تقييم العلاقات التركية – الأوروبية
فرع القاهرة

صدرَ تقرير المفوضية الأوروبية بشأن تركيا في نوفمبر 2025 ليؤكدَ استمرار الوضع القائم في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة، ولا يُعد التقرير تحولًا جديدًا في مسار العلاقات، بقدر ما يشكّل تثبيتًا رسميًا لحالة الجمود المؤسسي التي تهيمن على مسار انضمام تركيا منذ عدة سنوات، فقد سبقت استنتاجات المجلس الأوروبي في ديسمبر 2024 إلى التأكيد على هذا الجمود، لتعودَ المفوضيةُ في تقريرها لعام 2025 وتعيد التأكيد بأن مفاوضات الانضمام مع تركيا ما زالت في حالة توقّفٍ منذ عام 2018.

يُعتبر هذا الجمودُ نتيجةً مباشرةً - بحسب التعبيرات الغربية - لعدم معالجة أنقرة للمخاوف الأوروبية الجدية المتعلقة بـ “التدهور المستمر للمعايير الديمقراطية، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، واحترام الحقوق الأساسية” ونتيجة لذلك، انتقلت العلاقة من مسار الانضمام النشط إلى إطارٍ يركّز على “إعادة الانخراط البناءة مع تركيا بطريقةٍ مرحليةٍ ومتناسبةٍ وقابلةٍ للعكس أي مشروطة.

وتشير التقييمات الجيوسياسية إلى أن تركيا، من منظور الاتحاد الأوروبي، تحولت من دولةٍ مرشّحةٍ ذات مسار انضمام واقعي إلى “مرشح بالاسم فقط” هذا الوصف الدقيق يعكس الطبيعة الهجينة للعلاقة، حيث يتم الاحتفاظ بالإطار الشكلي لعملية الانضمام كأداة ضغطٍ دبلوماسيةٍ ناعمةٍ ويسمح هذا التجريد الدبلوماسي لعملية الانضمام للاتحاد الأوروبي بالاحتفاظ بنفوذه الرمزي تجاه قوى المعارضة والمجتمع المدني التركي المؤيد لأوروبا، الذين يرون في الإطار الأوروبي بوصلةً للديمقراطية وفي الوقت ذاته، يُعفي الاتحاد الأوروبي من الالتزام بتحقيقِ تقدّمٍ تِقنيٍ في المفاوضات الفعلية، مما يسمح بتحويل التركيز إلى الشراكة الاستراتيجية المشروطة، والتي تربطُ أي تعاونٍ مستقبليٍ ملموسٍ (مثل تحديث الاتحاد الجمركي) مباشرة بالامتثال للمعايير الأساسية لحقوق الإنسان والقضاء.

الخلفية التاريخية والفصول التفاوضية

تعودُ صلة تركيا بالمشروع الأوروبي إلى عام 1959، بينما جاء طلبها الرسمي للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1987، وقد انطلقت مفاوضات العضوية بصورة رسمية في 3 أكتوبر 2005، وفق الإطار التفاوضي الذي يقوم على 35 فصلاً تغطّي مُجملَ مكتسبات الاتحاد الأوروبي.

ورغم مرور ما يقارب عشرين عاماً على انطلاق هذه العملية، فإن التقدم الفعلي يكاد يكون محدوداً للغاية؛ إذ لم يُفتح سوى 16 فصلاً تفاوضياً، ولم يُغلق منها بشكلٍ مؤقتٍ إلا فصل واحد فقط، هو الفصل الخامس والعشرون الخاص بالعلوم والبحث في يونيو 2006 ومع مرور السنوات، ترسّخت حالة الجمود إلى أن تحولت منذ عام 2018 إلى توقّفٍ كاملٍ في المسار التفاوضي، وتستند مؤسسات الاتحاد الأوروبي في هذا التجميد إلى ما تعتبره تراجعًا مستمرًا في المعايير الديمقراطية وسيادة القانون واستقلالية القضاء وحماية الحقوق الأساسية داخل تركيا. ورغم هذا الجمود، أعاد مجلس الشؤون العامة في ديسمبر 2024 التأكيد على الوضع الرسمي لتركيا بصفتها دولة مرشحة

وقد أدت التطورات الجيوسياسية، خاصةً بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، إلى دفع الاتحاد الأوروبي لإعادة النظر في طريقة تعامله مع تركيا، فبناءً على ما ورد في البلاغ المشترك الصادر في نوفمبر 2023 بشأن مستقبل العلاقات الثنائية، تبنّى الاتحادُ نهجاً جديداً يقوم على إعادة الانخراط مع أنقرة في المجالات التي تلتقي فيها المصالح.

