العلاقات الأفغانية – الباكستانية ” مناورات النفوذ الإقليمي “
فرع القاهرة

في قلب جنوب آسيا وعلى مفترق طرق الحضارات القديمة والممرات التجارية الكبرى، تتقاطع الجغرافيا بالسياسة في واحدة من أكثر العلاقات تعقيدًا وتشابكًا في العالم المعاصر:العلاقات الأفغانية-الباكستانية. فهي علاقة لا يمكن قراءتها بمعزل عن الجبال التي تفصل وتربط، ولا عن القبائل التي تتنقل على جانبي الحدود، ولا عن القوى الكبرى التي جعلت من هذه المنطقة مسرحًا دائمًا لتوازنات النفوذ وصراعات المصالح. تتبدّل الأنظمة وتتغير التحالفات، لكن السؤال يظل قائمًا منذ عقود: هل هي علاقة جيرةٍ قسريةٍ محكومةٍ بالتوجس، أم شراكة اضطرارية يفرضها منطق البقاء في بيئة إقليمية شديدة الاضطراب؟ بين واقع هشٍّ تصنعه الجغرافيا وحساباتٍ صلبة تمليها السياسة، تتأرجح كابول وإسلام آباد على حافة توازنٍ دقيقٍ بين الأمن والتهديد، بين التاريخ والمستقبل، في معادلةٍ لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات.

ومع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021، وعودة طالبان إلى السلطة، تصاعدت الرهانات حول مستقبل العلاقة. توقع البعض أن باكستان ستكون المستفيد الأكبر من هذا الحدث، غير أن الواقع أظهر مزيجًا معقدًا من التقارب والاصطدام. فبينما تنظر إسلام آباد إلى الحكومة الأفغانية بوصفها فرصة لإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية في المنطقة، تتعامل كابول مع مطالب باكستان الأمنية، خاصة المتعلقة بجماعة "تحريك طالبان باكستان"، بحساسيّة السيادة والشرعية وباتت باكستان تواجه تحديات أمنية متصاعدة على طول الحدود، وارتفاعًا في هجمات المسلحين، مما وضع ملف أفغانستان مجددًا في قلب النقاش الأمني الباكستاني.

تاريخ العلاقات الأفغانية - الباكستانية

تعود جذور التفاعلات بين أفغانستان وباكستان إلى حقبة ما قبل نشوء الدولة الباكستانية الحديثة، حين كانت أفغانستان تمثّل منطقة عازلة بين الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية خلال القرن التاسع عشر. وفي سياق التنافس الإمبراطوري المعروف بـ"اللعبة الكبرى"، تم توقيع اتفاق خط دوراند عام 1893 بين الحكومة الأفغانية والإدارة البريطانية في الهند، لرسم حدود النفوذ. ورغم أن الاتفاق كان ذا صبغة سياسية - أمنية آنذاك، إلا أنه أصبح لاحقًا محورًا لنزاع حدودي مزمن، بعدما اعتبرت الحكومات الأفغانية المتعاقبة أن الخط فُرض قسريًا، بينما ورثت باكستان الالتزام البريطاني باعتباره حدودًا دولية ثابتة.

مع استقلال باكستان عام 1947، كانت أفغانستان الدولة الوحيدة التي عارضت انضمامها إلى الأمم المتحدة، تعبيرًا عن رفضها لترسيم الحدود وعن هواجس مرتبطة بالبعد القومي للبشتون المنتشرين على جانبي خط دوراند وأدى ذلك إلى توتر مبكر تجلّى في دعم كابول لتحركات المطالبة بـ"بشتونستان"، وما رافقه من اعتقاد باكستان بأن أفغانستان تسعى لاقتطاع أراضٍ منها أو إضعاف تماسكها القومي.

