قمة أستانا: لماذا تسعى إيطاليا لتعزيز علاقاتها مع آسيا الوسطى؟
فرع بنغازي

استضافت العاصمة الكازاخستانية أستانا، في 30 مايو 2025، القمة الأولى بين إيطاليا ومنطقة آسيا الوسطى، بمشاركة قادة دول المنطقة الخمس - كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، تركمانستان، أوزبكستان- ورئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، والتي عُقدت القمة بالتزامن مع جولتها في المنطقة خلال الفترة من 28إلى 30 من الشهر نفسه، والتي زارت خلالها كازاخستان وأوزبكستان. 

وقد هدفت القمة إلى تعزيز العلاقات بين الجانبين في ظل تصاعد التنافس بين القوى الدولية والإقليمية الكبرى على النفوذ في آسيا الوسطى، وعلى رأسها الصين وروسيا، على خلفية الأهمية الجيوسياسية المتزايدة التي تحظى بها المنطقة، بجانب امتلاكها موارد طبيعية ومعدنية هائلة، ولا سيما المعادن الأرضية النادرة.

سياقات متنوعة:

عُقدت القمة الأولى بين إيطاليا وآسيا الوسطى في ظل سياقات متنوعة، سواء بالنسبة لطرفيها، أم على المستويين الإقليمي والدولي، ويمكن توضيح ذلك في الآتي:

1. تنامي التعاون بين الطرفين: ترتبط إيطاليا بعلاقات شراكة قوية مع منطقة آسيا الوسطى، وخاصة في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية، وذلك على المستويين الثنائي ومتعدد الأطراف؛ إذ شهدت فترة ما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، تنامياً ملحوظاً في التفاعل الدبلوماسي بين روما ودول المنطقة؛ حيث قام رئيسا أوزبكستان وكازاخستان بزيارة إيطاليا في عامي 2023 و2024 على التوالي. فيما زار الرئيس الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا، أوزبكستان في عام 2023، وكازاخستان في عام 2025.

 

وعلى المستوى الجماعي، كانت إيطاليا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تبادر في عام 2019 إلى التعاون مع آسيا الوسطى في ظل صيغة (5+1). وفي 29 مايو 2024، عُقد المؤتمر الوزاري الثالث لآسيا الوسطى وإيطاليا في روما؛ حيث أكدت الأخيرة التزامها بتعزيز التعاون مع آسيا الوسطى في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية، والمياه والطاقة، والبيئة، والنقل، والسياحة، والتعليم.

2. التوجه الأوروبي لتعزيز العلاقات مع آسيا الوسطى: جاءت القمة في سياق توجه ملحوظ من جانب أوروبا في الآونة الأخيرة لتفعيل وتعزيز العلاقات مع آسيا الوسطى في كافة المجالات، وخاصة السياسية والاقتصادية والأمنية؛ وهو ما انعكس في القمم المشتركة التي عُقدت بين الطرفين مؤخراً. فقد عُقدت القمة الأولى بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى في 4 إبريل 2025، في سمرقند بأوزبكستان، وأكَّدت الالتزام بتعميق التعاون بين الطرفين، والارتقاء بالعلاقة إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية.

كما عُقدت القمة الثانية بين ألمانيا وآسيا الوسطى، في 17سبتمبر 2024، في أستانا بكازاخستان، وركزت على المجالات ذات الأولوية للتعاون الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي بين الطرفين.

3. توجه آسيا الوسطى نحو تنويع شراكاتها الدولية: تعمل دول آسيا الوسطى في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، على توسيع نطاق تعاملها مع الجهات الفاعلة الخارجية لضمان أمنها السياسي والاقتصادي والعسكري؛ حيث تسعى هذه الدول بنشاط إلى بناء علاقات وتحالفات مع قوى عالمية وإقليمية أخرى، مثل الصين وتركيا والاتحاد الأوروبي. وتعمل دول آسيا الوسطى على تنويع ارتباطاتها وشراكاتها الاقتصادية؛ حيث تتعاون مع الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق لجذب الاستثمارات الصينية وتطوير البنية التحتية، إضافة إلى فتح أسواق جديدة لسلع آسيا الوسطى. كما تتعاون أيضاً مع الاتحاد الأوروبي في إطار مبادرة "البوابة العالمية" التي طرحها الاتحاد، فضلاً عن توجهها نحو تعزيز علاقاتها الاقتصادية والثقافية مع تركيا.

