صراع الانتماء أجيال زد وألفا وبيتا
فرع القاهرة

يشهد العالم في العقدين الأخيرين تحولات رقمية غير مسبوقة، لم تقتصر على مجالات الاقتصاد والسياسة، بل طالت بنية المجتمع ذاته وطرق تشكّل الوعي الفردي والجماعي. ومع توسع الاعتماد على التكنولوجيا الذكية وانتشار المنصات الرقمية، لم تعد العائلة أو المدرسة أو حتى وسائل الإعلام التقليدية هي المصدر الأساسي لتنشئة الأجيال الجديدة، بل أصبحت هذه الأجيال تتغذى معرفيًا وثقافيًا من بيئات افتراضية مفتوحة عابرة للحدود. وفي هذا السياق، برزت تصنيفات مثل جيل Z (المولودون من منتصف التسعينيات حتى 2010)، وجيل ألفا (من 2010 حتى منتصف عشرينيات القرن الحالي)، وجيل بيتا المتوقع ظهوره بعد 2025، كمحور رئيسي للنقاش الأكاديمي والاجتماعي حول الهوية والانتماء.

لم تتشكل هذه الأجيال فقط في عالم مغاير لما عرفته الأجيال السابقة، بل باتت تعيش في فضاء رقمي متداخل؛ حيث الخوارزميات تحدد ما يشاهدونه، وما يتفاعلون معه، بل وأحيانًا ما يعتقدونه. ومن ثم، أصبحت الهوية الوطنية اليوم قضية مركّبة، تواجه منافسة قوية من هويات بديلة تنشأ داخل المجتمعات الافتراضية أو الجماعات الرقمية المغلقة. وهذا يثير تساؤلات جوهرية: كيف يمكن الحفاظ على الهوية الوطنية في ظل جيل يعيش انتماءً مزدوجًا بين الوطن الواقعي والوطن الافتراضي “الرقمي”؟ وهل لا تزال أدوات التنشئة التقليدية قادرة على مواجهة التدفق الهائل للمؤثرات الخارجية؟

الهوية الوطنية هي مفهوم اجتماعي - سياسي وثقافي يُشير إلى الشعور بالانتماء الجماعي الذي يربط الأفراد بدولة أو أمة معينة، ويُبنى على عناصر أساسية مشتركة مثل اللغة، التاريخ، الثقافة، القيم، المؤسسات، والرموز الوطنية، إلى جانب إدراك بوضع “نحن” مقابل “الآخر. الهوية الوطنية ليست ثابتة بالكامل، بل هي متغيرة عبر الزمن وتتأثر بالعوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية.

وفي السياقي العربي تُعرف الهوية الوطنية بأنها بناء تاريخي وثقافي واجتماعي يتشكل عبر تفاعل طويل بين مقومات الأرض والتاريخ واللغة والدين والقيم المشتركة، ويجسد في جوهره شعور الأفراد بالانتماء إلى وطن محدد يربطهم بذاكرة جماعية ورموز سياسية وثقافية جامعة. ففي الأدبيات العربية تُفهم الهوية الوطنية بوصفها منظومة من الخصائص والسمات الحضارية والاجتماعية التي تمنح الأمة تميزها وتُؤطّر ولاء مواطنيها.

 

 

جيل Z مواليد التسعينيات وحتى 2010

يُعد هذا الجيل أول من نشأ في ظل العولمة الرقمية بشكل كامل؛ حيث تشير الدراسات إلى أن ما يزيد على 70% من أفراده يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر أساسي للأخبار والمعلومات، في مقابل تراجع واضح لدور الإعلام التقليدي. هذا الانفتاح العالمي أتاح لهم فرصًا واسعة للاطلاع على ثقافات وتجارب متنوعة، وأسهم في تشكيل وعي سياسي واجتماعي أكثر انفتاحًا وتقبلاً للتعددية.              

لكن في المقابل، فإن هذا الانفتاح غير المنضبط أدى إلى تراجع قوة الرابط بالهوية المحلية، خاصة في ظل هيمنة الخطاب العابر للحدود وتنامي دور الرموز الثقافية العالمية (المؤثرون، المحتوى الترفيهي، القيم الفردية). وبذلك يمكن القول إن جيل   Z يعيش حالة من الازدواجية الهوياتية؛ بين انتماء وطني يتعرض للتآكل التدريجي، وانجذاب إلى هوية رقمية مفتوحة.