خلال الحرب الباردة أصبحت أفغانستان ساحة لصراعات النفوذ الكبرى. فقد دعمت باكستان، بدافع موازنة الهند والاتحاد السوفيتي، القوى الإسلامية داخل أفغانستان، ثم لعبت دورًا مركزيًا في دعم المجاهدين الأفغان بعد الغزو السوفيتي عام 1979، بغطاء أمريكي خليجي، وهو ما عزز نفوذها داخل الساحة الأفغانية وأوجد شبكات مشتركة من المصالح الأمنية، والدينية، والاستخباراتية.

مع تأسيس حكومة أفغانية جديدة بدعم غربي، سعت كابول لبناء جيش ومؤسسات أمنية مستقلّة، بينما واجهت باكستان تصاعدًا في التهديدات من تحريك طالبان باكستان (TTP)، وبدأت الحدود تشهد عمليات عسكرية متبادلة وزيادة في الشكوك السياسية والأمنية، رغم التنسيق الاستخباراتي في بعض الفترات.

عودة طالبان إلى الحكم في أغسطس 2021 مثّلت لحظة مفصلية جديدة، اعتقدت باكستان أنها ستعود لموقع الشريك المهيمن، لكن سرعان ما ظهرت ملامح خلافات استراتيجية، خاصة مع تمسك طالبان بموقفها من خط دوراند، ورفضها اتخاذ خطوات صارمة ضد نشاط(TTP)، ورغبتها في تأكيد استقلال قرارها السياسي والسعي لشرعية دولية، مما جعل العلاقة تتجه نحو نموذج التنافس الحذر بدل التبعية السابقة.

معادلة الأمن والحدود

تشكل الحدود الأفغانية-الباكستانية واحدة من أكثر الجبهات الجيوسياسية حساسية في جنوب آسيا، إذ تمتد على أكثر من 2,600 كيلومتر من التضاريس الجبلية الوعرة والممرات القبلية المفتوحة، مما يجعلها بيئة خصبة للتداخل الأمني والعمليات العابرة للحدود. ويظل خط دوراند، الذي رسمته الإدارة البريطانية عام 1893، محور الخلاف الأساسي في العلاقات الثنائية، فبينما تعتبره باكستان حدودًا دولية معترفًا بها، ترفض أفغانستان، بما في ذلك حركة طالبان في نسختها القديمة والجديدة، الاعتراف القانوني به، معتبرةً أن تقسيم الأراضي البشتونية كان قرارًا استعماريا غير شرعي. هذا الخلاف الحدودي المزمن أسهم في تكريس حالة من اللاثقة الاستراتيجية بين الطرفين، حيث تتعامل إسلام آباد معه باعتباره مسألة سيادة وعمق أمني، بينما ترى كابول فيه رمزًا تاريخيًا لمسار سياسي مفروض عليها.

يتجاوز التوتر الحدودي البعد القانوني إلى بعد أمني مباشر، فالمناطق الحدودية تُعد معقلًا لعدد من الفواعل المسلحة، أهمها تحريك طالبان باكستان (TTP) وداعش-خراسان، وهي جماعات يُتهم بعضها بالعمل انطلاقًا من الأراضي الأفغانية أو الاستفادة من غياب الرقابة الرسمية، مما يضع طالبان في مواجهة إشكالية مركبة بين التزاماتها الداخلية ورغباتها في الحفاظ على استقلال قرارها تجاه باكستان. وتعتبر إسلام آباد صعود نشاط (TTP) تهديدًا استراتيجيًا، خاصة بعد تنفيذ الحركة هجمات متكررة داخل الأراضي الباكستانية، وهو ما دفع الجيش الباكستاني لشن عمليات أمنية مكثفة ومحاولات لتنسيق أمني مع كابول، وإن اتسمت تلك التنسيقات بالهشاشة وعدم الاستمرارية.