4. التنافس الدولي على النفوذ في آسيا الوسطى: تشهد منطقة آسيا الوسطى في الفترة الأخيرة تنافساً كبيراً على النفوذ بين القوى الإقليمية والعالمية الكبرى، في ضوء ما تتمتع به المنطقة من أهمية ومكانة جيوسياسية واقتصادية متنامية في النظام الدولي الراهن الذي يتجه نحو تعددية الأقطاب. فقد مثلت الحرب في أوكرانيا فرصة سانحة للعديد من القوى الإقليمية والدولية لزيادة انخراطها وعلاقاتها مع دول منطقة آسيا الوسطى؛ ومن ثم زيادة نفوذها وتأثيرها في هذه المنطقة الهامة من العالم، وعلى رأس هذه القوى الصين، وروسيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وتركيا. ومن هنا، فإنه يمكن النظر إلى إيطاليا باعتبارها إحدى القوى الإقليمية المتوسطة التي تسعى إلى مجاراة القوى الإقليمية والدولية الكبرى الأخرى التي تتنافس على النفوذ والهيمنة في آسيا الوسطى.

دوافع مُتبادلة:

جاء انعقاد القمة الأولى بين إيطاليا وآسيا الوسطى من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسية الإستراتيجية والاقتصادية والأمنية والثقافية للطرفين، وذلك على النحو التالي:

1. تعزيز الدور الإيطالي في أوراسيا: ترغب إيطاليا في تعزيز دورها في منطقة أوراسيا، والتي تُعد جمهوريات آسيا الوسطى جزءاً أصيلاً منها. فقد مثلت جولة ميلوني في المنطقة تحوّلاً رسمياً في نهج إيطاليا تجاه آسيا الوسطى؛ إذ تسعى روما إلى توسيع نفوذها في المنطقة، من خلال المشاركة السياسية المباشرة، والتعاون الأمني، والشراكات الاقتصادية. وقد هدفت الزيارة إلى البناء على التنسيق الأخير بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى، وترسيخ مكانة إيطاليا كفاعل جاد في الشؤون الإقليمية. كما هدفت الجولة أيضاً إلى تعميق العلاقات مع كازاخستان وأوزبكستان؛ حيث تنظر الحكومة الإيطالية إلى الجولة كفرصة استراتيجية لتشكيل نفوذ الاتحاد الأوروبي في آسيا الوسطى، ومواجهة ضغوط روسيا والصين.

2. الحد من الاعتماد المتزايد على الصين وروسيا: تعمل دول آسيا الوسطى على توسيع علاقاتها مع الشركاء الأجانب، وخاصةً الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بما يترتب عليه تنويع روابطها الدبلوماسية والاقتصادية، وذلك بهدف تقليل الاعتماد على روسيا والصين. 

وفي هذا الإطار، يُعد طريق النقل الدولي عبر بحر قزوين (والذي يُسمَّى بالممر الأوسطTITR ) ممراً مهماً لكل من إيطاليا والاتحاد الأوروبي لموازنة النفوذ الصيني. ويتيح الدعم المالي والفني الذي تقدمه روما لهذا المشروع لدول آسيا الوسطى شراكات نقل بديلة خارج روسيا والصين.

3. تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري: تسعى إيطاليا إلى تعزيز علاقاتها مع آسيا الوسطى؛ بهدف الحصول على مكاسب اقتصادية وتجارية مهمة، يترتب عليها دعم اقتصادها الوطني. ويأتي على رأس هذه المكاسب رغبتها في تنويع مصادر الطاقة، والسعي نحو تعزيز الممرات البديلة لمبادرة الحزام والطريق الصينية المتمركزة في أوروبا، فضلاً عن التحول إلى مركز اقتصادي ولوجستي على محور البحر الأبيض المتوسط وآسيا الوسطى.

وتُعد آسيا الوسطى سوقاً واعدة للآلات الإيطالية وتقنيات الطاقة والصادرات الزراعية والصناعية. كما يتوقع أن يُكمل الوصول إلى احتياطيات المعادن الهائلة في المنطقة جهود إيطاليا الرامية إلى إنشاء سلاسل توريد مستدامة لدعم اقتصادها؛ وهو ما يتماشى مع رغبة دول آسيا الوسطى في نقل التكنولوجيا من أوروبا لتعزيز التنمية الصناعية وتقليل اعتمادها على الصين وروسيا.

