أصدرت منظمة الأونكتاد في سبتمبر 2025 تقرير تحت عنوان ” مستجدات التجارة العالمية: عدم اليقين في السياسة التجارية يخيم على الأسواق العالمية”. يسلّط التقرير الضوء على أن عدم اليقين في السياسات التجارية أصبح المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار العالمي، يُشير التقرير تحديدًا إلى تأثير سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها أكبر مستورد في العالم؛ حيث أن أي تغيير طفيف في سياساتها التجارية يمكن أن يُحدث صدمات عالمية ويعيد تشكيل سلاسل التوريد وتدفقات التجارة.
تزيد التوترات العالمية والتحديات الاقتصادية من عدم اليقين في السياسات التجارية؛ مما يدفع بدوره للتقلبات التجارة ويزيد من المخاطر على الاقتصادات المعتمدة على التبادل التجاري. غالبًا يكون عدم اليقين في السياسات التجارية أكثر إرباكًا من التغييرات بالتعريفات الجمركية؛ حيث يمكن للشركات التكيف مع التكاليف المتزايدة، ولكنها تواجه صعوبة في التخطيط بظل تغيرات سياسية غير متوقعة.
اعتبارًا من عام 2025، ارتفع مستوى عدم اليقين بالسياسة التجارية لمستويات غير مسبوقة لمزيج من العوامل الاقتصادية وغير الاقتصادية. أصبحت السياسة التجارية تُستخدم بشكل متزايد لتحقيق الأهداف السياسية والأمنية والبيئية المحلية؛ وبالتالي يدفع الشركاء التجاريين للرد. مع إضعاف قواعد النظام التجاري الدولي، ولم يعد هناك ما يكبح هذه التحولات، يتناول هذا المقال التحليلي استعراضًا لأبرز النقاط التي تناولها التقرير.
عدم اليقين في السياسات التجارية يثير المخاوف الاقتصادية
تاريخيًا، كان عدم اليقين في السياسات التجارية محدودًا نسبيًا. فعلى مدى عقود، عملت الاتفاقيات متعددة الأطراف والإقليمية كعوامل استقرار؛ مما ثبط التغييرات المفاجئة ووفر القدرة على التنبؤ للأسواق العالمية. وكانت موجات عدم اليقين عادةً عارضة، مرتبطة بأحداث محددة مثل الصراعات الإقليمية، أو الاضطرابات التي سببتها جائحة كوفيد-19، أو التصدعات الإقليمية مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
اعتبارًا من عام 2025، تصاعد عدم اليقين في السياسات التجارية إلى مستويات غير مسبوقة، والذي يعتبر عائقًا رئيسيًا أمام الاقتصاد العالمي لامتداد تداعياته بصورة أبعد من التعريفات الجمركية. يظهر تأثيره بشكل واضح من خلال ثلاثة مجالات:
ارتفاع التكلفة، وتباطأ النمو، وغياب المنافسة تؤدي السياسات التجارية غير المتوقعة إلى زيادة كبيرة في التكاليف والتعقيدات التي تواجهها الشركات في تجارتها. فلتكيف مع هذه التقلبات، تضطر الشركات إلى الاحتفاظ بمخزون إضافي، واتخاذ تدابير للتحوط من الخسائر، بالإضافة إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد بشكل مستمر، هذه الإجراءات تُقلل من كفاءة العمليات وتزيد من التكاليف التشغيلية.
ويُعدّ التأثير السلبي لهذه السياسات أكثر حدة على الاستثمارات طويلة الأجل في القطاعات الحيوية مثل المصانع، التكنولوجيا، وتطوير القوى العاملة، كما يشتد هذا الأثر على الشركات الصغيرة والاقتصادات الهشة. عندما يصبح الوصول إلى الأسواق الرئيسية غير مضمون بسبب التغييرات المفاجئة في السياسات، تجد هذه الكيانات صعوبة بالغة في جذب رأس المال، وتنفيذ استراتيجيات تصدير مستدامة، وبناء القدرات الإنتاجية الضرورية لتحقيق النمو.
