اندلع نقاشٌ داخلي وخارجي حاد في ألمانيا وأوروبا حول الدور العسكري الألماني في أوكرانيا، فمنذ الزيارة الأخيرة للمستشار الألماني فريدريش ميرز إلى واشنطن، ولقائه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ضمن وفد أوروبي رفيع المستوى، هدفه البحث في سبل إنهاء حرب أوكرانيا المستمرة منذ عام 2022. هذه الحرب، التي أعادت تشكيل المشهد الأمني الأوروبي والعالمي، باتت على أعتاب منعطف جديد، عنوانه “الضمانات الأمنية لأوكرانيا ما بعد الحرب”.
خلال الاجتماع الذي احتضنته العاصمة الأمريكية واشنطن، ركّز القادة على صياغة ترتيبات أمنية طويلة الأمد لأوكرانيا، تهدف إلى حمايتها من أي هجوم روسي محتمل في المستقبل، خاصة بعد انتهاء القتال. ووفقًا للتقارير المتداولة، فإن الولايات المتحدة ترى أنه يتوجب على الحكومة الأوكرانية الاستعداد لتقديم تنازلات إقليمية لروسيا، كجزء من اتفاق سلام شامل، وهي وجهة نظر أثارت الكثير من الجدل داخل أوروبا وخارجها، واعتبرها البعض ضربًا من الواقعية السياسية، بينما رأى فيها آخرون تفريطًا غير مقبول بالسيادة الأوكرانية.
بينما يدور الحديث حول هذه الضمانات، عاد إلى الواجهة سؤال صعب ومثير للجدل: هل سترسل ألمانيا أو حتى أوروبا، قوات برية إلى أوكرانيا لضمان تنفيذ هذه الضمانات ومراقبة اتفاق وقف إطلاق النار المحتمل؟. سؤال يطرح نفسه بقوة، خصوصًا أن فكرة نشر قوات حفظ سلام غربية نوقشت مرارًا وتكرارًا خلال العام 2025، دون أن يُتخذ بشأنها أي قرار نهائي.
مواجهة التهديدات الروسية
في الوقت الراهن، لا توجد مؤشرات قوية على أن الحكومة الألمانية تنوي اتخاذ مثل هذه الخطوة في القريب العاجل فالنقاش لا يزال في مراحله الأولية، وتُعتبر فكرة إرسال قوات ألمانية إلى أوكرانيا أمرًا مستبعدًا، إلا في سياق مهمة حفظ سلام دولية مُعترف بها وبتفويض واضح. ومع ذلك، فإن مجرد طرح هذا السيناريو أثار سلسلة من الأسئلة الصعبة حول القدرات العسكرية الألمانية، والتبعات السياسية والأمنية المحتملة لمثل هذا القرار.
رغم الزخم الجديد الذي اكتسبته المفاوضات السياسية بعد اجتماع واشنطن، إلا أن التباين في وجهات النظر لا يزال قائمًا، والعديد من المسائل الجوهرية لم تُحل بعد. فالاتفاق على وقف إطلاق النار لا يزال بعيد المنال رغم بعض التنازلات الكبيرة التي قُدمت لروسيا. وحتى أغسطس 2025، لا تظهر القيادة الروسية، المحيطة بالرئيس فلاديمير بوتين، أي استعداد جدي للانخراط في اتفاق يُنهي الحرب فعليًا.
الحكومة الفيدرالية، المكوّنة من تحالف يجمع بين الاتحاد الديمقراطي المسيحي، والاتحاد الاجتماعي المسيحي (CDU/CSU)، والحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، تتعامل بحذر بالغ مع هذه القضية. فقد عبّر عدد من مسؤولي الحكومة عن اعتقادهم بأن الحديث عن إرسال قوات ألمانية إلى أوكرانيا “سابق لأوانه”، وأن من الأفضل عدم إثارة تكهنات غير مبنية على أسس واضحة، خاصة في هذا التوقيت الحرج.
الخلافات داخل الأحزاب الحاكمة نفسها تؤكد مدى تعقيد الموقف. فبينما عبّر بعض قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، عن انفتاح نسبي إزاء فكرة الضمانات الأمنية، فإن سياسيين آخرين، حاولوا التقليل من أهمية النقاش، واعتبروه “نقاشًا إعلاميًا لا يُمكن اختزاله في تصريحات عابرة”.
اللافت أن المستشار ميرز نفسه، ورغم حرصه على تجنّب هذا النقاش بشكل علني، أثار الجدل من خلال تصريحه خلال المؤتمر الصحفي في واشنطن، حين تحدث عن احتمالية اتخاذ قرارات “تتطلب تفويضًا”، في إشارة ضمنية إلى أن أي نشر لقوات ألمانية في الخارج يحتاج إلى موافقة البرلمان الألماني، وفقًا لما ينص عليه الدستور الألماني.
الضمانات الأمنية المحتملة
الموقف الشعبي داخل ألمانيا يعارض بشكل عام أي مشاركة مباشرة لقوات ألمانية في حرب أوكرانيا، حتى وإن جاء ذلك تحت مظلة حفظ السلام. فهناك خشية من الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، خاصة أن روسيا أظهرت مرارًا استعدادًا لتجاوز الخطوط الحمراء الدولية. من جهة أخرى، لا يزال في الأذهان خرق روسيا لاتفاقيات مينسك السابقة، التي لم تمنعها من مواصلة قصف الأراضي الأوكرانية.
السيناريو الأسوأ، الذي تخشاه الأوساط السياسية والأمنية، يتمثل في اندلاع مواجهة مسلحة بين روسيا والقوات الغربية في أوكرانيا، ما يعني أن الجنود الألمان سيكونون جزءًا من صراع عسكري مباشر، وهو احتمال ترفضه قطاعات واسعة من الرأي العام الألماني.
