أزمة الديمقراطية الغربية
فرع القاهرة

ليست هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها الديمقراطية منذ نشأتها لأزمات أو انتكاسات أو إخفاقات سواء في البلدان الغربية أو في دول الجنوب ويتطلب تناول هذا الموضوع تناولا علميا إرساء مجموعة من المبادئ أو القواعد، تمهد لدراسته من زاوية المفاهيم.

أولا، التفرقة بين الفكر السياسي والنظرية السياسية: إن حقل الفكر السياسي هو ذلك المجال الذي يدرس تتابع الأفكار السياسية من إحدى زاويتين أو من كلتاهما معا. 

ثانيا، التفرقة بين المفهوم والرمز: إن المفهوم عبارة عن تكوين نظري مستمد من الواقع أو من خارجه يستخدمه الباحث لوصف ظاهرة ما في هذا الواقع وتحليلها وتفسيرها والتنبؤ بها وتقويمها، أما الرمز فهو تكوين نظري يرتبط بالأساس بخبرة معينة -في مكان وزمان معينين- بمعنى أنه يلخصها ويعبر عنها فيشتبك بالواقع على مستوى الممارسة ويصبح أحد العناصر المكونة له. 

ثالثا، اقتراب النظرية السياسية من موضوع تعثر أو أزمة الديمقراطية: لا يتناول هذا الاقتراب الظاهرة محل الدراسة على مستوى الممارسة، من حيث التطور التاريخي للنظم الديمقراطية أو الأزمات البنيوية للنظم الديمقراطية أو عملية التحول الديمقراطي أو انهيار النظم الديمقراطية فهذه كلها قضايا وإشكالات ترتبط بحقل النظم السياسية المقارنة. وتتمثل أهمية هذا الاقتراب في أن كل مفهوم أو اصطلاح يستبطن رؤية معينة للظاهرة محل الدراسة، ستفرض نفسها على تحليل الدارسين لها، بمجرد استخدامهم لهذا المفهوم أو ذاك في تحليلهم. وعناصر الرؤية المستبطنة في أي اصطلاح أو مفهوم يستخدم لدراسة الموضوع في حالتنا هي:

تصور طبيعة النظام الديمقراطي ونشأته.

- تشخيص الأزمة أو المأزق الحالي الذي يتعرض له النظام الديمقراطي.

تعيين المآل الذي ستنتهي إليه هذه الأزمة مستقبلا.

رابعا، الاصطلاحات التي تعبر عن الواقع المأزوم للنظم الديمقراطية: وجدت اصطلاحات أو مفاهيم عدة تسبق في وجودها الأزمة الحالية للنظم الديمقراطية، التي ارتبطت بصعود التيارات اليمينية والقوى الشعبوية، وفوزها في الانتخابات، ووصول أبرز شخصياتها إلى مقاعد السلطة في العديد من البلدان الغربية فهذه المفاهيم أوسع بكثير من لحظة الأزمة الحالية، من حيث الزمان والمكان والثقافة ولكن لن تطرحها الورقة الحالية من حيث الترتيب التاريخي لها ومن هذه الاصطلاحات:

1) Reverse wave: الموجة العكسية.

2) Democratic Backsliding: التراجع الديمقراطي.

3) Autocratization: التحول الأوتوقراطي.

4) Hybrid Regimes: الأنظمة الهجينة.

5) Competitive Authoritarianism: السلطوية التنافسية.

6) Liberalized Autocracies: الأوتوقراطيات الليبرالية.