مخاطر على الاستقرار المالي والاقتصادي الكلي لا يقتصر تأثير عدم اليقين على التدفقات التجارية فحسب، بل يمتد ليشمل الأسواق المالية أيضًا، يمكن أن تؤدي التغييرات المفاجئة في السياسات إلى زعزعة أسعار الصرف، واضطراب تدفقات رءوس الأموال، وتشديد شروط الائتمان.
هذه العوامل بدورها تؤثر سلبًا على ثقة المستثمرين، وتُقيّد الوصول إلى التمويل التجاري، لا سيما في الاقتصادات النامية، بمرور الوقت، يمكن أن يغذي هذا الوضع ضغوطًا تضخمية تحافظ على ارتفاع أسعار الفائدة، وجدير بالملاحظة أن الجمع بين ارتفاع تكاليف الاقتراض وضعف الاستثمار يزيد من هشاشة المالية العامة؛ مما يقلص مساحة السياسات المتاحة لتحقيق النمو والتنمية.
تآكل الثقة وعدم القدرة على التنبؤ لعل أخطر تداعيات السياسات التجارية هو تآكل الثقة بين الشركاء التجاريين، فالقواعد الضعيفة أو التي تُنفذ بشكل انتقائي تُغذي حالة عدم اليقين؛ مما يُضعف الثقة في الممارسات التجارية العادلة، مع تراجع مصداقية الاتفاقيات القائمة، تلجأ الحكومات إلى الإجراءات الأحادية؛ مما يؤدي إلى ردود فعل متسلسلة تتسلل عبر سلاسل القيمة، هذه الدوامة تُعزز من عدم اليقين، وتجعل التعاون العالمي لمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى أكثر صعوبة.
مؤشر عدم اليقين في التجارة الدولية، يتتبع مؤشر عدم اليقين في التجارة العالمية “World Trade Uncertainty Index” مقياسًا لحالة عدم اليقين عالميًا في التجارة العالمية لحوالي 143 دولة. فكلما ارتفعت قيمة المؤشر، بالتالي ارتفع مستوى عدم اليقين والعكس صحيح. يتم قياس المؤشر من خلال حساب النسبة المئوية للكلمة “غير مؤكدةUncertain ” بالقرب من كلمة تتعلق بالتجارة في تقارير وحدة الاستخبارات الاقتصادي “Economic Intelligence Unit”.
كان المؤشر يتأرجح بين 0 و3000 نقطة حتى عام 2018؛ مما يعكس استقرارًا في التجارة بين الدول، إلا أنه بدءًا من يوليو 2018، ارتفعت قيمة المؤشر بشكل حاد ووصل في أغسطس 2018 لحوالي 12500 نقطة، مسجلًا أعلى مستوى له منذ عام 2008، ذلك لسلسلة الزيادات الجمركية المكثفة التي فرضتها الولايات المتحدة والصين. لكن انخفض المؤشر بالربع الأخير من عام 2018 إلى 2990 نقطة بعد أن توصلت الولايات المتحدة الأمريكية والصين لاتفاق لوقف التصعيد الجمركي بقمة مجموعة العشرين في ديسمبر 2018، لكنه عاود الارتفاع بشكل ملحوظ بالربع الأول من عام 2019 للتوسع الكبير بالرسوم الجمركية الأمريكية على الواردات من الصين بدًا من الأول من مارس ليسجل حوالي 20191 نقطة، بعد ذلك، تذبذب مؤشر عدم اليقين التجاري بشكل حاد؛ مما يعكس مستويات متزايدة من عدم الاستقرار وتباينًا في مستويات التجارة بين الدول.
