حروب الأجيال الرابعة والخامسة لاستهداف الوعي الشعبي
فرع القاهرة

يشهد عصرنا الحالي تطورات تكنولوجية واجتماعية سريعة، أدت إلى تحول طبيعة الحروب بشكل جذري تمامًا لم تعد الحروب تقتصر على الاشتباكات العسكرية التقليدية التي تعتمد بشكل أساسي على الجيوش النظامية، الدبابات، المدفعية، والطائرات الحربية، كما كان الحال في الحروب العالمية السابقة بل أصبحت تركز على استهداف العنصر الأكثر أهمية وحساسية في أي مجتمع: الوعي الجمعي للشعوب، الذي يمثل الأساس للاستقرار الاجتماعي والسياسي هذا التحول الاستراتيجي يأتي ضمن إطار نظرية “حروب الأجيال”، التي نشأت داخل مراكز الأبحاث الاستراتيجية الأمريكية في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين تحديداً لتفسير التحديات والصعوبات التي واجهت القوى العظمى في مواجهة الحركات المقاومة غير النظامية، مثل تلك التي حدثت في فيتنام خلال الستينيات والسبعينيات، وأفغانستان في الثمانينيات تقسم هذه النظرية الحروب إلى أجيال متتالية، تعكس تطور الأساليب العسكرية والاستراتيجية عبر التاريخ: الجيل الأول يمثل الحروب التقليدية بين الجيوش المنظمة، كما في الحروب النابليونية التي اعتمدت على تشكيلات كبيرة ومواجهات مباشرة؛ الجيل الثاني يركز على الحروب الجماهيرية مع استخدام الأسلحة النارية الثقيلة كما في الحرب العالمية الأولى؛ أما الجيل الثالث فيعتمد على الحركة السريعة، المناورة، والحرب الخاطفة كما شهدناها في الحرب العالمية الثانية مع استراتيجيات مثل “البليتزكريج” الألمانية؛ وأخيراً، الجيل الرابع الذي يدخل إلى عالم الحرب غير التقليدية، حيث تندمج العناصر المدنية والعسكرية.

حروب الجيل الرابع (4(GWتمثل نقلة نوعية كبيرة في الفكر العسكري، حيث تختفي الحدود الواضحة بين الحرب والسياسة، والعسكري والمدني، وتصبح الحرب حالة مستمرة غير معلنة تعتمد هذه الحروب على أساليب نفسية عميقة، إعلامية متقدمة، واقتصادية مدروسة لإضعاف الدول من الداخل، دون الحاجة إلى غزو عسكري مباشر يتطلب موارد هائلة ويثير ردود فعل دولية الهدف الرئيسي هو استهداف الوعي الشعبي بشكل مباشر، من خلال خلق انقسامات اجتماعية عميقة، تعزيز الشكوك في المؤسسات، وتشجيع ثورات مصنعة تبدو عفوية لكنها تؤدي إلى تفجير ذاتي للأوطان، مما يؤدي إلى انهيار داخلي يوفر على الخصم تكاليف الغزو أما حروب الجيل الخامس (5(GW، فهي تطور أكثر تعقيدان ، حيث تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات، وسائل التواصل الاجتماعي لنشر التضليل، والحرب الإلكترونية للسيطرة على المعلومات، مما يؤدي إلى السيطرة الكاملة على العقول وتدمير الهوية الوطنية دون إطلاق رصاصة واحدة. في هذا السياق، تصبح الدولة ليست هدفًا عسكريًا فحسب، بل يتم هزيمتها من خلال التأثير الخفي على تفكير شعبها وسلوكياته، مما يؤدي إلى إسقاط مؤسساتها دون إراقة دماء مباشرة أو خسائر مادية كبيرة للمهاجم.

