في ظل بيئة جيوسياسية تتسم بتزايد التقلب والتنافس، تواجه أوروبا تحديات عميقة تتعلق بالاستقرار السياسي؛ إذ تعاني العديد من بلدانها أزمات داخلية تتجاوز آثارها الحدود الوطنية لتنعكس سلباً على القوة الجيوسياسية للقارة بأكملها. وتتجلى هذه الأزمات في الحكومات المؤقتة، وتكرار ظاهرة حكومات تصريف الأعمال الناتجة عن انسحاب الأحزاب السياسية من الائتلافات الحاكمة، إلى جانب تصاعد الخلافات بين مكونات السلطة، وتأثير صعود اليمين المتطرف سواء في موقع الحكم أم المعارضة. وتُضيف هذه الحالة مزيداً من التعقيد إلى المشهد الجيوسياسي الأوروبي، في وقت تبدو فيه الحاجة مُلحّة إلى قدر أكبر من التماسك والوحدة لمواجهة التحولات العالمية.
أزمات داخلية:
شهدت الدول الأوروبية، في السنوات الأخيرة، تصاعداً ملحوظاً في الأزمات الداخلية التي أدت إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي. ففي فرنسا، أدى برلمان شديد التشرذم إلى تعاقب غير مسبوق لحكومات أقلية ورؤساء وزراء خلال نحو عامين. وبالمثل، أجرت بلغاريا نحو سبعة انتخابات منذ عام 2020 وحتى أكتوبر 2024 بسبب الانقسام الحاد بين القوى الموالية لروسيا وتلك الموالية للغرب؛ مما حال دون تشكيل حكومات مستقرة.
وامتدت ظاهرة التشرذم السياسي إلى دول رئيسية مثل بولندا، حيث يواجه رئيس الوزراء الليبرالي، دونالد تاسك، صعوبات في التحالف مع الرئيس المحافظ المنتخب حديثاً، كارول ناوروكي، والمدعوم من حزب "القانون والعدالة" اليميني. فمنذ توليه منصبه في أغسطس الماضي، استخدم ناوروكي حق النقض ضد عدة قوانين حكومية، منها مشروع قانون لتقديم مساعدات مالية للاجئين الأوكرانيين المقيمين في بولندا، وتحدى ائتلاف تاسك الوسطي بشأن السيطرة على السياسة الخارجية، وخاصةً علاقات بولندا مع الولايات المتحدة.
كما عانت هولندا وإسبانيا من حكومتين غير مستقرتين؛ فهولندا كانت تديرها حكومة تصريف أعمال منذ يونيو الماضي بعد انسحاب حزب الحرية اليميني المتطرف من الائتلاف بسبب قضية الهجرة، واستقالة عدة وزراء لاحقاً في أغسطس الماضي بعد خلاف حول سياسة الحكومة تجاه إسرائيل؛ ما أدى إلى انهيار الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، هي الثانية في عامين، في 29 أكتوبر الماضي، حقق فيها حزب "الديمقراطيون 66" الوسطي بزعامة روب يتن فوزاً صعباً بفارق ضئيل عن حزب "الحرية" بقيادة اليميني غيرت فيلدرز. وستواجه عملية تشكيل الحكومة الائتلافية صعوبات واضحة في ظل التباينات الأيديولوجية بين الأحزاب.
في المقابل، لم تتمكن الحكومة الإسبانية من إقرار ميزانية جديدة للعام الثالث على التوالي؛ مما يُعقِّد التخطيط الاقتصادي للدولة على المدى المتوسط ويشل قدراتها الوظيفية.
من ناحية أخرى، تُعد مشاركة أحزاب اليمين المتطرف أو دعمها للحكومات الحاكمة سمة بارزة في المشهد السياسي الأوروبي المعاصر، بما في ذلك كرواتيا، وفنلندا، والمجر، وإيطاليا، وسلوفاكيا، والسويد. أما في دول أخرى، فيفرض اليمين المتطرف نفوذه على الأجندة العامة بالرغم من وجوده في المعارضة؛ حيث يُعد حزب "البديل من أجل ألمانيا" ثاني أكبر قوة سياسية في البلاد، فيما يواصل اليمين المتطرف في النمسا ترسيخ سلطته على الأجندة العامة. وتعكس هذه التحولات السياسية اتجاهاً عاماً نحو مزيد من الاستقطاب والتوتر، كما حدث في رومانيا، حيث أُلغيت نتائج انتخابات رئاسية سابقة كان قد تصدر نتائجها مرشح اليمين المتطرف كالين جورجيسكو وسط شكوك بتدخل روسي، وبعد 5 أشهر انتُخب مرشح تيار الوسط نيكوشور دان، في مايو 2025.