خلال أبريل 2025، بلغ المؤشر أعلى مستوى له على الإطلاق عند حوالي 21 ألف نقطة، واستمر تلك الارتفاع حتى يونيو 2025 ليصل إلى 27.3 ألف نقطة مما يرجع لعدة العوامل:
تحولات السياسة التجارية الأمريكية: كانت الفترة التي أعقبت انتخابات نوفمبر 2024 في الولايات المتحدة الأمريكية محركًا رئيسيًا؛ حيث شهدت عودة التهديدات برفع الرسوم الجمركية وتصعيد التوترات التجارية.
إضعاف قواعد التجارة الدولية: شهد النظام العالمي تراجعًا في اتفاقيات التجارة متعددة الأطراف والإقليمية؛ مما قلل من القدرة على التنبؤ والاستقرار الذي ساعد سابقًا في استقرار التدفقات التجارية.
التنافس على المواد الخام: ساهم التنافس الشديد على المواد الخام في ارتفاع حدة عدم اليقين.
عدم الاستقرار الجيوسياسي: ساهمت الاضطرابات الجيوسياسية الواسعة والاختلال العام بأنماط التجارة بعد أواخر عام 2024 في خلق بيئة اقتصادية عالمية متقلبة.
التغيرات الحالية في السياسات التجارية وآثارها على الأسواق العالمية
تُعدّ التحولات الأخيرة في السياسات التجارية الأمريكية مثالًا ساطعًا على كيفية انتشار عدم اليقين في السياسات التجارية عبر الاقتصاد العالمي، فبصفتها أكبر اقتصاد ومستورد للسلع، يمكن لأي تغيير طفيف في السياسات الأمريكية أن يُعيد تشكيل سلاسل التوريد ويُغيّر التدفقات التجارية حول العالم.
عندما تتوقع الشركات حالة من عدم اليقين، فإنها تتحرك بشكل سريع من خلال وقف الشحنات، أو إعادة التفاوض على العقود، أو تسريع عمليات التسليم تحسبًا لأي زيادات جمركية محتملة -هذا السلوك يؤدي إلى أنماط تجارية أكثر تقلبًا- تجلى هذا بوضوح في أوائل عام 2025؛ حيث ارتفعت واردات الولايات المتحدة بشكل حاد قبل أن تنخفض بمجرد دخول الرسوم الجمركية الجديدة حيز التنفيذ في أبريل 2025.
لم يكن انتشار عدم اليقين في السياسات التجارية متساويًا بين الدول، فخلال النصف الأول من عام 2025، كانت التقلبات في واردات الولايات المتحدة من البلدان النامية والأقل نموًا أكثر حدة بكثير مقارنة بالواردات من الاقتصادات المتقدمة؛ مما يشير إلى تفاوت آثار التحولات في السياسات الأمريكية بين الدول؛ مما يُعرّض الاقتصادات الأكثر ضعفًا لاضطرابات أكثر شدة.
وبناءً عليه؛ لا تتأثر جميع الاقتصادات بشكل متساوٍ بـعدم اليقين في السياسة التجارية؛ فهناك عوامل رئيسية تمكّن بعض الدول أن تكون أكثر مرونة في مواجهة تلك الاضطرابات. كما تشكّل القدرة على تنبؤ حجر الزاوية في استقرار التجارة العالمية؛ حيث يؤثر الغموض السياسي سلبًا على سلاسل التوريد والاستثمار، خاصة في الاقتصادات النامية والشركات الصغيرة. وللتخفيف من هذه المخاطر، هناك خطوات عملية مقترحة لضمان تقليل مستوى عدم اليقين وتعزيز المرونة التجارية.