 

ماهية حروب الأجيال الرابعة والخامسة

نشأت نظرية حروب الأجيال داخل مراكز الأبحاث الاستراتيجية الأمريكية، مثل تلك التابعة للجيش الأمريكي كمحاولة لتبرير الفشل في مواجهة المقاومة غير النظامية التي أظهرت فعالية كبيرة ضد القوى التقليدية. في عام 1989، قدم ويليام ليند وفريقه مفهوم الجيل الرابع، الذي يعتمد على مبدأ اللامركزية، حيث يصبح الخصم غير مرئي تمامًا، ويستخدم الإعلام كأداة للدعاية، الثقافة للتأثير على القيم، والاقتصاد للضغط غير المباشر كأسلحة رئيسية بدلًا من السلاح التقليدي. هذه الحروب تستهدف “النسق الاجتماعي” بشكل مباشر أي تدمير الروابط الاجتماعية التي تربط المجتمع، القيم الثقافية التي تشكل هويته، والثقة في المؤسسات الحكومية، مما يؤدي إلى انهيار الدولة ذاتياً دون تدخل خارجي واضح. نظريًا، تعتمد )4(GWعلى نظريات متقدمة مثل تلك الخاصة )بجون بويد في “دورة“OODAالمراقبة، التوجيه، القرار، العمل)، حيث يتم تعطيل قدرة الخصم على اتخاذ قرارات سريعة من خلال التضليل النفسي والإعلامي، مما يجعل الدولة تتخبط في ردود فعل غير فعالة.

بعد تعريف حروب الجيل الرابع، يبرز مفهوم “الحروب الشبحية” كامتداد أو شكل متطور من هذه الحروب غير التقليدية، حيث تُعرف بأنها عمليات سرية وغير مرئية تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية أو عسكرية دون ترك أثر واضح، مما يجعلها تبدو كأنها أحداث عفوية أو داخلية تمامًا. هذا المفهوم مستوحى من تجارب تاريخية حقيقية مثل دور وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية(CIA) في أفغانستان خلال الغزو السوفييتي في الثمانينيات، كما وثق بالتفصيل في كتاب“Ghost Wars” لستيف كول، الذي يصف كيف تم دعم المجاهدين بالسلاح والتدريب سرًا دون إعلان حرب رسمي، مما أدى إلى إضعاف الاتحاد السوفييتي تدريجيًا. في السياق العسكري الحديث، تعتبر الحروب الشبحية استراتيجية شاملة تنفذ عمليات بأداء نوعي عالي، لا تقبل الخطأ، وتستخدم أدوات متقدمة مثل الدعم السري للمجموعات المحلية، الحرب الإلكترونية الخفية لاختراق الشبكات، أو حتى الاغتيالات السياسية غير المعلنة لإضعاف الخصم دون مواجهة مباشرة مما يتجنب التداعيات الدولية هذه الحروب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحروب الجيل الرابع، حيث تعزز اللامرئية والتأثير غير المباشر، مما يجعلها أداة فعالة في استهداف الوعي الشعبي دون إثارة ردود فعل دولية فورية وغالباً ما تكون مقدمة لانهيار داخلي.

مع تقدم التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، دخلنا عصر الجيل الخامس، الذي يركز على “احتلال العقول” عبر وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي. هنا، تستخدم البيانات الكبيرة(Big Data) لتحليل سلوكيات الأفراد بدقة متناهية، وتوجيه حملات دعائية مخصصة تثير الغضب، اليأس، أو الشك في المؤسسات. )على سبيل المثال، خوارزميات فيسبوك أوXتويتر سابقًا) تعزز المحتوى السلبي بشكل تلقائي لخلق فقاعات إعلامية(Echo Chambers) تؤدي إلى انقسامات اجتماعية حادة وتعزيز الاستقطاب في السياق العام، أدرج حلف الناتو هذه المفاهيم في استراتيجياته عام 2009، مما دفع دولاً مثل روسيا والصين إلى تطوير دفاعات مضادة متقدمة، مثل قوانين السيطرة على الإنترنت وبرامج التوعية الإلكترونية. الغاية النهائية لهذه الحروب هي “التفجير الذاتي”، حيث يدمر الشعب وطنه عبر ثورات تبدو عفوية لكنها مدبرة بعناية من قبل جهات خارجية تستغل الثغرات الداخلية.

