اقتصاد النفط في ليبيا التحديات والفرص لتحقيق التنوع الاقتصادي
فرع بنغازي

يمثل النفط العمود الفقري للاقتصاد الليبي منذ أكثر من ستة عقود، حيث يساهم بأكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وأكثر من 90% من إيرادات الحكومة، و 95% من إجمالي الصادرات. هذا الاعتماد شبه الأحادي جعل الاقتصاد الليبي رهينة لتقلبات أسعار النفط العالمية وأداةً للصراعات الداخلية، حيث أصبحت المنشآت النفطية ورقة ضغط سياسية رئيسية. إن معالجة إشكالية الاعتماد على النفط تتطلب فهمًا عميقًا للتحديات المزدوجة التي يواجهها القطاع النفطي نفسه والاقتصاد الكلي، وفي المقابل، استغلال الفرص الكامنة في القطاعات غير النفطية لبناء اقتصاد متنوع ومستدام.

التحديات التي تواجه القطاع النفطي والاقتصاد الكلي

1التحديات الأمنية والسياسية (المعوق الرئيسي):

توقف الإنتاج المتكرر: والتي أدت إلى خسائر تقدر بعشرات المليارات من الدولارات. يُقدَّر أن متوسط الإنتاج اليومي يتذبذب بشدة بين 1,1 إلى 1,3 مليون برميل، وهو أقل بكثير من الطموح المستهدف البالغ 2 مليون برميل.

تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر: بيئة عدم الاستقرار تثقل كاهل الشركات الدولية العاملة (مثل إيني، توتال، بي بي) وتثني عن دخول مستثمرين جدد. هذا التردد يحرم ليبيا من التكنولوجيا المتطورة والخبرات اللازمة لاستكشاف حقول جديدة وتعزيز كفاءة الحقول القائمة، ناهيك عن تطوير البنية التحتية المتهالكة.

2التحديات الهيكلية والاقتصادية:

الاعتماد الأحادي والإدارة الاقتصادية المشوهة: أدت وفرة الإيرادات النفطية تاريخيًا إلى إهمال تام للقطاعات الإنتاجية الأخرى (زراعة، صناعة، سياحة)، وظهور ما يعرف بـ "المرض الهولندي"، حيث أصبحت الواردات أرخص من الإنتاج المحلي، مما قتل أي محاولة للتصنيع أو الزراعة التنافسية.

تأثير تقلبات الأسعار: لا تمتلك ليبيا صندوقًا سياديًا قويًا (مثل النرويج) لامتصاص صدمات الأسعار. أي انهيار في أسعار النفط (كما حدث في 2014-2015 و 2020) يؤدي فورًا إلى عجز في الميزانية، وتأجيل المشاريع التنموية، وتراكم الديون، وعدم القدرة على دفع الرواتب في بعض الأحيان.

_ الفساد المالي والإداري: يعيق الفساد وغياب الشفافية التوزيع العادل للثروة، ويقلل من العوائد الفعلية التي تعود إلى الخزينة العامة من عوائد النفط، مما يحد من رأس المال المتاح للاستثمار في مشاريع التنويع الاقتصادي.

فرص تحقيق التنوع الاقتصادي: من النظرية إلى التطبيق 

على الرغم من التحديات، تمتلك ليبيا إمكانيات هائلة يمكن أن تشكل نواة لاقتصاد متنوع إذا ما تمت إدارتها بسياسات حكيمة.

1الطاقة المتجددة (القطاع الواعد):

الإمكانيات: تتمتع ليبيا بأحد أعلى معدلات الإشعاع الشمسي في العالم، بتقديرات تصل إلى أكثر من 3500كيلوواط ساعة لكل متر مربع سنويًا. هذا يمثل ثروة قومية تفوق ثروة النفط في استدامتها.

_ التطبيقات: يمكن إنشاء مشاريع عملاقة للطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء، ليس فقط لتلبية الطلب المحلي المتزايد بل ولتصدير الفائض إلى أوروبا عبر شبكات الربط مع إيطاليا ومالطا. كما يمكن استخدام الطاقة الرخيصة لتشغيل محطات تحلية المياه دعمًا للزراعة.