- تعزيز مرونة الدول في مواجهة عدم اليقين السياسة التجارية، يمكن للدول أن تعزز مرونتها التجارية من خلال:
- تنويع الأسواق التصديرية؛ مما يقلل بشكل كبير من تأثر الشركات والدول بعدم اليقين في السياسات التجاريةفالشركات التي لديها أسواق متعددة تكون في وضع أفضل لإعادة توجيه شحناتها عندما تزداد التوترات السياسية؛ مما يخفف من الأثر السلبي على المبيعات. وعلى المستوى الكلي، يمكن للبلدان التي لديها شبكة واسعة من الشركاء التجاريين أن تتجاوز فترات عدم اليقين بفاعلية أكبر؛ لأنها تستطيع تعويض الخسائر في منطقة واحدة بالمكاسب في مناطق أخرى.
مثال: خلال الربع الثاني من عام 2025، ارتفعت الصادرات الصينية بشكل حاد على الرغم من التوترات التجارية، بفضل امتلاكها لأسواق بديلة وعلاقات تجارية قوية؛ مما مكن الشركات الصينية من امتصاص - تأثير السياسات الأمريكية غير المتوقعة، والحفاظ على استقرار تدفقات الصادرات؛ مما حد من الآثار السلبية على الاقتصاد الكلي للبلاد.
- المشاركة في الاتفاقيات التجارية، تساعد اتفاقيات التجارة على حماية الاقتصادات من عدم اليقين في السياسات التجارية، فبفضل القواعد الثابتة وآليات حل النزاعات التي توفرها، تُقلل هذه الاتفاقيات من - - مخاطر التغييرات المفاجئة في السياسات المحلية والدولية عادةً ما تواجه الشركات العاملة ضمن أطر إقليمية أو ثنائية اضطرابات أقل وتتمتع بثقة أكبر لإجراء استثمارات طويلة الأجل، حتى في ظل التقلبات العالمية وتؤكد البيانات التاريخية أن التجارة التي تتم خارج هذه الاتفاقيات تكون أكثر تقلبًا.
خلاصة ما سبق، في ظل التحديات التي يفرضها عدم اليقين المتزايد، قدم تقرير الأونكتاد خارطة طريق واضحة لاستعادة الاستقرار في التجارة العالمية وتخفيف آثار الغموض الاستراتيجي، تتركز هذه التوصيات على خمس خطوات عملية:
الإخطار المسبق: يجب على الحكومات إعلان الإجراءات التجارية المقترحة مسبقًا؛ مما يمنح الشركات والشركاء التجاريين الوقت الكافي للتكيف وتعديل استراتيجياتهم.
الشفافية في صنع السياسات: ينبغي أن تستند السياسات إلى منطق واضح وتحليل اقتصادي قائم على البيانات؛ مما يساعد المستثمرين على التخطيط بثقة.
تعزيز التنسيق الدولي: تُعدّ المؤسسات الدولية مثل الأونكتاد ومنظمة التجارة العالمية ضرورية لمساعدة الدول على تنسيق استجاباتها وتجنب دوامات الانتقام التجاري.
تفعيل الالتزامات التجارية: يجب تعزيز الاتفاقيات التجارية بقواعد واضحة وآليات فاعلة لتسوية النزاعات؛ مما يحد من نطاق الغموض الاستراتيجي ويقلل من مخاطر الصدمات المفاجئة.
تنويع الأسواق: يُمكّن تنويع الأسواق التصديرية الدول من تخفيف تأثير التغيرات السياسية في أي دولة شريكة؛ مما يعزز الاستقرار الاقتصادي العام.
إن العودة إلى بيئة تجارية أكثر قابلية للتنبؤ لم تعد مجرد أمنية، بل أصبحت ضرورة حتمية، فمن خلال تطبيق هذه الخطوات العملية، يمكن للعالم أن يتجاوز حالة الغموض الراهنة، ويُعيد بناء الثقة بين الشركاء التجاريين؛ مما يمهد الطريق نحو تحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل للجميع.
المصدر : المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
الكاتب : ندى بهاء
التاريخ : 9/10/2025
----------------------------------------------------------------------------------------
المصدر: أربيان بزنس
التاريخ : 17/4/2025