نظرية الأمن الإنساني: التحول من حماية الحدود إلى حماية الكرامة الإنسانية
فرع بنغازي

شَكَّلَ مفهوم الأمن، على مدى قرون، حجر الزاوية في سياسات الدول، حيث انحصر بشكل شبه كلي في الدفاع عن الحدود والسيادة الوطنية من خلال القوة العسكرية والاستخباراتية. كان "أمن الدولة" هو الغاية القصوى، وغالبًا ما تم التضحية بحقوق الأفراد ورفاهيتهم في سبيل هذه الغاية. ومع انهيار جدار برلين ونهاية الحرب الباردة في أوائل التسعينيات، بدأ هذا المفهوم التقليدي يتعرض لهزّة عنيفة. فالعالم لم يعد أكثر أمنًا رغم زوال خطر الصراع النووي بين القطبين، بل برزت تهديدات جديدة غير عسكرية تمس صميم وجود الإنسان وسلامته، مثل الإبادة الجماعية، والأمراض الوبائية، والفقر المدقع، والجريمة المنظمة، وتغير المناخ. من هذا المنظور، ولدت نظرية الأمن الإنساني كإطار تحليلي ثوري يحوّل البوصلة من دولة مجردة إلى إنسان ملموس، معتبرة أن أمن الدولة هو وسيلة وليس غاية، والغاية الحقيقية هي أمن مواطنيها.

التأسيس النظري: من "التحرر من الخوف" إلى "التحرر من الحاجة"

يعود الفضل في بلورة وتسمية هذا المفهوم إلى تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لعام 1994. لم يقدم التقرير مجرد تعريف، بل قدّم رؤية جديدة شاملة للأمن قائمة على سبعة أبعاد متشابكة:

 

1.  الأمن الاقتصادي: ضمان دخل أساسي من العمل أو من شبكات الأمان الاجتماعي.

2.  الأمن الغذائي: توفر الغذاء الكافي والمستدام من الناحية الجسدية والاقتصادية.

3.  الأمن الصحي: الحماية من الأمراض والأوبئة والوصول إلى الرعاية الصحية.

4.  الأمن البيئي: الحفاظ على الموارد الطبيعية وحماية الناس من المخاطر البيئية.

5.  الأمن الشخصي: الحماية من العنف الجسدي، سواء من الدولة أو من جهات فاعلة أخرى.

6.  الأمن المجتمعي: حماية هوية المجموعات الثقافية والقيم التقليدية من التهديدات.

7.  الأمن السياسي: ضمان احترام الحقوق الأساسية والحريات والحماية من القمع.

هذه الأبعاد جميعًا تندرج تحت المبدأين الشهيرين اللذين يشكلان جوهر النظرية:

  التحرر من الخوف (Freedom from Fear): وهو الجانب "الضيق" أو الحمائي، الذي يركز على حماية الأفراد من أعمال العنف المباشر، مثل الصراعات المسلحة، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، والتطهير العرقي، والاتجار بالبشر.

  التحرر من الحاجة (Freedom from Want): وهو الجانب "الواسع" أو التمكيني، الذي يستهدف ضمان شروط الحياة الكريمة من خلال مكافحة الفقر، والجوع، والمرض، والأمية، وتوفير سبل العيش المستدامة.

التطبيقات العملية: من النظرية إلى الميدان

تتجلى الحاجة إلى الأمن الإنساني بشكل صارخ في مناطق النزاع والكوارث، حيث تقدم لنا تطبيقاته دروسًا عملية:

1.  الحماية الفعلية للمدنيين: لم تعد مهمة قوات حفظ السلام الدولية تقتصر على فصل الأطراف المتحاربة، بل أصبحت تشمل حماية المدنيين بشكل مباشر تحت مظلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. إنشاء "مناطق آمنة" و "ممرات إنسانية" وفرض حظر الطيران على الطائرات التي تقوم بقصف مدني (كما حصل في البوسنة سابقًا) هي تجليات لهذا النهج، وإن كانت مثيرة للجدل.

2.  المساعدات الإنسانية الذكية: لم يعد توزيع الغذاء والماء كافيًا. يتجه النهج الحديث نحو ربط الإغاثة بالتنمية، حيث يتم تصميم المساعدات لبناء المرونة المجتمعية. على سبيل المثال، برامج "السيولة مقابل العمل" التي تدفع للنازحين مقابل مساعدتهم في إعادة بناء البنية التحتية لمجتمعهم، مما يحفظ كرامتهم ويحفز التعافي الاقتصادي مبكرًا.