وإلى جانب جذب الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الاقتصادات المحلية؛ فإن تعاون دول المنطقة مع إيطاليا سيساعدها على الوفاء بالتزاماتها المناخية مع ضمان أمن الطاقة. كما تعمل كازاخستان وأوزبكستان على تعزيز مكانتيهما كموردين محتملين للكهرباء الخضراء إلى أوروبا، من خلال الكابلات البحرية في بحر قزوين والبحر الأسود.

4. تعزيز التعاون الأمني: تمثل أحد أهداف جولة ميلوني في منطقة آسيا الوسطى في بحث إمكانيات تعزيز التعاون الأمني والدفاعي مع دول المنطقة، وخاصة كازاخستان، في ظل الحديث عن التعاون بين الدولتين في مجالات برامج التدريب المشتركة، والتبادلات في مجال الأمن السيبراني، وإمكانية الإنتاج المشترك للمعدات العسكرية؛ وهو الأمر الذي يتيح لإيطاليا تعزيز حضورها الأمني في المنطقة من جهة، وتقليل اعتماد كازاخستان من الناحية الأمنية على روسيا والصين، من جهة أخرى.

5. الترويج لعناصر القوة الناعمة الإيطالية: لا تقتصر دوافع اهتمام إيطاليا بمنطقة آسيا الوسطى على البُعد الاقتصادي والتجاري فقط؛ ولكنها تشمل أيضاً البُعدين الدبلوماسي والثقافي؛ حيث تحرص إيطاليا على الترويج لنفسها في آسيا الوسطى باعتبارها قوة محايدة أيديولوجياً ولا تتدخل في الشؤون الداخلية للآخرين؛ وهو ما يجعلها تتمايز عن غيرها من الدول الأوروبية الأخرى، ويُمكّنها من بناء علاقات ثقة متبادلة مع دول المنطقة. إضافة إلى ذلك، تُمهّد الدبلوماسية الثقافية، وهي إحدى الأدوات المهمة للسياسة الخارجية الإيطالية، وفرص التعاون الأكاديمي والتقني في آسيا الوسطى، الطريق لبناء "القوة الناعمة" الإيطالية.

مُخرجات إيجابية:

تمخضت قمة إيطاليا وآسيا الوسطى عن العديد من النتائج والدلالات الإيجابية التي تعزز العلاقات بين الطرفين في كافة المجالات، وترتقي بها إلى حقبة جديدة، ويمكن توضيح ذلك في الآتي:

1. تعميق الشراكة الاستراتيجية: اتفقت إيطاليا وآسيا الوسطى على تعزيز علاقات الشراكة الاستراتيجية بينهما، وتشمل مجالات التركيز الرئيسية التعاون في الاقتصاد والطاقة، وتطوير البنية التحتية للنقل، ومواجهة التحديات البيئية، وتعزيز الأمن، وتوسيع العلاقات الإنسانية، إضافة إلى الحوار متعدد الأطراف لتحقيق التنمية المستدامة والسلام والاستقرار، وإرساء أسس متينة لمزيد من التعاون. كما أبدت إيطاليا دعمها لجهود دول آسيا الوسطى في تعزيز التعاون الإقليمي، فضلاً عن دعم مبادرات إيطاليا في مجالات الأمن وحماية البيئة والبنية التحتية، إلى جانب الأنشطة التي تعزز الابتكار والتعاون الإقليمي.

2. تفعيل الروابط الاقتصادية والتجارية: عكس البيان المشترك الصادر في ختام القمة وجود إدراك متزايد من جانب إيطاليا وآسيا الوسطى بأهمية تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ وهو ما تجلى في تأكيد ضرورة التعاون في مجالات الطاقة، والمواد الخام الحيوية، والمياه، والربط عبر بحر قزوين، كنقاط محورية في الأجندة الاستراتيجية لإيطاليا وآسيا الوسطى. 

ويتوقع أن تعمل شركة إيني الإيطالية للطاقة على توسيع جهودها في مجال استكشاف النفط في كازاخستان، وخاصة بعد الصفقة التي تم توقيعها بقيمة 4 مليارات يورو خلال زيارة ميلوني. كما قد تتجه الشركة أيضاً إلى الاستثمار في قطاع الطاقة المتجددة المزدهر في كازاخستان. 