إلا أن هذا الانخراطَ يجري ضمن شروطٍ دقيقةٍ ويُصاغ باعتباره مسارًا “تدريجيًا ومتناسبًا وقابلُا للعودة إلى الوراء”، ويعكس وصف التعاون بأنه “قابل للعكس” تحولاً عميقًا في بنية التفكير الأوروبي تجاه مسار الانضمام. فبينما افترضت عملية العضوية تقليدياً أن الإصلاحات الهيكلية في الدول المرشّحة لا رجعةَ فيها، يشير التأكيد الأوروبي على قابلية الخطوات للتراجع إلى محدودية الثقة في استدامة التزام تركيا بمعايير كوبنهاجن، ويميل إلى تقديم العلاقة كآليةٍ لإدارة التحديات المشتركة-ولا سيَّما الهجرة والأمن-أكثر من كونها طريقاً واضحاً نحو الاندماج المؤسسي الكامل. وبذلك يتحول وصف “المرشح” إلى أداةِ ضغطٍ سياسيةٍ بدلاً من كونه مؤشراً إلى مسار عضوية فعلي.

أما تركيا، فتعارض هذه المقاربة وتصفها بالانتقائية. وتطالب أنقرة الاتحاد الأوروبي بتبنّي رؤيةٍ أكثر شمولية تّعيد إحياء آفاق الانضمام، مؤكدةً أن العضويةَ الكاملةَ لا تزال هدفًا استراتيجيًا لها، كما تربط مستوى ووتيرة التعاون بمبدأ “المعاملة بالمثل”، وبما تبديه مؤسسات الاتحاد من تقدّمٍ ملموسٍ في مسار تطوير العلاقات.

الأهمية الجيوسياسية لتركيا 

تُصنف تركيا في الأدبيات الأوروبية بوصفها “شريكًا أساسيًا” وعضوًا محوريًا داخل حلف شمال الأطلسي، فضلًا عن كونها “فاعلًا إقليميًا مؤثرًا”. وقد أشار تقرير المفوضية لعام 2025 إلى أن أنقرة تعتمد “سياسةً خارجيةً نشطةً ومتعددة الأبعاد”، وأن جهودها المستمرة لتعزيز شراكاتها الاستراتيجية، ودورها الداعم لمسارات السلام والاستقرار الإقليمي، تحظى بتقييمٍ إيجابيٍ. كما رحبت تركيا بما ورد في التقرير بشأن تحسّن العلاقات الثنائية مع اليونان وتوسّع قنوات الحوار مع الاتحاد الأوروبي.

وتبرز هنا الطبيعة البراغماتية للعلاقات الجيوسياسية؛ فتركيا تُعد شريكًا لا يمكن الاستغناء عنه في قضايا الأمن الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، والهجرة. وقد أثنى التقرير على أداء تركيا في مجال مكافحة الإرهاب، مؤكدًا أن دورها يشكّل عنصرًا حاسمًا في حماية أمنها الداخلي، وفي دعم البنية الأمنية الأوروبية، ويكشفُ هذا التعارضُ بين حالة الجمود السياسي من جهة، واستمرار الاعتراف بأهمية تركيا الاستراتيجية من جهة أخرى، عن جوهر المعضلة القائمة: إذ لا يستطيع الاتحاد الأوروبي تجاهل مكانة تركيا كشريكٍ أساسيٍ، لكنه في الوقت ذاته يمتنع عن المُضي نحو عضويةٍ كاملةٍ في ظل الظروف الديمقراطية الراهنة في البلاد.

تقرير المفوضية الأوروبية لعام 2025 

صدر تقرير المفوضية الأوروبية لعام 2025 ليقدّم تقييمًا شاملًا للعلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، مع تركيزٍ واضحٍ على مجموعةٍ محددةٍ من القضايا المحورية، فقد ركز التقرير على الجوانب السياسية والقضائية، بما في ذلك سيادة القانون وحقوق الإنسان، إلى جانب التحديات الجيوسياسية المرتبطة بالقضية القبرصية وملف شرق المتوسط. وفي الوقت ذاته، أتاح التقرير مساحةً للتقييم الاقتصادي، مشيرًا إلى نقاط القوة في أداء تركيا في مجال اقتصاد السوق وسياساتها الكلية، يعكسُ هذا التركيزُ منهجيةَ التقرير في تصنيف القضايا حسب طبيعتها وتأثيرها على مسار الانضمام، ويشكّل خلفيةً مناسبةً لمناقشة السيناريوهات الاستراتيجية المحتملة للعلاقات التركية-الأوروبية خلال الفترة 2026-2030.