 

3.  العدالة الانتقالية وحماية حقوق الإنسان: يشكل ملاحقة مجرمي الحرب (عبر محكمة الجنايات الدولية والمحاكم الخاصة) وبناء مؤسسات قضائية مستقلة جزءًا لا يتجزأ من الأمن الإنساني. فهو لا يهدف فقط لوقف العنف الحالي، بل لمنع تكراره في المستقامل عبر تحقيق العدالة وجبر الضرر ومساءلة المسؤولين عن الانتهاكات.

4.  تمكين الفئات الأكثر ضعفًا (الفئات الهشة): يتم تصميم برامج خاصة تستهدف النساء (برامج الحماية من العنف القائم على النوع الاجتماعي وتمكينهن اقتصاديًا)، والأطفال (إعادة دمج الأطفال الجنود وضمان تعليمهم)، وكبار السن وذوي الإعاقة (ضمان وصولهم إلى الخدمات). في المجتمعات التي مزقتها الحرب، غالبًا ما تكون هذه الفئات هي الأكثر معاناة والأقل حصولًا على المساعدة.

التحديات والانتقادات الجوهرية: إشكاليات التطبيق والسيادة

رغم نبألة فكرتها، تواجه نظرية الأمن الإنساني انتقادات حادة:

1.  الغموض واتساع المفهوم: يرى النقاد أن شمولية النظرية واتساعها (لتشمل كل شيء من الحرب إلى التغير المناخي) يجعلها غير قابلة للتطبيق عمليًا. فكيف يمكن تحديد الأولويات بين مكافحة الإرهاب وتوفير مياه الشرب النظيفة؟ هذا الغموض يصعّب صياغة سياسات واضحة وقياس النجاح.

 

2.  الاستخدام كذريعة للتدخل والعودة إلى "الاستعمار الجديد" هذا هو أخطر الانتقادات. فمبدأ "مسؤولية الحماية (R2P) الذي تبنته الأمم المتحدة في 2005، والمشتق من فكرة الأمن الإنساني، تم استخدامه لتبرير تدخلات عسكرية مثيرة للجدل (كالحالة الليبية في 2011). اتهمت العديد من الدول، خاصة روسيا والصين ودول عدم الانحياز، الغرب باستخدام المبدأ كغطاء لتغيير الأنظمة والتعدي على السيادة الوطنية، مما أضر بمصداقية مفهوم الأمن الإنساني برمته.

 

3.  إشكالية التنفيذ والتبعية: يعتمد تنفيذ برامج الأمن الإنساني بشكل كبير على المنظمات الدولية والمانحين الخارجيين. هذا يمكن أن يخلق اقتصادًا تابعًا للإغاثة، يُضعف المؤسسات المحلية ويعيق بناء قدرات ذاتية حقيقية، مما يناقض أحد أهداف النظرية الأساسية وهو "التمكين".

4.  التقاطع المعقد مع الأمن القومي: في كثير من الأحيان، تتعارض متطلبات الأمن الإنساني مع ما تعتبره الدولة مصالحها الأمنية القومية. ففتح الحدود أمام اللاجئين قد يُنظر إليه كتهديد أمني، بينما هو ضرورة إنسانية. هذا التناقض يحتاج إلى معالجة دبلوماسية وسياسية بالغة التعقيد.

الخاتمة: نحو نموذج متكامل للأمن

تبقى نظرية الأمن الإنساني إسهامًا جوهريًا في الفكر الاستراتيجي والسياسي المعاصر. لقد نجحت في تحدي المنظور الضيق للأمن ووضعت الإنسان في مركز الاهتمام. رغم كل انتقاداتها وإشكالياتها، فإنها تقدم إطارًا لا غنى عنه لفهم التعقيدات الأمنية في القرن الحادي والعشرين ومواجهتها.

النقاش المستقبلي يجب ألا يدور حول اختيار بين "أمن الدولة" و "أمن الإنسان"، بل حول كيفية التكامل بينهما. فالدولة المستقرة والمشروعة هي الضامن الأساسي لأمن مواطنيها، وفي المقابل، فإن المواطنين الآمنين صحياً واقتصاديًا واجتماعيًا هم حجر الأساس لأمن الدولة واستقرارها في المدى الطويل فإن تبني نموذج متوازن يعترف بترابط الأمن بمفهوميه الواسع والضيق هو السبيل الوحيد لبناء عالم أكثر سلامًا وكرامة للجميع.



المراجع 

برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP). (1994). تقرير التنمية البشرية لعام 1994: "أبعاد جديدة للأمن البشري". نيويورك: دار نشر جامعة أكسفورد. فؤاد، محيي الدين. (2010). الأمن الإنساني: مفهوم جديد للأمن في العلاقات الدولية. القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

 زغلول، محمد. (2018). الأمن الإنساني: تحديات وتطبيقات في العالم العربي. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.


المقالات الأخيرة