الصين ومستقبل غزة بعد عامين من الحرب
فرع القاهرة

وصف وزير الخارجية الصيني وانج يي ما حدث في غزة على مدار عامين بأنه "وصمة عار في القرن الحادي والعشرين"، مطالباً الضمير الإنساني بالاستيقاظ، على نحو يطرح تساؤلات عديدة حول رؤيتها كواحدة من القوى المؤثرة على الصعيد الدولي لمستقبل قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار كمرحلة أولى من خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؟، وما الذي يميز هذه الرؤية الصينية عن غيرها من الرؤى المطروحة، وما الذي يمكن أن تقوم به الصين لتحقيق هذه الرؤية؟

بداية، فإن الرؤية الصينية تتميز بالوضوح والشمول والتسلسل، فهي لا تقف عند مجرد وقف إطلاق للنار يمكن أن يتجدد في أي وقت طالما لم تنزع عوامل اندلاعه، والمسائل الإنسانية فيما يخص الفلسطينيين في غزة ليست منّة من أحد، كما أن هناك التزامات على إسرائيل باعتبارها قوة احتلال، وعليها أن تفي بها، وإعادة الإعمار ليست لكي يعاد الهدم، وإنما ليستقر الفلسطينيون في دولتهم المستقلة ذات السيادة، ويعملون على بناء مستقبلهم في ظل بيئة إقليمية يحل فيها السلام والاستقرار.

وقف إطلاق النار

لطالما نادت الصين منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب في غزة بضرورة ضبط النفس من قبل جميع الأطراف، ومن ثم فإنها ظلت تناشد على مدار عامين من الحرب بضرورة وقف إطلاق النار، وكانت تدعم مشاريع القرارات الدولية المطالبة بذلك، كما أنها انتقدت كثيراً الطرف الأمريكي، الذي  أصر على استخدام حق النقض (الفيتو) لإجهاض مشاريع قرارات وقف إطلاق النار، حيث استخدمت واشنطن حق النقض ست مرات، كان آخرها في سبتمبر 2025.

وقد كانت الصين واضحة في انتقاد النهج الأمريكي: "لقد سعى مجلس الأمن مراراً إلى اتخاذ إجراءات لكن الولايات المتحدة عرقلت ذلك بقوة مراراً"، معتبرة أن السلوك الأمريكي تسبب في قصور رد المجلس على الحرب في غزة، رغم أنه المسئول عن حماية السلم والأمن الدوليين، كما أنه ساعد إسرائيل على الاستمرار في ممارساتها التي تخالف القواعد القانونية الدولية "لولا الإساءة المتكررة الاستخدام للفيتو من قبل الولايات المتحدة، لما كان رد مجلس الأمن على أزمة غزة بهذه الدرجة من القصور. ولولا حماية الولايات المتحدة لإسرائيل، لما تم انتهاك قرارات المجلس والقانون الدولي بهذه الصورة الصارخة".

من ثم، فإنه عندما طرح الرئيس ترامب خطته أعلنت الصين عن ترحيبها ودعمها "لكافة الجهود الرامية إلى تخفيف التوترات بين فلسطين وإسرائيل"، مطالبة في الوقت ذاته بـ"التنفيذ الجاد لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وتحقيق وقف كامل لإطلاق النار في قطاع غزة على الفور، وإطلاق سراح جميع المحتجزين، وتخفيف الكارثة الإنسانية في القطاع في أقرب وقت ممكن". وعلى ذلك، فإنها أكدت على ضرورة أن لا يتجدد القصف، وأن يكون وقف إطلاق النار الأوّلي مقدمة لوقف شامل للحرب، خاصة وأنه مع بدء سريان المرحلة الأولى من الخطة الأمريكية برزت بعض الانتهاكات لوقف إطلاق النار، وهو ما أدى إلى  سقوط المزيد من الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين الأبرياء. ويلاحظ هنا أن واشنطن لم تكتف بالسكوت على انتهاكات إسرائيل للاتفاق، وإنما نفت أن ما تقوم به يندرج ضمن المخالفات، مصرة على أن وقف إطلاق النار ما زال سارياً، وأن الاتفاق لا يتضمن ما يسلب إسرائيل حقها في الدفاع عن نفسها على حد قول وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو على أحد الهجمات الإسرائيلية في غزة.