الموجة العكسية

كتب عالم السياسي الأمريكي الشهير صمويل هنتنجتون مقالا بعنوان "الموجة الثالثة للديمقراطية"، نُشر في ربيع عام 1991 في مجلة الديمقراطية، واحتوى المقال على المادة التي ستستخدم بعد ذلك في كتابه "الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين وفي هذا المقال، يرد اصطلاح الموجة العكسية للتحول الديمقراطي، وسنعمد هنا إلى استجلاء هذا المفهوم وموضعته في سياق التصور الشاملة للتحول الديمقراطي،  المفهوم المركزي عند هنتنجتون ويبدأ هذا التصور بسؤال هنتنجتون عن كنه التحول الديمقراطي، فهل هو جزء متواصل ويزداد اتساعا لما يمكن تسميته "الثورة الديمقراطية العالمية" التي ستحمل الديمقراطية إلى أرجاء الأرض؟ أم هو توسع محدود للديمقراطية وإدخالها مرة أخرى في بلدان عرفتها من قبل في الماضي؟ وإن شئنا منح شقي السؤال شكلا مرئيا، لقلنا هل يأخذ التحول الديمقراطي شكل الخط الصاعد أم هو عبارة عن خط مموج يتضمن موجات صاعدة تليها موجات هابطة وهكذا؟

في هذا السياق، يرى هنتنجتون أن الموجة العكسية ليست مجرد تراجع بسيط للديمقراطية بل هي موجة عكسية كبرى ستتحول فيها معظم الأنظمة في العالم من الديمقراطية إلى السلطوية وقياسا على الموجتين العكسيتين السابقتين، سيحاول هنتنجتون التعرف على العوامل التي ستنتج الموجة العكسية الثالثة والشكل الذي ستأخذه وطبيعة النظم السياسية الناتجة عنها فبالنسبة للعوامل التي أنتجت الموجتين العكسيتين السالفتين، يرى هنتنجتون أنها تتمثل في: ضعف القيم الديمقراطية لدى النخبة والجماهير والاخفاقات الاقتصادية التي جعلت الحلول السلطوية تتمتع بالشعبية؛ والاستقطاب السياسي والاجتماعي في ظل النظم الديمقراطية؛ ووجود إقصاء لبعض القوى السياسي وانهيار للقانون والنظام في ظل الديمقراطية؛ وحدوث تدخل أو غزو من قبل قوة أجنبية غير ديمقراطية؛ والمحاكاة لما حدث في بلد مجاور من العودة إلى السلطوية

أما الموجة العكسية الثالثة، فيرى هنتنجتون أن هناك أسبابا محتملة لها، منها: انهيار شرعية النظم الديمقراطية بسبب عجزها وعدم فعاليتها في تحقيق أهدافها، كالرفاه أو العدالة أو النظام في الداخل أو الأمن من الخارج؛ وتأثير كرة الثلج العكسية، بمعنى أن التحول إلى السلطوية في بلد ما يرسل رسالة مبطنة إلى الطغاة المحتملين في البلدان المجاورة "أنتم أيضا يمكنكم العودة إلى وظائفكم" ويشدد هنتنجتون على أن توسع أو زيادة قوة الدولة غير الديمقراطية سيستثير الحركات السلطوية في البلدان الأخرى، وستزداد قوة هذا المثير إذا هزمت الدولة غير الديمقراطية واحدة أو أكثر من الدول الديمقراطية أما آخر الأسباب وأهمها فهي ظهور أشكال قديمة أو حديثة من السلطوية يمكنها الاستجابة لاحتياجات اللحظة الحاضرة في أحد البلدان. 

التراجع الديمقراطي

يمكن تعريف التراجع الديمقراطي على أنه عملية تدريجية تقوم من خلالها السلطة التنفيذية التي تزداد سيطرتها بتفكيك الضوابط والتوازنات القائمة داخل النظام الديمقراطي، أو أنها عملية تقوم بها الدولة لإضعاف وتحطيم النظام الديمقراطي. أما الاختلاف بين التراجع الديمقراطي والموجة العكسية، فهو أن الأخيرة تتسم بأنها كاسحة وفجائية وعنيفة، تأخذ صورة الانقلاب العسكري أو الانقلاب من أعلى كما سلف ذكره، أما التراجع الديمقراطي فيأخذ أشكالا أكثر دقة ومكرا حيث أن الحكومة المنتخبة ذاتها هي التي تقوض تدريجيا الضمانات الديمقراطية التي تحد من سلطتها، إلى أن تتخلص منها بالكلية.

