رسائل جيوسياسية وعسكرية غربية في قمتي لاهاي وبروكسل
فرع بنغازي

شهد الأسبوع الأخير من يونيو 2025، زخماً غربياً، تمثل في انعقاد قمتين مترابطتين، هما القمة الأطلسية في مدينة لاهاي الهولندية يومي 24 و25 يونيو، ثم القمة الأوروبية في العاصمة البلجيكية، بروكسل، يومي 26 و27 يونيو. وفي حين كانت القمة الأولى تعبيراً عن التماسك العسكري والتحالفي في وجه التحديات الكبرى، فإن الثانية عكست انشغال أوروبا العميق بإعادة تشكيل دورها الجيوسياسي. وهاتان القمتان، بالرغم من اختلاف المنصتين والفاعلين؛ شكّلتا معاً نقطة انعطاف استراتيجية في علاقات الغرب بالعالم، ومنه منطقة الشرق الأوسط.

ويأتي انعقاد القمتين، عقب حرب عنيفة دامت 12 يوماً بين الكيان وإيران، وقد أفرزت هذه الحرب وتأثيراتها مقاربتين مختلفتين للإقليم، إحداهما أمنية عسكرية تمثلت في رؤية حلف شمال الأطلسي "الناتو"، والأخرى سياسية واقتصادية جسّدها المجلس الأوروبي، والتقى كلا المنظورين عند إدراك مركزي مفاده أن استقرار الشرق الأوسط لم يعد مسألة إقليمية فقط، بل عاملاً حاسماً في الأمن الأوروبي الأطلسي المشترك.

قمة لاهاي:

استضافت مدينة لاهاي قمة حلف الناتو، التي حضرتها 32دولة للتباحث في تحديات كبرى؛ تضمنت الحرب الروسية الأوكرانية، والإنفاق الدفاعي، ومستقبل العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. ووسط أجواء متوترة خلال الولاية الثانية للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، شكلت هذه القمة اختباراً حاسماً لمرونة الحلف وقدرته على التكيّف مع أزمات متعددة، وسرعان ما أصبح شعار القمة: "تحوّل دفاعي نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2035"، وهي خطوة جذرية تستهدف تعزيز القدرات العسكرية الجماعية للناتو.

وكما يبدو، أرسلت قمة الناتو العديد من الرسائل إلى الاتجاهات الدولية كافة، لعل من أهمها ما يلي:

1- إعادة تأكيد مبدأ الدفاع الجماعي: في ضوء التصريحات السابقة للرئيس ترامب، التي هزت الثقة في مدى التزام واشنطن بمبدأ الدفاع الجماعي؛ سعت قمة لاهاي إلى إرسال رسالة طمأنة للحلفاء. فقد أُعيد تأكيد أن "أي هجوم على دولة عضو في الناتو، سيُعد هجوماً على الحلف بأكمله"، وهذه الرسالة لم تكن شكلية، بل جاءت ضمن سياق اتسم بالقلق الأوروبي المتزايد من "أمريكا ترامب"، التي تميل نحو النزعة الأحادية والانعزالية؛ لذا فإن الإعلان الجماعي عن الالتزام بالمادة الخامسة من معاهدة شمال الأطلسي التي تنص على مبدأ الدفاع المتبادل، كان محاولة لتثبيت الموقف وتوجيه تحذير واضح إلى روسيا.

2- رفع سقف الطموح الدفاعي للحلف: تضمن إعلان لاهاي رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، حيث يريد الحلفاء تخصيص ما لا يقل عن 5.3% من الناتج للإنفاق العسكري، و5.1% إضافية للأمن الأوسع مثل حماية البنى التحتية الحيوية والأمن السيبراني. وفي السابق، كان الهدف المشترك هو رفع الإنفاق الدفاعي 2% فقط، وأخفقت بعض الدول، مثل ألمانيا وإسبانيا، في تحقيقه؛ لذا فإن رفع السقف إلى 5% يُمثل رسالة متعددة المستويات إلى كل من روسيا بأن الناتو يستعد لمواجهة طويلة الأمد ولن يتراجع، وإلى الولايات المتحدة لتأكيد أن أوروبا تتحمل عبئها المالي والأمني، وإلى الداخل الأوروبي بأن ثمة تحولاً عميقاً في الوعي الأمني؛ لكن الرسالة هنا لا تخلو من التحدي، فالالتزام السياسي لا يُترجم بالضرورة إلى قدرات ميدانية، ما لم تُقرن ببرامج دفاعية واضحة ومتكاملة.