الصين ترى أنه لابد من كسر دوامة العنف، وأن ذلك لن يكون إلا من خلال الحوار والمفاوضات، وعلى ذلك فإنها قد طالبت كل الأطراف المعنية بضرورة تثبيت وقف إطلاق النار، وتحويله إلى وقف نهائي حتى يعم الأمن والاستقرار في غزة.

القضايا الإنسانية

الحرب التي استمرت عامين في قطاع غزة خلّفت جراحاً إنسانية غائرة بعضها سيحتاج سنوات لكي يندمل، وبعضها ربما لن يندمل على الإطلاق. ولقد ظلت الصين طوال شهور الحرب تدين الانتهاكات الفظيعة في غزة، وتطالب بضرورة وقفها. ومع وقف إطلاق النار، فإنها طالبت بضرورة التخفيف من معاناة الناس في القطاع. وأول ما يجب على هذا الصعيد هو إدخال المساعدات الإنسانية بمعدلات تكفي أهل غزة الذين عانوا الجوع لشهور طويلة، أوصلت الكثيرين منهم إما إلى الموت جوعاً فعلاً، أو المعاناة من سوء التغذية الحاد.

وكما هو معلوم، فإن الأمر لا يقف عند مجرد الطعام، حيث أن سكان غزة قد فقدوا معظم إن لم يكن كل مقومات الحياة، بما في ذلك الرعاية الطبية والتعليم، في ظل تضييق إسرائيلي على المؤسسات الدولية المنوط بها العمل الرئيسي في المجال الإنساني، وعلى رأسها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

على ضوء كل ذلك، ترى الصين أن وضع العراقيل أمام إدخال المساعدات في مرحلة وقف إطلاق النار أمر غير مقبول، خاصة وأن محكمة العدل الدولية قد أصدرت رأيها الاستشاري القاضي بأن على إسرائيل الوفاء بالتزاماتها طبقاً للقانون الدولي الإنساني كقوة احتلال، وأن تلتزم بالتعاون مع المنظمات الدولية المعنية بأمر المساعدات، وعلى رأسها الأونروا، وأن تقوم بفتح  جميع المعابر، وأن تضمن دخول أكبر قدر ممكن من المساعدات الإنسانية، بحيث يتم توزيعها بصورة آمنة ومنظمة. ولا يخفى أن إسرائيل كانت قد استخدمت المساعدات كمصيدة لقتل عدد ليس بالقليل من الفلسطينيين في ظل آليات توزيع لم تقبل بها الأمم المتحدة. كما أنها درجت على التشكيك في التقارير الدولية التي أقرت بحدوث المجاعة في غزة، ولم تأبه بالتحذيرات الدولية المتوالية على هذا الصعيد.

 

 

إعادة الإعمار

الخراب والدمار واسع النطاق الذي حل بغزة جراء القصف الإسرائيلي المتواصل براً وبحراً وجواً على مدار عامين وثَّقته تقارير منظمات دولية كثيرة، وشاهده العالم عبر الشاشات ومواقع التواصل، وهذا ما جعل الصين تذهب إلى أنه "بعد عامين من القصف العشوائي أصبحت غزة مدمرة وغير صالحة للعيش". وحتى تبدأ الأحوال في التحسن، فلابد من المسارعة في عملية إعادة الإعمار، واستعادة سبل العيش في أقرب وقت ممكن. وفي هذا السياق، فقد رحبت الصين بما تقوم به مصر ودول أخرى على هذا الصعيد، مؤكدة على ضرورة قيام المجتمع الدولي بمسئولياته في إطار عملية إعادة إعمار غزة.

وما يميز الطرح الصيني فيما يخص عملية إعادة الإعمار الانطلاق من أن غزة جزء من أرض الشعب الفلسطيني، ومن ثم فلا ينبغي أن تكون هناك أحاديث عن مسألة التهجير مطلقاً، وهذا أمر ينبغي أن لا يكون خاضعاً للمساومات الدولية. وفي هذا إشارة إلى ما سبق أن طرحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بخصوص ترحيل الفلسطينيين، والسيطرة على غزة.