وفي إحدى الدراسات التي أجريت عام 2022 على عملية التراجع الديمقراطي، في الدول التي شهدت تحولا ديمقراطيا فيما سمى بالموجة الثالثة للتحول الديمقراطي، فإن أنماط التراجع الديمقراطي في تلك الدول تحددت في تلك الدراسة بحسب نوعية وترتيب الضمانات الديمقراطية، التي يقوضها الحاكم أو الزعيم المنتخب وأولى هذه الضمانات هي الضمانات الرأسية التي تتعلق بالعملية الانتخابية النزيهة الشفافة باعتبارها جوهر النظام الديمقراطي، لأنها تضمن التداول السلمي للسلطة، غاية النظام الديمقراطي بالأساس. 

وبحسب نفس هذه الدراسة، فقد أظهرت الحالات موضع البحث أربعة أنماط أو أشكال للتراجع الديمقراطي: 1) الارتدادات الديمقراطية فبعد حدوث تطورات إيجابية في السنوات المبكرة للانتقال للديمقراطية، يشهد النظام تراجعا حادا وتدريجيا في بعض الحالات على مستوى الضمانات الثلاثة بما يقود إلى انهيار العملية الانتخابية، قلب النظام الديمقراطي

2) التراجع على مستوى الضمانات القطرية إذ يشهد النظام حدوث تراجع كبير لحرية الإعلام والمشاركة المدنية، فتتآكل الطبيعة التنافسية للنظام، مما يهدد بحدوث تراجع شامل على المستويين الأفقي والرأسي

3) التراجع الجزئي مع صمود الضمانات الأفقية  يشهد هذا النمط تراجعا للضمانات الرأسية فيحدث انخفاض في مستوى المشاركة السياسية مصحوبا باختلالات بنيوية في العملية الانتخابية، ويصاحب ذلك تراجعا في الضمانات القطرية المتعلقة بالحريات، التي تضمن تنافسية النظام وتحدي ومعارضة القادة السياسيين، لكن القيود المؤسسية على المستوى الأفقي تصمد أمام تلك التراجعات، وتحتفظ بدرجة عالية من الإستقرار رغم ما يحدث

4) الديمقراطيات التي تتعرض للهجوم وأبرز معالم هذا النمط هو التدهور الشامل والسريع في بعض الحالات عبر الأبعاد الثلاثة، فبعد الأداء العالي لفترة طويلة يبدأ هناك تراجع سريع وشامل للطابع الديمقراطي فيها.

التحول الأوتوقراطي  

إن التحول الأوتوقراطي من حيث المعنى هو نقيض التحول الديمقراطي، فهو عبارة عن أي تحرك بعيد عن الديمقراطية الكاملة، ويعتبر هذا المفهوم مفهوما شاملا ذلك لأنه يتسع ليشمل الانهيار المفاجئ للديمقراطية فضلا عن الانحسار التدريجي للسمات الديمقراطية، سواء في النظم الديمقراطية أو النظم غير الديمقراطية بما يجعلها أقل ديمقراطية أو أكثر أوتوقراطية بعبارة أخرى، فالتحول الأوتوقراطي هو عبارة عن عمليات انحسار الديمقراطية بما يؤدي إلى تحول النظام الديمقراطي إلى نظام أوتوقراطي أو إلى توطيد دعائم النظام الأوتوقراطي القائم من الأصل وبناء على ذلك، يسهل التعرف على الانهيار الدراماتيكي للنظام الديمقراطي في إطار الموجة العكسية، لأنه يأخذ شكل أحداث يسهل نسبيا التعرف عليها إمبيريقيا كالانقلابات العسكرية أو الدستورية. ويُمكِّن مفهوم التحول الأوتوقراطي أيضا من التعرف على التآكل التدريجي لسمات أو معالم النظام الديمقراطي، التي لا يسهل التعرف عليها لأنها تتم مع وجود غطاء قانوني لها ومن ناحية اختلافه عن مفهوم الموجة العكسية فهو أوسع نطاقا لأنه يشمل الانهيار المفاجئ الظاهر للعيان والانحسار التدريجي الخفي للديمقراطية، ومن ناحية اختلافه عن مفهوم التراجع الديمقراطي فهو يشمل الابتعاد عن الديمقراطية سواء داخل النظم الديمقراطية أو غير الديمقراطية على حد سواء.