واقع الجيش الألماني يُظهر وجود تحديات كبيرة. فرغم تخصيص الحكومة الألمانية السابقة لصندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لتحديث القوات المسلحة، إلا أن هذه الجهود لا تزال غير مكتملة. ولا تزال مشاكل المعدات والجاهزية والكوادر البشرية تمثل عقبات حقيقية أمام تنفيذ أي عملية عسكرية كبرى خارج الحدود.
إلى جانب ذلك، يُثقل على البوندسفير الجيش الألماني التزاماته الجديدة، وأبرزها إنشاء لواء ألماني دائم في ليتوانيا بحلول عام 2027، في إطار تعزيز الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي. وقد أقر وزير الخارجية يوهان فادفول نفسه بأن نشر قوات في أوكرانيا قد يُثقل كاهل الجيش بشدة، رغم أن وزير الدفاع بوريس بيستوريوس لم يستبعد الأمر تمامًا.
في ظل استبعاد ترامب أي نشر لقوات أمريكية برية، تبدو الضمانات الأمنية في شكلها العسكري الكامل غير واردة في الوقت الحالي. غير أن الحديث يدور عن بدائل متنوعة، مثل تكثيف عمليات الاستطلاع، والمساعدة الاستخباراتية، ودوريات بحرية في البحر الأسود، وحتى دعم لوجستي وتأمين المجال الجوي الأوكراني.
يقود ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي، عملية صياغة هذه الضمانات، وهو شخصية لها خبرة واسعة في الشؤون الخارجية، ويُنظر إليه كشريك متعاون مع الأوروبيين. ويُتوقع أن تُحمّل الخطة الأمنية النهائية الأوروبيين الجزء الأكبر من المسؤولية، مع دعم أمريكي سياسي وتقني محدود.
استراتيجية الموقف الروسي
من جانبها، ترفض موسكو بشكل قاطع وجود أي قوات أوروبية على الأراضي الأوكرانية، وتعتبر ذلك بمثابة استفزاز مباشر. وقد عبّر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن هذا الموقف بوضوح مؤكدًا أن وجود مثل هذه القوات “غير مقبول بتاتًا”.
في مواجهة فكرة قوات حفظ السلام، تروج موسكو والعديد من المراقبين لنظرية بديلة والتي تقوم على تسليح أوكرانيا بشكل كبير ومكثف، بحيث تصبح دولة يصعب مهاجمتها دون تكبّد خسائر كبيرة. ويؤيد هذا النهج مسؤولون بارزون، الذين وصفوا إرسال قوات غربية بأنه “أمر غير مجدٍ”.
إذا ما تقرر إرسال قوات ألمانية إلى أوكرانيا، فإن الأمر لن يتم إلا وفق شروط قانونية صارمة، تتطلب موافقة البرلمان الألماني. كما أن نوع المهمة وشكلها القانوني يمثلان عاملاً حاسمًا. فهل ستكون تحت راية الأمم المتحدة؟ أم في إطار الاتحاد الأوروبي؟ أم عبر حلف الناتو، وهو خيار مستبعد جدًا بسبب الحساسيات الدولية؟. تشير بعض المقترحات إلى إمكانية تشكيل بعثة متعددة الجنسيات بمشاركة دول محايدة نسبيًا، للحد من الاستفزازات الروسية.
ختاماً رغم النقاش المتصاعد، لا تزال فكرة إرسال جنود ألمان إلى أوكرانيا في طور الفرضيات سيبقى القرار رهين التطورات الميدانية والسياسية والدبلوماسية، وكذلك مدى قدرة أوروبا والولايات المتحدة على فرض شروط سلام تُقنع الطرفين، وتضمن استقرارًا طويل الأمد في المنطقة.
في كل الأحوال، فإن المشاركة الألمانية، إن تمت، ستكون محسوبة بدقة، وتحت مظلة دولية واضحة وبشروط قانونية صارمة.
يشير النقاش الألماني حول إرسال قوات إلى أوكرانيا إلى تحوّل ملحوظ في السياسة الأمنية الألمانية، إلا أنه ما زال محكومًا بكثير من الحذر والقيود القانونية.
رغم الزخم الذي اكتسبته محادثات الضمانات الأمنية بعد زيارة ميرز إلى واشنطن، فإن الواقع السياسي والعسكري لا يسمح بمثل هذا التوجه. فالوضع في أوكرانيا لا يزال هشًا، وغياب وقف إطلاق نار رسمي يُفرغ أي حديث عن حفظ السلام من مضمونه.
مستقبليًا، قد تتجه ألمانيا إلى لعب دور أكبر في تأمين أوكرانيا، ولكن من خلال وسائل غير مباشرة مثل الدعم اللوجستي والاستخباراتي وتدريب القوات، وليس عبر نشر قوات برية مباشرة.
إن انخراط دول “محايدة” قد يُعيد تشكيل نموذج حفظ السلام التقليدي ويخلق صيغة متعددة الأطراف. القرار النهائي سيعتمد على توازن دقيق بين الضغط الأمريكي، المصلحة الأوروبية، والموقف الروسي.
يبقى الأرجح في المدى القريب أن تستمر ألمانيا في دعم أوكرانيا سياسيًا وعسكريًا من دون الانخراط المباشر بقوات على الأرض.
المصدر: المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
التاريخ : 22/8/2025
----------------------------------------------------------------------------------
المصدر: Deutsche Welle
الكاتب : محي الدين حسين
التاريخ : 18/8/2025