وفي محاولة لإدارة التهديدات، تبنت باكستان منذ عام 2017، سياسة تأمين الحدود عبر بناء سياج حدودي، وتوسيع نقاط المراقبة، وتقييد الحركة عبر المعابر الرسمية. إلا أن هذا النهج أثار توترات سياسية مع طالبان، التي رأت في الخطوة محاولة لفرض واقع حدودي نهائي. وتكرر ذلك في عدة حوادث شهدت اشتباكات وتبادل نيران عند مناطق حساسة، مثل تورخم وسبين بولدك، مما يعكس التداخل بين الأمن والسيادة والرمزية السياسية للحدود في الوعي الاستراتيجي للجانبين. وفي المقابل تحاول طالبان الحفاظ على توازن دقيق بين عدم الانجرار إلى صدام شامل مع باكستان، وبين الحفاظ على شرعية خطابها الوطني، خاصة في أوساط القواعد القبلية والبشتونية التي ترفض ترسيم الحدود الاستعماري.

كما أن ملف اللاجئين الأفغان يُمثل بعدًا أمنيًا وإنسانيًا إضافيًا، إذ تستضيف باكستان ملايين الأفغان منذ عقود، وقد استُخدم هذا الملف في بعض الفترات كورقة ضغط سياسية متبادلة. وتخشى إسلام آباد من أن أي تدهور داخلي في أفغانستان قد يفتح الباب أمام موجات نزوح جديدة، بما يحمله ذلك من أعباء اقتصادية وأمنية، إضافة إلى احتمال تسلل عناصر مسلحة ضمن موجات لجوء جماعية. وبذلك، يصبح أمن الحدود ليس مجرد مسألة عسكرية، بل جزءًا من معادلة أمن قومي شاملة تشمل الهوية، والسيادة، ومكافحة الإرهاب، واللاجئين، والتنافس الإقليمي.

وبناءً على ذلك فإن معادلة الأمن والحدود بين أفغانستان وباكستان ليست صراعًا ثنائيًا حول خط جغرافي فحسب، بل إطار معقد تتشابك فيه اعتبارات السيادة، وشرعية الدولة، والأمن عبر الحدود، وتوازنات النفوذ الداخلية والإقليمية. وهو ما يجعل هذا الملف مرشحًا للبقاء في قلب التوترات بين الطرفين ما لم تتبلور آليات مؤسسية للتنسيق الأمني، أو يظهر نظام إقليمي قادر على إدارة التنافس في قلب آسيا.

التنافس الإقليمي ودور القوى الكبرى

يُعدّ المشهد الأفغاني إحدى أكثر الساحات حساسية في التوازنات الجيوسياسية لآسيا، حيث تتداخل مصالح قوى إقليمية ودولية تسعى كل منها لتأمين نفوذها أو منع خصومها من التقدم داخل الفضاء الاستراتيجي الممتد من آسيا الوسطى إلى شبه القارة الهندية. في هذا السياق، تمثل أفغانستان نقطة ارتكاز في تنافس عميق بين باكستان والهند، فإسلام آباد ترى في أي تمدد هندي داخل الأراضي الأفغانية تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، نظرًا لإمكانية تطويقها جيوسياسي من الشرق والغرب. بينما تسعى نيودلهي إلى بناء علاقات اقتصادية، وسياسية، وأمنية مع كابول، معتبرة أن دورًا مؤثرًا في أفغانستان يشكل عامل تحوّل في ميزان القوى الإقليمي، ويمنحها عمقًا إضافيًا في مواجهة باكستان.

إلى جانب ذلك تبرز الصين لاعبًا متقدمًا يسعى لتأمين مصالحه الاستراتيجية، خاصة عبر مشروع الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني (CPEC)،الذي يمثل ركيزة رئيسية في مبادرة الحزام والطريق. وتدرك بكين أن استقرار أفغانستان شرط ضروري لنجاح مسارات الاتصال التجاري والاستثماري بين الصين، وباكستان، وآسيا الوسطى، كما تخشى من انتشار التطرف على حدودها الغربية بما قد يؤثر على الأمن في إقليم شينجيانغ. وقد حافظت الصين على قنوات تواصل مستمرة مع طالبان قبل وبعد سيطرتها على الحكم، في محاولة لصياغة صيغة تعامل مرنة تحافظ على مصالحها دون الانخراط في مغامرات عسكرية أو أمنية.