جيل ألفا مواليد 2010 وحتى منتصف عشرينيات 

يمثل جيل ألفا طفرة جديدة؛ إذ يعد أول جيل يعيش في بيئة رقمية متكاملة منذ لحظة ميلاده تقريبًا؛ حيث تتداخل تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والميتافيرس، والألعاب التفاعلية في تفاصيل حياته اليومية. نشأته على هذا النحو قد تعزز ارتباطه بالفضاء الافتراضي على حساب اندماجه في الواقع الوطني، بحيث يصبح انتماؤه للعالم الرقمي أعمق من ارتباطه بمحيطه الاجتماعي والثقافي، وهو ما يثير تساؤلات حول مستقبل الإحساس بالانتماء لدى هذا الجيل.     

ويمكن القول إن جيل ألفا، الذي يمتد ميلاده من عام 2010 حتى 2025؛ لا يزال في مرحلة عمرية مبكرة تتراوح بين الطفولة والمراهقة المبكرة؛ إذ يبلغ الأكبر فيهم اليوم نحو 15 عامًا، بينما الأصغر لا يزالون في طور الميلاد. هذه الخصوصية العمرية تجعلهم أكثر قابلية لإعادة التوجيه والتأثير، خاصة أنهم لم يدخلوا بعد بصورة كاملة إلى سوق العمل أو الحياة العامة. ومع ذلك، فإن نشأتهم داخل بيئة رقمية خالصة أكسبتهم قدرات فطرية في التعامل مع التكنولوجيا المعقدة، وهو ما يتيح فرصة استراتيجية أمام الحكومات والمجتمعات لتدارك المسار وبناء هوية وطنية رقمية بديلة قادرة على التفاعل مع قيمهم وطرائق تفكيرهم. 

جيل بيتا ابتداءً من 2025 : يُتوقع أن يكون جيل بيتا الأكثر تعقيدًا من حيث الهوية؛ نظرًا لأنه سيولد في زمن يتسم باندماج شبه كامل بين العالم الواقعي والعالم الرقمي. فمع التطور السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وواقع الميتافيرس الممتد، وظهور البيئات الافتراضية ثلاثية الأبعاد، قد تتشكل لدى هذا الجيل هويات هجينة يصعب التمييز فيها بين الوطني والافتراضي.

اختراق الوعي الجمعي عبر الفضاء الرقمي

لم يعد الفضاء الرقمي مجرد قناة للتواصل أو تبادل المعرفة، بل تحوّل إلى بيئة موازية قادرة على إعادة تشكيل أنماط التفكير والسلوك، خاصة بين الأجيال الجديدة. فالخوارزميات التي تدير المنصات الكبرى مثل “تيك توك” و”إنستغرام” و”يوتيوب” و”فيس بوك” لا تكتفي بعرض المحتوى، بل تُعيد توجيه وعي المستخدم عبر استهداف نفسي وسلوكي دقيق، مستندة إلى بياناته الشخصية وتفضيلاته الخفية. هذه الديناميكية تخلق “فقاعات معرفية” تجعل الفرد يعيش داخل عالم معلوماتي ضيق، يعزز أفكاره المسبقة ويفرض عليه سرديات معينة دون إدراك كامل منه.

وقد رصدت عدة تقارير أمنية وأكاديمية كيف تحولت هذه الخوارزميات إلى مدخل لاختراق الوعي الجمعي:

أوروبا: كشفت أجهزة الأمن عن حالات تجنيد رقمية لمراهقين عبر منصات الفيديو القصيرة؛ حيث تم دفعهم إلى تبني أفكار متطرفة عبر محتوى ترفيهي مموّه؛ مما أدى إلى تورط بعضهم في مخططات عنف.

الولايات المتحدة: أوضح تقرير Pew Research أن 46% من المراهقين الأمريكيين “شبه متصلين دائمًا”، وهو ما يعني تعرضهم المستمر لتدفقات معرفية غير مراقبة، تجعلهم أكثر عرضة لتبني أنماط هوية “عابرة للحدود الوطنية”.

ويُتوقع أن يكون جيل بيتا الذي ينشأ ابتداءً من 2025، الأكثر عرضة لهذه التحولات، بحكم أن بنيته الإدراكية والوجدانية ستتشكل في بيئة رقمية هجينة بالكامل؛ حيث الواقع والافتراض متداخلان بلا فواصل. ومن ثم فإن تشكيل وعيه الجمعي سيكون نتاجًا لمعادلة مركبة: خوارزميات ذكاء اصطناعي تعيد صياغة اهتماماته، ومجتمعات افتراضية تبني روابط تضامنية بديلة عن العائلة أو المدرسة، وسرديات إعلامية عابرة تعيد ترتيب أولويات الانتماء.