2القطاع الزراعي (إحياء الواحات والساحل):

الإمكانيات: تمتلك ليبيا مساحات شاسعة صالحة للزراعة، خاصة في المناطق الجنوبية (فزان) والساحل الليبي. تمتلك البلاد أيضًا احتياطيات كبيرة من المياه الجوفية (غير المتجددة في معظمها، مما يتطلب إدارة حذرة).

التطبيقات: الاستثمار في الزراعة الحديثة المعتمدة على الري بالتنقيط والصوبات الزراعية يمكن أن يحقق الأمن الغذائي في منتجات استراتيجية مثل التمور والزيتون والخضروات، ويقلل من فاتورة الاستيراد التي تبلغ مليارات الدولارات.

3السياحة (كنز مهمل):

الإمكانيات: تمتلك ليبيا إرثًا ثقافيًا فريدًا يشمل خمسة مواقع مسجلة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي (لبدة الكبرى، صبراتة، شحات، تادرارات أكاكوس، غدامس).

التطبيقات: يمكن تطوير سياحة متخصصة (أثرية، صحراوية، ثقافية) تكون عالية الجودة ومنخفضة الكثافة، مما يدر عائدات اقتصادية كبيرة ويوفر آلاف الفرص الوظيفية، بعد تحقيق الاستقرار الأمني.

4الصناعات التحويلية والبتروكيماوية:

الإمكانيات: بدلاً من تصدير النفط الخام والغاز بسعر منخفض، يمكن إنشاء صناعات تحويلية لتعظيم القيمة المضافة.

التطبيقات: تطوير صناعة البتروكيماويات (أسمدة، بلاستيك، ميثانول) والصناعات المرتبطة بالغاز. كما يمكن إحياء الصناعات التقليدية مثل الأسمنت (باستخدام الغاز المحلي) ودعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة.

خارطة الطريق لتحقيق التنوع: توصيات استراتيجية

تحقيق التنوع الاقتصادي لا يحدث بين عشية وضحاها، بل يتطلب خطة مرحلية واضحة:

 

1الشرط الأساسي: تحقيق الاستقرار السياسي والأمني وإنشاء حكومة موحدة قادرة على فرض سيادة القانون وإدارة الموارد بطريقة شفافة.

2الإصلاح المؤسسي والمالي: إصلاح النظام المصرفي، ومكافحة الفساد بصرامة، وإنشاء هيئة مستقلة لإدارة الاستثمارات.

3تهيئة بيئة الأعمال: سن قوانين تشجع الاستثمار المحلي والأجنبي في القطاعات غير النفطية، وتسهيل منح التراخيص، وتقديم حوافز ضريبية وجمركية.

4إصلاح سوق العمل والاستثمار في رأس المال البشري: تطوير المناهج التعليمية والتدريب المهني لتلبية احتياجات سوق العمل في القطاعات الجديدة.

5الاستفادة من عائدات النفط الحالية لتمويل التنويع: توجيه جزء من الإيرادات النفطية الحالية إلى صندوق سيادي يستثمر بشكل استراتيجي في مشاريع البنية التحتية للطاقة المتجددة والزراعة والصناعة.

خاتمة:  

الاعتماد على النفط في ليبيا هو لعنة ونعمة في آن واحد. فهو مصدر ثروة سريعة، ولكنه أيضًا مصدر للتقلب وعدم الاستقرار. المستقبل الاقتصادي للبلاد مرهون بقدرتها على اجتياز التحديات السياسية والأمنية الراهنة، والبدء فورًا في تنفيذ رؤية استراتيجية طموحة لاستغلال الفرص الهائلة المتاحة خارج دائرة النفط. التنوع الاقتصادي هو الضمانة الوحيدة لتحقيق تنمية مستدامة وتوفير فرص عمل للأجيال القادمة، وبناء دولة مستقرة ومزدهرة.

 

المراجع:

_  الزوي، محمد. (2020). النفط والاقتصاد الليبي: دراسة في التبعية النفطية. مركز دراسات المستقبل، طرابلس.

_ الشريف، علي. (2018). تحديات التنويع الاقتصادي في ليبيا: رؤية مستقبلية. مركز البحوث والدراسات الليبية، بنغازي.

 

المقالات الأخيرة