الولايات المتحدة، رغم انسحابها العسكري، لم تغادر المشهد الأفغاني سياسيًا واستراتيجيًا، إذ لا تزال تعمل على إبقاء طالبان تحت دائرة الضغط الدبلوماسي والاقتصادي، وتراقب توازنات القوى في المنطقة لمنع أي خصم استراتيجي، خاصة الصين أو روسيا، من ملء الفراغ بالكامل. وتعتمد واشنطن أدوات غير مباشرة، مثل العقوبات، وتجميد الأصول، ومشروطية الاعتراف السياسي لتحجيم قدرة طالبان على الحركة الخارجية، مع الإبقاء على خيارات الضغط مستقبلا في حال نشوء تهديد عابر للحدود.

في المقابل تسعى روسيا وإيران إلى ترسيخ نفوذ هادئ في أفغانستان عبر بناء قنوات اتصال مع طالبان وتوظيف العلاقات التاريخية مع جماعات محلية داخل الساحة الأفغانية. فموسكو تنظر إلى أفغانستان باعتبارها خط تماس مع فضائها الأمني في آسيا الوسطى، وتخشى من انتشار عدم الاستقرار باتجاه جمهوريات آسيا الوسطى المتحالفة معها. أما طهران، فتعالج الملف الأفغاني من منظور أمني - أيديولوجي - اقتصادي، حيث تربطها مع أفغانستان علاقات معقدة تشمل قضايا الحدود والمياه والطوائف والهجرة، إضافة إلى رغبتها في كبح النفوذ الأمريكي ومنع باكستان من الهيمنة الكاملة على مستقبل المشهد الأفغاني.

وبذلك تتحول أفغانستان إلى مساحة التقاء وتنافس بين القوى الإقليمية والدولية، مما يجعل علاقتها بباكستان جزءًا من لوحة جيوسياسية أكبر تتجاوز الحسابات الثنائية الضيقة. إن هذا التعدد في الفاعلين يعزز الطابع المركّب للمشهد الأفغاني، ويجعل مستقبل الاستقرار مرهونًا بقدرة الأطراف المعنية على إدارة التوازنات، وتجنب الصدام المباشر، وصياغة نظام إقليمي قادر على دمج أفغانستان داخل ترتيبات الأمن والتعاون الاقتصادي في المنطقة.

الاقتصاد والروابط الاجتماعية

رغم الطابع الأمني الطاغي على العلاقات الأفغانية-الباكستانية، يشكّل البعد الاقتصادي والاجتماعي أحد أعمدة التفاعل بين البلدين، إذ يرتبط الشعبان عبر شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية، والأنماط التجارية، والعلاقات القبلية الممتدة عبر الحدود. ويعتمد الاقتصاد الأفغاني في جزء معتبر من حركته التجارية على المعابر الباكستانية والموانئ البحرية عبر كراتشي وغوادر، مما يجعل باكستان شريانًا تجاريًا رئيسيًا لأفغانستان، خاصة في ظل غياب منافذ بحرية لأفغانستان واعتمادها التاريخي على طرق الترانزيت الباكستانية للحصول على الغذاء والوقود والمواد الأساسية. وقد شهدت التجارة الثنائية مراحل من الانفتاح والتقييد، حيث استخدمت كل من كابول وإسلام آباد أدوات تجارية كجزء من أدوات الضغط السياسي، بما في ذلك قيود العبور أو تعليق الحركة عبر عدد من المنافذ الرسمية في أوقات التوتر.