إعادة تشكيل الهوية الوطنية في الأجيال الرقمية

لم تعد الهوية الوطنية في العصر الرقمي محصورة في إطارها الثقافي أو التاريخي، بل تحولت إلى ملف أمني يرتبط مباشرةً باستقرار المجتمعات وتماسكها. فالأدوات الرقمية، بما تحمله من قوة في التأثير والإقناع، أصبحت الوسيلة الأبرز لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، خصوصًا لدى الأجيال الجديدة مثل جيل “ألفا” وجيل “بيتا”، الذين يُعدّون أكثر الفئات التصاقًا بالمنصات الرقمية واعتمادًا عليها في التعلم والتواصل والترفيه.

أولًا - أبرز آليات اختراق الهوية الوطنية في هذا السياق تتمثل في الخوارزميات الرقمية التي تتحكم في المحتوى المرئي والمقروء والمسموع. فهذه الخوارزميات لا تعمل على تنويع مصادر المعرفة أو تعزيز التعددية، بل على العكس تُنشئ ما يُعرف بـ”فقاعات المعلومات” التي تُحاصر الأفراد داخل أنماط فكرية وقيمية محددة. وهنا يصبح الجيل الرقمي أكثر عرضة لتبني سرديات بديلة عن السردية الوطنية؛ حيث تتحول قضايا الهوية والانتماء إلى موضوعات معاد تعريفها من منظور خارجي يتعارض مع المحلي.

ثانيًا - يبرز دور المؤثرين والمجتمعات الافتراضية كبدائل للانتماء الوطني التقليدي. فقد أصبح الانخراط في جماعات رقمية عابرة للحدود أكثر إشباعًا لحاجات الانتماء والتقدير الاجتماعي عند هذه الأجيال. وبذلك يتحول الولاء من “الوطن” إلى “الجماعة الافتراضية”؛ مما يؤدي إلى تآكل الرابط الوطني التقليدي. هذه الظاهرة تتضاعف خطورتها عندما تكون تلك الجماعات مدفوعة بأجندات سياسية أو أيديولوجية تسعى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي.

ثالثًا - تتجلى عملية إعادة تشكيل الوعي من خلال المحتوى الترفيهي والميمز والألعاب الإلكترونية. فالقيم والسرديات الجديدة لم تعد تُفرض عبر خطاب مباشر أو تقارير رسمية، وإنما عبر قوالب مبسطة وجذابة يسهل استهلاكها. ومن خلال التكرار اليومي والانتشار السريع، يتم تطبيع قيم ومفاهيم مغايرة للهوية الوطنية من دون أن يشعر بها المتلقي. وهنا يصبح الترفيه أداة لإعادة إنتاج الوعي، تتجاوز في تأثيرها ما يمكن أن تحققه الأدوات التعليمية التقليدية.

رابعًا - التضليل المنهجي وحملات المعلومات الموجهة؛ حيث تلعب البوتات والحسابات الوهمية دورًا في إعادة نشر الرسائل المضللة بشكل متكرر حتى تترسخ في الوعي العام كحقائق غير قابلة للنقاش. ويُسهم هذا النمط في إضعاف الثقة بالمؤسسات الوطنية وتغذية الانقسام المجتمعي، وهو ما يُعدّ تهديدًا مباشرًا للأمن الاجتماعي.

أما العلاقة المباشرة بالأجيال الرقمية، فتتمثل في أن هذه الأجيال تعتمد كليًا على الفضاء الرقمي بوصفه مصدرًا أوليًا للمعرفة والتواصل وبذلك يصبح الوعي الجمعي لديها نتاجًا لمنظومات خارجية لا تخضع لرقابة وطنية أو سيادة محلية وهذا ما يجعل عملية اختراق الهوية أكثر فاعلية؛ لأن القنوات التي تُغذي هذا الوعي تقع خارج نطاق سيطرة الدولة أو مؤسساتها التعليمية والإعلامية.

خلاصة القول، إن حماية الهوية الوطنية في عصر الرقمنة تتطلب رؤية بعيدة المدى تتجاوز الأدوات التقليدية في الإدارة والتواصل. فالفضاء الرقمي أصبح مجالًا مركزيًا لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، خصوصًا لدى الأجيال الجديدة التي تعيش معظم تفاصيل حياتها عبر المنصات الرقمية. ومن هنا، يصبح الاستثمار في التربية الرقمية أداة ضرورية لتزويد الشباب بقدرات نقدية تساعدهم على التعامل مع التدفق الهائل للمعلومات، والتمييز بين المحتوى الموثوق والخطاب المضلل؛ بما يحصنهم من محاولات الاختراق الناعمة التي تستهدف تفكيك الروابط الوطنية.

 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الكاتب : د.هالة فودة

التاريخ : 12/10/2025

-----------------------------------------------------------------------------

المصدر: اندبندنت عربية

الكاتب : كارين اليان ضاهر

التالريخ : 2/2/2025

المقالات الأخيرة