التفجير الذاتي عبر الثورات المصنعة وإسقاط المؤسسات

تهدف حروب الأجيال الرابعة والخامسة إلى إسقاط الدول دون تحمل تكاليف عسكرية باهظة أو مخاطر دولية كبيرة، من خلال استهداف الوعي الشعبي لخلق حالة من اليأس والغضب الجماعي الذي يؤدي إلى ثورات داخلية مدمرة هذه الثورات “المصنعة” تبدو كحركات شعبية عفوية نابعة من مطالب محلية، لكنها في الواقع مدعومة خارجيًا بشكل سري، تستغل الثغرات الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية لتعزيز الاضطراب في الربيع العربي عام 2011، 

كانت هذه الموجة جزءًا من حملة أوسع ومنظمة بدأت في تونس بانتحار محمد البوعزيزي، الذي أشعل شرارة الاحتجاجات، وانتشرت بسرعة إلى مصر، ليبيا، وسوريا، مما أدى إلى تغييرات جذرية في المنطقة. الدراسات اللاحقة تظهر أن هذه الثورات كانت مدعومة إعلامياً من قنوات مثل الجزيرة، التي ساهمت في تضخيم الأحداث، نشر الشائعات، وإثارة الغضب الشعبي من خلال تغطية حية مستمرة وتحليلات متحيزة. النتيجة كانت تفجيرًا ذاتيًا للأوطان، حيث أدى إلى انهيار مؤسسات الدولة في بعض البلدان، مثل ليبيا وسوريا، مما فتح الباب للفوضى، الإرهاب، والتدخلات الخارجية المباشرة تحت ستار المساعدات الإنسانية.

ترتبط أهداف هذه الحروب بنظرية “الفوضى الخلاقة” التي روجتها الإدارة الأمريكية في عهد جورج بوش الابن، والتي ترى في الثورات والفوضى فرصة لإعادة تشكيل المنطقة وفق مصالح غربية. هذا الدمج بين النظرية والحروب الشبحية يجعل غايات إسقاط المؤسسات أكثر فعالية، حيث تبدو الثورات داخلية بينما هي مدبرة خارجيًا  بعناية.

الشائعات والبرامج الموجهة من القنوات المعادية

الشائعات والبرامج الإعلامية المعادية تمثل أبرز الأدوات في حروب الأجيال الرابعة والخامسة لاستهداف الوعي حيث تعمل كسلاح ناعم يخترق المجتمع دون مواجهة مباشرة. 

ترتبط هذه الشائعات بالنظرية الرئيسية من خلال استخدام الإعلام كسلاح لاحتلال العقول، كما في نموذج الربيع العربي حيث ساهمت الجزيرة في تضخيم الأحداث من خلال تغطية مستمرة وشهادات متحيزة. هذا يؤكد أن الشائعات ليست عشوائية، بل جزء من استراتيجية ممنهجة للتفجير الذاتي.

أمثلة أخرى تشمل شائعات عن انهيار السد العالي بسبب سوء الصيانة، أو تسميم مياه النيل بمواد كيميائية، تهدف إلى خلق خوف جماعي وتشكيك في قدرة الدولة على الحماية. في سياق حروب الجيل الخامس، تستخدم الذكاء الاصطناعي لنشر هذه الشائعات بسرعة فائقة عبر الروبوتات والحسابات الوهمية، مما يعزز الانقسامات الاجتماعية والطائفية. الربط النظري واضح؛ كما في نظرية ويليام ليند، يصبح الإعلام أداة رئيسية لتدمير النسق الاجتماعي من الداخل. هنا، تندمج الحروب الشبحية بشكل كبير، حيث تعتمد على حملات إعلامية سرية مدعومة من جهات خارجية غير مرئية، مثل الدعم الخفي للصفحات الممولة أو البرامج الموجهة التي تبدو محلية لكنها جزء من عمليات وكالة، مشابهة لدور الـCIAفي نشر الدعاية السرية في أفغانستان خلال الثمانينيات. هذا يعطي مساحة واسعة للتحليل في كيفية استخدام الحروب الشبحية كغطاء مثالي للشائعات، مما يجعلها أكثر فعالية في استهداف الوعي دون كشف المسؤولين الحقيقيين، ويبرز الحاجة إلى استراتيجيات دفاعية متقدمة.

 

 

 

المصدر: المجلسة السياسية الدولية

الكاتب : أحمد ناجي قمحة

التاريخ : 27/10/2025

--------------------------------------------------------------------------------

المصدر: صحيفة صوت العرب 

التاريخ : 26/10/2025

المقالات الأخيرة