ومن ثم، فإن الصين تؤكد على أن أي ترتيبات خاصة بمستقبل غزة لابد أن تنطلق من مبدأ طالما دافعت عنه، وهو "الفلسطينيون يحكمون فلسطين". تؤكد بكين على أن هذا المبدأ لا يخصها وحدها، وإنما هو مبدأ أقره المجتمع الدولي، كما أنه يحترم إرادة الشعب الفلسطيني، وحقوقه، ومن بينها حقه في تقرير مصيره. وهذه الأمور من بين ما أبرزته الصين في كل مرافعاتها الشفوية والمكتوبة فيما يتعلق بالقضايا التي نظرتها محكمة العدل الدولية فيما يخص القضية الفلسطينية، وعندما صدر الرأي الاستشاري الأخير للمحكمة الخاص بمسألة تيسير دخول المساعدات، ومسئوليات إسرائيل على هذا الصعيد أوضحت الصين أن قرار المحكمة قد عكس ما قدمته في تلك المرافعات.

التسوية النهائية

لا تقف الصين عند مجرد معالجة تداعيات الحرب الأخيرة على غزة، وإنما تعتبر أن التسوية أو الحل النهائي للقضية الفلسطينية هو الكفيل بأن لا تتجدد الحرب. إذ أن ضمان حقوق الفلسطينيين سيعالج الظلم التاريخي الذي تعرضوا له، كما أن ذلك سيوفر سبل السلام والاستقرار في المنطقة التي عانت كثيراً في ظل استمرار معاناة الفلسطينيين.

في هذا السياق، ترى بكين أن لا بديل عن حل الدولتين، فالأمر هنا لا يقف عند مجرد وقف الحرب في غزة، وتوفير ما يحتاجه أهلها، وإعادة إعمارها، وإنما ضرورة توقف الممارسات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وعلى رأسها الاستيطان، كما أن على إسرائيل التوقف عن استهداف السلطة الوطنية الفلسطينية. وكانت الصين قد أدانت العقوبات الأمريكية على السلطة الفلسطينية، بما في ذلك منع ممثليها من دخول الولايات المتحدة لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحالية.

ويبقى السؤال: كيف سيتحقق ذلك؟. تذهب الصين إلى ضرورة أن تتوحد جهود المجتمع الدولي، ورفض الإجراءات الأحادية التي تهدد حل الدولتين، ودعم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، مع ضرورة تمتعها بالعضوية الكاملة في الأمم المتحدة في أقرب وقت ممكن. ومرة أخرى: ما هو السبيل لحدوث ذلك؟، وبمعنى آخر: كيف سيتوحد المجتمع الدولي، وما زالت واشنطن على دعمها المطلق لإسرائيل، وإنكارها المتصاعد لحقوق الفلسطينيين، وضغوطها المتزايدة على المنظمات الدولية على خلفية ما تراه "تعاطفاً" مع الفلسطينيين و"انحيازاً" ضد إسرائيل؟، وكيف سيتم التصدي للإجراءات الأحادية الإسرائيلية في ظل عجز مجلس الأمن عن تطبيق قراراته القديمة، وعدم القدرة على اتخاذ قرارات جديدة على ضوء تلك الإجراءات الأحادية التي من شأنها تخريب أي مسعى للتسوية والحل النهائي؟.

تبقى هذه القضايا والتساؤلات إشكالية حقيقة أمام الطرح الصيني الذي يتفق مع الكثير مما تطرحه غالبية دول العالم. لا شك أن الأمر يحتاج إلى ضغوط أوضح من قبل هذه الدول حتى لا تعود دورة العنف والدمار في المنطقة مرة أخرى.

في الختام، كما هو واضح فإن الطرح الصيني لمرحلة ما بعد الحرب الأخيرة في غزة يلتزم بمسائل مبدئية وقواعد قانونية دولية تمثل مرجعيات أساسية لأي تعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية حقوق عادلة. ولعل مما يجدر ذكره هنا أن الصين في كل خطابها منذ اندلاع الحرب في غزة لا تتحدث عن طرف إسرائيلي في مقابل فضائل، وإنما تتحدث عن إسرائيل وفلسطين، كما أنها لم تحد يوماً عن مبدئها "الفلسطينيون يحكمون فلسطين"، ومن ثم فإن مسألة اليوم التالي للحرب هي قرار فلسطيني.



 

المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

الكاتب : السيد صدقي عابدين

التاريخ : 2/11/2025

---------------------------------------------------------------------------------------

المصدر: صحيفة الحدث

التاريخ : 24/10/2025

المقالات الأخيرة