وإلى جانب التجارة الرسمية، يلعب الاقتصاد غير النظامي دورًا جوهريًا في إدارة العلاقات اليومية بين المجتمعات على جانبي الحدود. فالمناطق القبلية المتداخلة، ولا سيما في حزام البشتون الممتد من قندهار إلى خيبر، تعتمد على حركة السلع والأشخاص عبر مسارات طبيعية عمرها قرون، مما يجعل التجارة غير الرسمية والتهريب والتبادل الحدودي جزءًا من منظومة اقتصادية اجتماعية يصعب فصلها بالقوة دون تكلفة اجتماعية وأمنية باهظة. وفي هذا السياق، تتداخل المعاملات الاقتصادية مع شبكات النفوذ المحلي والجماعات المسلحة وحتى سلطات الأمر الواقع، وهو ما يعقد قدرة الحكومتين على ضبط الحدود دون خلق توترات محلية أو تهديد الاستقرار المجتمعي.

من ناحية أخرى، يبرز ملف الهجرة واللاجئين باعتباره أحد أهم أبعاد العلاقة بين البلدين، إذ تستضيف باكستان منذ عقود واحدة من أكبر الجاليات الأفغانية في العالم، وهو عبء إنساني وأمني واقتصادي في آن واحد. وقد لعب اللاجئون دورًا محوريًا في تشكيل الروابط العابرة للحدود، من خلال العمالة، والتعليم، والتبادل الاجتماعي، كما شكلوا في بعض الأحيان مصدر حساسية سياسية، خاصة حين ارتبطت قضايا الأمن الداخلي الباكستاني بوجود مجموعات متطرفة أو تهريب أسلحة ضمن بعض التجمعات الحدودية. وتظل مسألة اللاجئين عاملًا مزدوجًا، فهي من جهة مساحة للتواصل الإنساني والاجتماعي، ومن جهة أخرى ورقة ضغط يمكن لكل طرف استخدامها في لحظات التوتر.

كما تُعد العلاقات القبلية والبنية الاجتماعية المشتركة عاملًا غير قابل للتجاهل في تفسير استمرار الروابط بين البلدين رغم الأزمات السياسية، إذ تشكل القبائل البشتونية امتدادًا سوسيولوجيًا وثقافيًا لا يعترف بحدود سياسية مرسومة. وتؤدي هذه الروابط دورًا متناقضًا، فهي من ناحية رافعة للتواصل الشعبي، ومن ناحية أخرى محرّك لمطالب قومية وهوياتية قد تتعارض مع التصورات الباكستانية للسيادة، لا سيما حين تبرز شعارات تتعلق بوحدة البشتون أو حق تقرير المصير.

بذلك يتضح أن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية لا تمثل عنصرًا ثانويًا في معادلة الأمن والسياسة، بل تشكل نسيجًا موازيا من الاعتماد المتبادل والتوتر الكامن، حيث لا يمكن لطرف تجاهل العمق الاجتماعي والاقتصادي للآخر، في ظل إدراك متزايد بأن إدارة هذه الروابط تتطلب مقاربة متوازنة تحفظ مصالح الطرفين، وتمنع تحول المصالح المتداخلة إلى نقاط احتكاك تؤجج الصراعات بدل احتوائها.

سيناريوهات مستقبل العلاقات بين البلدين

تتوقف ملامح المستقبل بين أفغانستان وباكستان على جملة من المتغيرات المتداخلة، تشمل قدرة طالبان على تثبيت أركان حكمها داخليًا، واستجابة باكستان لتحدياتها الأمنية والاقتصادية، وتوازن القوى الإقليمي في ظل صعود الصين واحتدام المنافسة الأمريكية - الهندية. بناءً على المعطيات الراهنة يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية تتراوح بين التعاون الحذر، والتصعيد المتبادل، والتدويل التدريجي للملف الأفغاني.

السيناريو الأول- الشراكة الأمنية المرنة: يقوم هذا السيناريو على نجاح الطرفين في إدارة الخلافات الحدودية والتهديدات الأمنية عبر آليات مؤسسية ثنائية، مثل لجان التنسيق العسكري ومشروعات التجارة العابرة للحدود، مع الحفاظ على مستوى من التنسيق السياسي يضمن عدم انزلاق العلاقات إلى مواجهة مفتوحة. يتحقق هذا المسار إذا استطاعت طالبان تقييد نشاط الجماعات المعادية لباكستان داخل الأراضي الأفغانية، ونجحت إسلام آباد في دعم الاعتراف التدريجي بحكومة طالبان ضمن تفاهمات دولية تضمن لها نفوذًا محدودًا ولكن مستقرًا. في هذا الإطار قد تشهد المنطقة بداية إعادة تفعيل لمشروعات التكامل الاقتصادي الإقليمي ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، مع تحسن تدريجي في الثقة المتبادلة.