3- تقديم الدعم لأوكرانيا: على خلاف القمم السابقة لحلف الناتو، وردت الإشارة إلى أوكرانيا في البيان الختامي لقمة لاهاي بشكل مختصر، حيث تضمن البيان "تأكيد الحلفاء مجدداً التزاماتهم السيادية الدائمة بتقديم الدعم لأوكرانيا، التي يُسهم أمنها في أمننا، ولهذا الغرض، سيشملون مساهمات مباشرة في دفاع أوكرانيا وصناعتها الدفاعية عند حساب إنفاق الحلفاء الدفاعي". فيما اتسمت الصياغات المتعلقة بروسيا بقدر كبير من المرونة، وقد يكون ذلك إرضاءً لترامب الذي يتواصل مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في محاولة لإنهاء الأزمة الأوكرانية.

قمة بروكسل:

انعقدت قمة المجلس الأوروبي في بروكسل، وسط أجواء دولية مضطربة، حيث تأتي مباشرةً بعد قمة الناتو في لاهاي. وكانت بروكسل محطة حيوية لتطييب الجراح الأوروبية في ظل أزمات متعددة تؤثر في الأمن الأوروبي، منها الحرب الروسية في أوكرانيا، والتوترات الأمريكية الأوروبية، وتصدّع الموقف تجاه موسكو، وتصاعد الأزمات في الشرق الأوسط.

وإذا كانت قمة لاهاي قد ركّزت على التهديدات الأمنية الصلبة، فإن قمة بروكسل تناولت، إلى جانب هذه التحديات الأمنية، مسائل سياسية واقتصادية أخرى، ولعل من أبرز رسائلها ما يلي:

1– مواصلة التضامن مع أوكرانيا: أكد قادة الدول الأوروبية استمرار تقديم الدعم الشامل لأوكرانيا في حربها مع روسيا، مع تمديد فرض العقوبات، والتي تستهدف بصفة خاصة قطاعي الطاقة والمالية في روسيا لستة أشهر إضافية، وحث موسكو على إنهاء الحرب. وحتى الآن، قدّم الاتحاد الأوروبي لكييف دعماً يقارب6.158 مليار يورو، منها 6.58 مليار يورو دعماً عسكرياً. ودعا المجلس الأوروبي، في قمة بروكسل، إلى تكثيف الجهود لتلبية الاحتياجات العسكرية والدفاعية لأوكرانيا، وخاصةً تسليم أنظمة الدفاع الجوي والأنظمة المضادة للطائرات المُسيَّرة.

2– تشكيل تكتل تجاري عالمي جديد: كشفت قمة بروكسل عن خطة أوروبية طموحة لتشكيل تكتل تجاري عالمي جديد، بمشاركة بعض الدول الآسيوية، وذلك في خطوة تهدف، كما يبدو، إلى مواجهة السياسات التجارية التصعيدية للرئيس ترامب. وفي هذا الإطار، طرحت رئيسة المفوضية الأوروبية، فون دير لاين، فكرة اتحاد دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 مع الدول الأعضاء في اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ (CPTPP)، الذي انضمت إليه بريطانيا مؤخراً لتشكيل مبادرة تجارية عالمية جديدة. 

أزمات الإقليم:

لعل التساؤل الذي يثور، هنا، يدور حول ما تمثله منطقة الشرق الأوسط وأزماتها بالنسبة لقمتي لاهاي وبروكسيل. فعند النظر إلى رسائل كل من القمة الأطلسية والقمة الأوروبية بالنسبة للشرق الأوسط، نجد أن الأحداث التي شهدها الإقليم مؤخراً، خاصةً حرب إسرائيل وإيران، ودخول الولايات المتحدة على خط هذه الحرب؛ قد أفرزت مقاربتين للإقليم.

