يعقوب

التاريخ : 25/8/2025

------------------------------------------------------------------------------

المصدر: يورونيوز

الكاتب : Jesús Maturana

التاريخ : 3/4/2025


المقالات الأخيرة