1- الفشل في تنفيذ أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يمثّل عدم امتثال تركيا لقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إحدى أكثر الإشكالات القانونية تعقيدًا في مسار علاقاتها مع المؤسسات الأوروبية وترفض السلطات التركية هذه الادعاءات بشدة.

ويُبرز تقرير المفوضية لعام 2025 أن هذه الإخفاقاتِ تتجاوز كونها حوادثَ فرديةً لتكشفَ عن خللٍ بنيويٍ أعمق؛ إذ سجّلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان خلال فترة التقرير69 حكمًا ضد تركيا، تتصل بانتهاكاتٍ لحقوقٍ أساسيةٍ تشملُ الحق في محاكمةٍ عادلةٍ، والحرية والأمن، وحرية التعبير. كما يوجد حاليًا 205 قضايا ضد تركيا تحت إطار “الرقابة المُعزّزة” من قِبلِ لجنة وزراء مجلس أوروبا-ارتفاعًا من 185 قضية في العام السابق-وتتعلق بالحق في الحياة، والحماية من التعذيب، والحق في التجمع السلمي، وحالات الاحتجاز التعسفي.

وتدّعي الدول الأوروبية أن الامتناع المستمر عن تنفيذ هذه الأحكام، الصادرة عن أعلى سلطةٍ قضائيةٍ معنيةٍ بحماية حقوق الإنسان في أوروبا، لا يخلق فقط أزمةً قانونيةً، بل يحوّل المسألة إلى إشكاليةٍ هيكليةٍ تؤثر مباشرةً في التزامات تركيا فوق الوطنية، كما يُنظر إليه داخل الاتحاد الأوروبي باعتباره تحدّيًا للقيم الأساسية التي يقوم عليها، وفي مقدمتها سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.

2- العقبة القبرصية وملف شرق المتوسط تستمر القضية القبرصية بوصفها أحدَ العناصر الجيوسياسية الأكثر تأثيرًا في تشكيل طبيعة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. فقد شدد المجلس الأوروبي في استنتاجاته الصادرة في ديسمبر 2024 على ضرورة إحراز تقدّمٍ ملموسٍ في مسار التسوية القبرصية كشرطٍ لتعميق التعاون مع أنقرة، وهو ما يعكس تمسّك الاتحاد بربط تطور العلاقات الثنائية بالسياق السياسي في الجزيرة.

ويشير تقرير المفوضية لعام 2025 إلى استمرار الخلافات القائمة، حيث تواصل تركيا عدم الاعتراف بجمهورية قبرص، وتتمسك بمقاربةٍ تقوم على إيجاد حلٍ ثنائيٍ يعكس الواقع القائم في الجزيرة، وهو ما تختلف بشأنه مؤسسات الاتحاد الأوروبي استنادًا إلى قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. وقد تبنّى البرلمان الأوروبي خطابًا أكثر تشددًا عندما وصف زيارة الرئيس التركي إلى شمال قبرص بأنها خطوةٌ غير مرحّب بها.

وتتوقع مؤسسات الاتحاد الأوروبي من تركيا اعتماد مواقف تؤكد احترام سيادة جمهورية قبرص والامتناع عن أي أنشطة تراها بروكسل أُحاديةَ الجانب في شرق المتوسط، خصوصًا تلك المرتبطة بعمليات الاستكشاف البحري. ومن ثمَّ أصبح الربط بين تطورات الملف القبرصي وإدارة قضايا شرق المتوسط أحد مكونات المشروطية التي يعتمدها الاتحاد في مقاربته تجاه تركيا، رغم ما يثيره هذا النهج من نقاشاتٍ حول مدى حياديته وقدرته على عكس مخاوف ومصالح الأطراف كافة.

3- التقييم الاقتصادي خلافًا للانتقادات التي طغت على الجوانب السياسية والقضائية، جاء التقييم الاقتصادي لتركيا في تقرير المفوضية أكثر إيجابيةً ووضوحًا. فقد أشار التقرير إلى أن تركيا تمتلك «اقتصاد سوق فعّال»، وأن مستوى التوافق مع مكتسباتِ الاتحاد الأوروبي في المجال الاقتصادي يُعَدّ مرتفعًا، مدعومًا بسياساتٍ اقتصاديةٍ كليةٍ تتسم بالاتساق والاستقرار.