فبالنسبة إلى حلف الناتو، يُلاحظ أن بيان قمة لاهاي لم يشر صراحةً إلى قضايا الشرق الأوسط، بيد أن القراءة التحليلية لمضامينه ربما تفتح أفقاً لفهم كيف يرى الناتو هذه المنطقة ضمن رؤيته الأمنية. فأكد البيان أهمية تعزيز استثمارات دول الحلف في مجال الدفاع والأمن، لمواجهة التهديدات والتحديات الأمنية العميقة ومن بينها الإرهاب؛ الذي لا زال مرتبطاً في الذهنية الغربية بالمجال الجغرافي الممتد من شرق المتوسط وحتى الساحل الإفريقي. إضافة إلى ذلك، بدا ملحوظاً أن تصريحات ترامب على هامش على هذه القمة قد ركزت على نتائج الهجمات المتبادلة بين إيران والكيان الصهيوني، وتأكيده أن الضربات الأمريكية التي استهدفت مواقع نووية إيرانية "دمرت كل ما لم يتمكن الكيان الصهيوني من تدميره"؛ ما أدى إلى إنهاء الحرب. كما ألمح ترامب إلى اقتراب التوصل إلى اتفاق بشأن غزة. كما حرص أمين عام الناتو، مارك روته، على الإشادة بترامب، لاتخاذه إجراءات "حاسمة" ضد إيران، على حد وصفه.

أما بالنسبة لقمة المجلس الأوروبي، وعكس الناتو، فإن بيان بروكسل أبرز اهتمام الزعماء الأوروبيين بمتابعة آخر التطورات في الشرق الأوسط، مع تأكيد التزام الاتحاد الأوروبي بشكل كامل بالمساعدة على تهدئة الوضع وتقليل التوترات في المنطقة، ومواصلة تقديم مساعداته لشعوب المنطقة، وتوسيع نطاق مشاركته الإنسانية. 

ويُلاحظ أن القمة الأوروبية كانت أكثر وضوحاً من قمة الناتو في توجيه رسائل سياسية ضد الممارسات الإسرائيلية في غزة، حيث استخدمت مثلاً رئيسة المفوضية الأوروبية، فون دير لاين، مصطلحات غير مألوفة عندما تحدثت عن هذه الممارسات. كما دعا المجلس الأوروبي إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، والإفراج غير المشروط عن جميع الرهائن. وتناول المجلس التقرير المتعلق بامتثال الكيان الصهيوني للمادة الثانية من اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والكيان، ودعا إلى مواصلة المناقشات بشأن متابعة هذا الأمر، وهنا ظهر أن ثمة جبهة قوية تقودها ألمانيا وإيطاليا تقف بوجه دول أخرى، في مقدمتها إسبانيا وبلجيكا وأيرلندا، طلبت من القمة تعليق هذه الاتفاقية.

وفي مواجهة الانتقادات التي وجهت لدول أوروبا بشأن تراجع دورها في أزمات المنطقة وتحديداً المواجهة الأخيرة بين الكيان الصهيوني وإيران، فقد اكتفى بيان بروكسل بالترحيب بوقف هذه الحرب، مؤكداً الدعم الأوروبي للجهود الدبلوماسية؛ بهدف التوصل إلى حل دائم للقضية النووية الإيرانية. كما حظيت الأوضاع في سوريا ولبنان وليبيا باهتمام أوروبي، من خلال تأييد رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على دمشق، ودعم جهود السلطات اللبنانية الجديدة الرامية إلى استقرار الوضع الاقتصادي والأمني في هذا البلد، فضلاً عن دعم بعثة الأمم المتحدة في ليبيا.



المراجع:

حسين معلوم،8، 7، 2025، رسائل جيوسياسية وعسكرية غربية في قمتي لاهاي وبروكسل، مركز المستقبل.

إبراهيم السيد، 9 يوليو 2025، القمتان الأطلسية والأوروبية: قراءة في المضامين، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.

المقالات الأخيرة