السيناريو الثاني- التصعيد والصدام الحدودي: يُعد هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا على المدى القصير إذا فشلت طالبان في ضبط الجماعات المتشددة أو استمرت هجمات "تحريك طالبان باكستان" ضد الجيش الباكستاني. في هذه الحالة ستتجه إسلام آباد إلى خيار الضغط العسكري أو تنفيذ ضربات محددة داخل الأراضي الأفغانية، وهو ما قد يثير ردود فعل قوية من طالبان التي تسعى لإثبات استقلالها. وقد تتدهور العلاقات إلى مستوى من القطيعة الدبلوماسية المؤقتة، يترافق مع حملات إعلامية متبادلة وموجات لجوء جديدة. هذا السيناريو يرسّخ منطق "الأمن الصفري" ويُضعف فرص الاستقرار في المنطقة الحدودية، مما يفتح الباب لتدخلات إقليمية ودولية أوسع.

السيناريو الثالث- تدويل الملف الأفغاني مجددًا: يقوم هذا السيناريو على دخول قوى إقليمية ودولية، مثل الصين، وروسيا، وإيران، والولايات المتحدة، في إعادة صياغة التوازن داخل أفغانستان عبر أطر متعددة الأطراف، في ظل عجز الطرفين عن إدارة خلافاتهما ذاتيًا. قد تُطرح مبادرات أممية أو إقليمية جديدة لضبط الحدود، ومكافحة الإرهاب، وتنسيق المساعدات الإنسانية، مع احتمال بروز دور متزايد لمنظمة شنغهاي للتعاون أو الآليات الثلاثية (الصين - باكستان - أفغانستان) غير أن هذا المسار يحمل مخاطر تقليص استقلالية القرار لدى كل من كابول وإسلام آباد، وتحويل العلاقة الثنائية إلى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى.

في ضوء هذه السيناريوهات، يبدو مستقبل العلاقات مرهونًا بمدى قدرة الطرفين على تجاوز إرث الشكوك المتبادلة وبناء صيغة "تعايش استراتيجي" تحافظ على المصالح الحيوية لكليهما. فكلما استطاع البلدان تحويل مسار العلاقة من منطق الصراع إلى منطق الاعتماد المتبادل المنظَّم، اقتربت المنطقة من حالة استقرار نسبي، أما استمرار التصعيد فسيبقي الحدود الأفغانية-الباكستانية بؤرة توتر تهدد الأمن الإقليمي برمته.

إن مستقبل المنطقة يتوقف على قدرة الطرفين على الانتقال من منطق التهديد المتبادل إلى منطق الأمن المشترك، وعلى استعداد القوى الإقليمية الكبرى، خاصة الصين، وروسيا، وإيران، لدعم ترتيبات أمنية واقتصادية جديدة تُدمج أفغانستان في النظام الإقليمي بدل إبقائها ساحة تنافس. وإلى أن يتحقق ذلك، ستظل العلاقات الأفغانية - الباكستانية تمثّل مركز الثقل في معادلة الاستقرار أو الفوضى في جنوب آسيا، بما يجعلها اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدول الضعيفة والمتوسطة على التكيّف مع بيئة إقليمية تتغير بسرعة وتحتدم فيها رهانات النفوذ.

 

 

المصدر: مجلة السياسة الدولية

الكاتب : د. محمد إبراهيم حسن فرج

التاريخ : 10/11/2025

------------------------------------------------------------------------------------

المصدر: مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية

الكاتب : مريم أكرم

التاريخ : 12/11/2025

المقالات الأخيرة