ويكشف هذا التقييم عن مفارقةٍ واضحةٍ في مسار العلاقة بين الطرفين؛ إذ لم يعد الجمود في عملية الانضمام مرتبطًا بالأداء الاقتصادي أو بالقدرة الفنية على مواءمة التشريعات مع معايير الاتحاد الأوروبي، بل يرتبط بصورةٍ شبه كاملةٍ بمجموعةٍ من العوامل السياسية والجيوسياسية، وعلى رأسها قضايا سيادة القانون وحقوق الإنسان (الفصلان 23 و24)، إضافةً إلى التعقيدات المرتبطة بالملف القبرصي وبهذا يصبح جليًا أن التعثر القائم لا يعكس قصورًا مؤسسيًا أو اقتصاديًا من الجانب التركي، بل هو نتاجُ اعتباراتٍ سياسيةٍ تمَّ توظيفها لفرض سقفٍ على التقدم في المسار التفاوضي.

الرد التركي على تقرير المفوضية الأوروبية

يؤكد الرد التركي رفضه لما اعتبره “ادعاءاتٍ متحيّزةً وأحادية الجانب”، ولا سيَّما تلك المتعلقة بالقضاء والحقوق الأساسية، ويُعد هذا الافتتاح مؤشرًا على تبنّي أنقرة استراتيجية تهدف إلى التشكيك في منهجية تقييم المفوضية، ونزع صفة الحياد عنه، باعتباره لا ينفصل -وفق الرؤية التركية- عن اعتباراتٍ سياسيةٍ سابقةٍ كبّلت عملية الانضمام.

حيث تحاول تركيا إعادة وضع التقرير في سياقٍ سياسيٍ لا يمنحه سلطةً معرفيةً مطلقةً، بل يجعله امتدادًا لنهْجٍ أوروبيٍ يعتمد معايير مزدوجة، ويستند الخطاب التركي إلى تقديم الذات كفاعلٍ ملتزم فنيًا ومؤسسيًا، من خلال التأكيد على مستوى التوافق العالي مع مكتسبات الاتحاد الأوروبي، وعلى وصف التقرير لتركيا بأنها تمتلك “اقتصاد سوق فعال، وتعكس هذه النقطة مُفارقةً رئيسية فبينما يقرّ الاتحاد بالكفاءة الاقتصادية، تبقى الفصول السياسية (23 و24) مجمّدة، الأمرُ الذي تُقدّمه أنقرة باعتباره نتيجةَ “عقبات سياسية وظالمة” لا ترتبط بالأداء التركي.

كما تسعى تركيا بوضوحٍ إلى فصل التعاون الأمني والدفاعي عن الخلافات السياسية، وهو ما يتجلّى في دعوتها لتفعيل آليات الشراكة وإشراكها في مبادرات الاتحاد في الأمن والدفاع، هذا المنطقُ يعكس توظيف المكاسب الجيوسياسية، حيث تستند أنقرة إلى موقعها ووظائفها الجيوسياسية لإعادة تحديد قواعد التعامل معها، وتتسق هذه المقاربة مع تحسّن العلاقات مع اليونان والدور التركي في شرق المتوسط، وهي نقاطٌ اعتبرتها أنقرة اعترافًا ضمنيًا بضرورتها الجيوسياسية في بنية الأمن الأوروبي.

ويُظهر الرد التركي حساسيةً خاصةً تجاه تناول الاتحاد الأوروبي للقضية القبرصية، ويُقدم الخطاب الأوروبي باعتباره منحازًا للجانب القبرصي اليوناني، ومتجاهلًا المخاوف المشروعة لتركيا ولجمهورية شمال قبرص التركية. ويمثّل هذا الطرحُ إعادة تأطير النزاع، عبر تحويله من قضيةٍ قانونيةٍ محسومةٍ وفق منظور الاتحاد الأوروبي، إلى نزاعٍ سياسيٍ يتطلب حيادًا فعليًا من الأطراف الخارجية.

وتستحضر تركيا مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” لتأكيد ضرورة التزام الاتحاد الأوروبي بتعهداته، ولرفض جعل العلاقات رهينةَ قضايا ثنائية، وهذه يمثّل إعادة تموضعٍ معياريٍ، حيث تحاول تركيا إعادة صياغة العلاقة على أساسٍ تعاقديٍ متوازنٍ، بدلًا من الوضعية الراهنة القائمة على مشروطية أحادية الاتجاه.