كما أكد الطرفان أهمية تطوير طريق النقل الدولي عبر بحر قزوين كممرّ فعّال بين آسيا الوسطى وأوروبا. وتمت دعوة الشركات الإيطالية إلى المشاركة في مشاريع النقل والبنية التحتية والخدمات الاستشارية، وأبدت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، دعمها لرغبة قادة المنطقة في إنشاء بنية تحتية محلية للمعالجة ذات قيمة مضافة، فيما يتصل بالمواد الخام الحيوية؛ الأمر الذي قد يُسهم في تنويع اقتصادات دول المنطقة واستقطاب الخبرة التكنولوجية الإيطالية. وفي السياق ذاته، شهدت زيارة ميلوني إلى كازاخستان وأوزبكستان توقيع اتفاقيات بقيمة 7 مليارات يورو في قطاعات متنوعة، بما في ذلك النفط والغاز، والطاقة المتجددة، وإدارة المياه.

3. تعزيز التعاون في المجالات الأمنية: يحظى البُعد الأمني بأهمية كبيرة في إطار جهود روما لتعزيز دورها في آسيا الوسطى؛ وهو ما انعكس في دعوة البيان المشترك للقمة إلى التعاون في مجالات مثل مكافحة الإرهاب، وأمن الحدود، ومكافحة الجريمة المنظمة. ومع ذلك، فإن محدودية قدرات إيطاليا في هذه المجالات، رغم عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، قد تُقلل من إمكانيات التعاون الأمني مع آسيا الوسطى.

4. تعميق الشراكة الاستراتيجية بين إيطاليا وأوزبكستان: دشنت زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، إلى أوزبكستان، مرحلة جديدة في العلاقات بين الدولتين، بتوقيع العديد من اتفاقيات التعاون الاستراتيجي في مجالات مُختلفة، بما في ذلك الاستثمار، والمواد الخام، والهجرة، والتعليم، والتجارة. كما عززت الشراكات الجامعية الجديدة والدبلوماسية الثقافية الروابط التعليمية والثقافية؛ وهو ما يعزز الحضور الجيوسياسي لإيطاليا في آسيا الوسطى. وتُظهر الاتفاقيات الموقعة خلال زيارة ميلوني رغبة إيطاليا في دمج شركاتها، وخاصةً الشركات الصغيرة والمتوسطة، في الإصلاحات الصناعية في أوزبكستان، لا سيما في قطاعات المنسوجات والطاقة الخضراء والاستدامة والتعليم. وإلى جانب التعاون الاقتصادي، تُعزز الدبلوماسية الثقافية والتبادلات الأكاديمية الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد.

5. قيود وتحديات: على الرغم من أن قمة أستانا أسفرت عن إعلان سياسي شامل يُعيد تأكيد رؤية التعاون متعدد الأطراف بين إيطاليا ودول آسيا الوسطى؛ فإن ثمة قيوداً هيكلية ونقاط ضعف جيوسياسية لا تزال تعوق تنفيذ هذه الرؤية؛ حيث تواجه أهداف التحوّل في قطاع الطاقة، وترابط البنية التحتية، والأمن المائي، والتكامل الاقتصادي، الواردة في نص الإعلان، خطر التعارض مع توازن القوى الواقعي والظروف الأمنية في المنطقة.

 

وفي التقدير، يمكن القول إنه رغم نجاح جولة ميلوني في آسيا الوسطى، والتي تزامنت مع انعقاد قمة أستانا الأولى بين إيطاليا ودول المنطقة، في تعزيز العلاقات بين الطرفين، كما عكستها النتائج التي أسفرت عنها زيارتها إلى كل من كازاخستان وأوزبكستان، وكذلك ما تضمنه الإعلان السياسي المشترك الصادر في ختام القمة من رؤى وأفكار لتطوير العلاقات بين الطرفين في كافة المجالات؛ فإن نجاح إيطاليا ودول آسيا الوسطى في تطبيق هذه الرؤى والأفكار على أرض الواقع يظل مرهوناً بمدى قدرتهما على مواجهة التحديات العديدة التي قد تحول دون تحويل رؤيتهما لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بينهما إلى واقع ملموس، وعلى رأسها التنافس الدولي المحتدم على النفوذ في آسيا الوسطى.

 

المراجع

ب،ن، 18/6/2025، لماذا تسعى إيطاليا لتعزيز علاقاتها مع آسيا الوسطى؟، المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة.

هنا داود، 24/6/2025، سياسة آسيا الوسطى في إيطاليا في سياق قمة أستانا، موقع شاف.

المقالات الأخيرة