وهناك إشكاليتان عمليتان أفرزتا هذا الاصطلاح، أما أولاهما فهي فقدان أنظمة التعددية الحزبية لمعناها في الممارسة العملية لأن تآكل القيم الديمقراطية يحدث وراء الواجهة القانونية للنظام الديمقراطية، ومن ثم دعت الحاجة إلى استحداث مفاهيم وأدوات إمبيريقية ملائمة، يمكنها ملاحظة وتحليل هذه العمليات المعتمة تحليلا علميا، فهي ظواهر تحدث تحت مستوى الرادار المفاهيمي والمنهاجي القائم أما الإشكالية الثانية فهي اختلاف الدارسين في تقييمهم للتحولات الحادثة في الوضع القائم، فبينما يميل البعض إلى الاستشهاد بالسوابق التاريخية كانهيار الديمقراطيات في ثلاثينات القرن العشرين أو صعود النظم الشعبوية المعادية للديمقراطية في أربعينيات ذلك القرن، نجد البعض الآخر يؤكد أن العالم حاليا ما يزال ديمقراطيا ومتحررا بل ربما أكثر من حاله خلال القرن العشرين.

ولابد من التنبيه على أن مفهوم التحول الأوتوقراطي يتقاطع مع بارادايم النقلة الذي يتعلق بالانتقال من حالة إلى الأخرى، فالتحول الأوتوقراطي عملية مفتوحة ومستمرة إلى ما لا نهاية إذ أن الدراسات تكشف عن ندرة وجود أوتوقراطيات مغلقة فصيرورة التحول الأوتوقراطي ستنتهي إلى نظام هجين هو الديمقراطية غير الليبرالية  لأن القادة الأوتوقراطيين صاروا أكثر حنكة وبراعة، فهم يخربون العملية الانتخابية ليحولوا دون حدوث تداول حقيقي للسلطة، لكنهم في الوقت ذاته يحافظون على الواجهة الديمقراطية ومن هنا يمكن القول إن آليات التحول الأوتوقراطي وآليات التحول الديمقراطي تتلاقى في أن صيرورتهما تقود إلى نظم هجينة، فلا توجد أوتوقراطية كاملة ولا ديمقراطية كاملة، وإنما حالات لانهائية لنظم هجينة تجمع بين سمات النوعين. 

خاتمة يستنتج من العرض السابق أن هذه المفاهيم الثلاثة ليست مترادفة ولا قابلة للاستبدال ببعضها، وإنما هي مفاهيم تصف ظواهر متمايزة، لكنها شديدة التقارب، لأنها تدخل في نطاق أزمة الديمقراطية فالموجة العكسية هي الانهيار السريع للنظام الذي شهد تحولا ديمقراطيا فيرتد إلى سلطويته السابقة، أما التراجع الديمقراطي فهو عبارة عن التآكل التدريجي الخفي للضمانات الديمقراطية داخل النظام الديمقراطي، ولكن التحول الأوتوقراطي هو الابتعاد عن الديمقراطية والاقتراب من الأوتوقراطية، ويحدث في النظم الديمقراطية والسلطوية على حد سواء.       

المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

الكاتب : د. محمد صفار

التاريخ : 26/8/2025    

--------------------------------------------------------------------------    

المصدر: المركز الديمقراطي العربي

الكاتب : د.  شاهيناز العقباوى

التاريخ : 21/4/2025

المقالات الأخيرة