التوقعات الاستراتيجية وسيناريوهات المستقبل

بعد تثبيت حالة تجميد مفاوضات الانضمام في تقرير المفوضية الأوروبية لعام 2025، تبدو العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي وقد استقرّت في مساحةٍ سياسيةٍ رماديةٍ؛ فهي علاقةٌ لا تتجه نحو عضويةٍ كاملةٍ، ولكنها في الوقت ذاته ضرورية للطرفين من منظور الشراكة الاستراتيجية. ومن المتوقع خلال الفترة 2026–2030 بروز مسارين رئيسيين يحكمان مستقبل هذه العلاقة.

سيناريو الجمود الهيكلي المستمر (الأكثر ترجيحًا) يقوم هذا السيناريو على افتراض استمرار البيئة الداخلية التركية في مسارها الحالي، بما يعني بقاء النقاش الأوروبي حول سيادة القانون وحقوق الإنسان عاملاً ضاغطًا على عملية الانضمام. وتترتب على ذلك نتيجةٌ واضحةٌ: استمرار التجميد الرسمي لمفاوضات العضوية، بحيث تبقى تركيا في وضع “مرشح بالاسم فقط” دون مسار تفاوضي فعّال.

في هذا الإطار، يظل الخلافُ حول قضية قبرص وتفاعلاتِ شرق المتوسط العائق الأبرز أمام إحراز تقدمٍ في تحديث الاتحاد الجمركي، رغم الأهمية الاقتصادية المتبادلة. كما ستبقى ملفاتُ الأمن والهجرة تُدار عبر ترتيباتٍ محدودةِ الزمن وقابلةٍ للتجديد، بدلاً من الاندماج في إطارٍ مؤسسيٍ متكاملٍ، هذا النموذج يؤدي في المدى المتوسط إلى تآكل الثقة المتبادلة، ويدفع تركيا إلى تنويع شركائها الجيوسياسيين والاقتصاديين، بما يشمل مأسسة تعاون أعمق مع الفاعلين الإقليميين والآسيويين، بهدف تقليل الاعتماد على بروكسل وتخفيف أثر المشروطية السياسية الأوروبية.

سيناريو التحول نحو الشراكة المميزة (الأقل ترجيحًا) يتطلّب هذا السيناريو مراجعةً أوروبيةً صريحةً لهدف العضوية، والانتقال إلى نموذج شراكةٍ استراتيجيةٍ موسّعة يأخذ بعين الاعتبار الوزن الجيوسياسي لتركيا وموقعها المركزي في معادلات الأمن والطاقة والهجرة، يرتكز هذا النموذج على تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني، مع الحفاظ على حد أدنى من المتطلبات السياسية التي لا تمسّ جوهر السيادة التركية، مثل إجراءات مقيدة تتصل بحقوق التقاضي أو الضمانات الأساسية لعمل المؤسسات.

وتطالب أنقرة، في هذا السياق، بإشراكها بفعالية في مبادرات وبرامج الأمن والدفاع الأوروبية، استنادًا إلى دورها العملي في استقرار شرق المتوسط والأمن الإقليمي. ورغم ذلك، لا يزالُ موقف الاتحاد الأوروبي محكوماً بمنطق المشروطية، إذ يربط أي تطورٍ مؤسسيٍ في التعاون الدفاعي بحلحلة ملف قبرص والالتزام الأوروبي التقليدي بمعايير الحقوق الأساسية، هذا الربطُ يجعل تحقيق “الشراكة المميزة” الكاملة عمليةً معقدةً سياسيًا، وتتطلب توافقاً أوروبياً داخلياً ليس من السهل الوصول إليه في المدى القصير، مما يبقي هذا السيناريو في إطار الاحتمالات وليس التوقعات.

يمكن القول إن تقريرَ المفوضية الأوروبية لعام 2025 يقدّم رؤيةً مركّزةً لواقع العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، مع إبراز الاختلالات بين التقديرات السياسية والقضائية من جهة، والتقييم الاقتصادي من جهةٍ أخرى. ويظهر من خلاله أن الجمود في مسار الانضمام ليس انعكاسًا لأداء تركيا الاقتصادي أو الفني، بل ناتج عن تحدياتٍ سياسيةٍ وجيوسياسيةٍ محددة. ويشكّل هذا التقرير، برغم محدودياته، إطارًا أساسيًا لفهم ديناميات العلاقة ووضعية الشراكة الاستراتيجية، ويمهّد الطريق لمناقشة السيناريوهات المستقبلية للعلاقات التركية-الأوروبية في الفترة 2026-2030.

 

المصدر: مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية

الكاتب : هنا داود

التاريخ : 30/11/2025

--------------------------------------------------------------------------------------

المصدر: نيوز رووم

التاريخ : 19/4/2025


المقالات الأخيرة