تأثيرات خارجية:
يؤثر عدم الاستقرار السياسي الوطني في معظم الدول الأوروبية بشكل كبير في قدرة الاتحاد الأوروبي على مواجهة التحديات الاستراتيجية، وربما يقوّض دوره على الساحة العالمية بطرق عديدة، يمكن إبرازها على النحو التالي:
1- إضعاف التماسك الاستراتيجي والوحدة الأوروبية: يُسهم عدم الاستقرار السياسي الداخلي في الدول الأوروبية بشكل مباشر في إضعاف التماسك الاستراتيجي والوحدة على مستوى الاتحاد الأوروبي، خاصةً في ظل التحولات الجيوسياسية؛ إذ تنشغل الحكومات التي تعاني من أزمات سياسية ووظيفية بإيجاد سُبل تحقيق الاستقرار الداخلي وتجنب سحب الثقة؛ مما يُجبرها على إعطاء الأولوية للملفات الداخلية على حساب نظيرتها الأوروبية. ويُعوق ضعف الحكومات الوطنية قدرتها على التفاوض والتوصل إلى حلول وسط بشأن سياسات الاتحاد الأوروبي؛ مما يؤدي في النهاية إلى إضعاف الوحدة الأوروبية الشاملة.
بالإضافة إلى ذلك، يؤدي التشرذم الداخلي إلى شلل السياسات أو تأخير الإصلاحات الحاسمة على مستوى الاتحاد الأوروبي. فعلى سبيل المثال، أعاق الجمود السياسي في فرنسا التقدم في مفاوضات الإصلاح المالي ومبادرات الدفاع الأوروبية. كما تسببت الاختلافات داخل الائتلاف الألماني السابق في تأخير الاستجابة المنسقة لأمن الطاقة. وأدت التوترات داخل الائتلاف الإسباني إلى تنازلات مستمرة أدت إلى تأخير الموافقات على الميزانية، وهي أمور بالغة الأهمية لبرامج التمويل الجماعي للاتحاد الأوروبي. ويُعوق هذا التعطيل سرعة اتخاذ القرارات وبناء التوافق في الاتحاد الأوروبي، ويُضعف مصداقيته وقدرته على العمل بفعالية.
2- تعطيل التحالفات الرئيسية: يُضعف تصاعد أزمات السياسة الداخلية في الدول الأعضاء إمكانية استمرار أو توسيع التحالفات الرئيسية داخل أوروبا. فعلى الرغم من الدور المهم الذي أدته فرنسا في دفع التقدم الجيوسياسي وتشكيل أولويات الدفاع الأوروبية؛ فإن أزمتها السياسية الحالية تهدد بشكل مباشر التحالفات الأمنية الفرنسية، خاصةً شراكتها مع ألمانيا؛ فمِن دون استقرار سياسي في باريس، تواجه المبادرات الثنائية المشتركة خطر الجمود، بما في ذلك مجلس الدفاع والأمن الفرنسي الألماني والبرامج الصناعية الأوروبية الكبرى؛ مما قد يُجبر برلين على العمل منفردة أو البحث عن تحالفات بديلة؛ وهو ما يُقوّض بدوره القدرة الجماعية للاتحاد الأوروبي.
بالإضافة إلى ذلك، فعلى الرغم من أن المعاهدات الثنائية الاستراتيجية التي أبرمتها فرنسا مع ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا والمملكة المتحدة، لا تزال تحتفظ بقيمتها الرمزية؛ فإن تأثيرها العملي يعتمد على استقرار الوضع الداخلي في باريس. وبهذا المعنى، فإن عدم الاستقرار الحالي لا يُقوض نفوذ فرنسا فحسب، بل أيضاً بنية القوة الأوروبية ككل، فمن المرجح أن يظل الرئيس إيمانويل ماكرون منشغلاً بالسياسة الداخلية على حساب الأجندة الأوروبية في الأشهر المقبلة، بما قد يهدد التزامات الإنفاق الدفاعي والدعم المستمر لأوكرانيا والتغييرات في الميزانيات، والقدرة على تنفيذ توصيات تقرير ماريو دراغي بشأن القدرة التنافسية لأوروبا، الصادر في سبتمبر 2024 ومراجعاته في سبتمبر الماضي، في وقت يتعين فيه على فرنسا وأوروبا زيادة الاستثمار في الردع والمرونة.
3- تآكل الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا: إن هدف أوروبا المتمثل في حماية أمنها وابتكارها التكنولوجي ومرونتها الاقتصادية بشكل مستقل، أصبح عُرضة للخطر في ظل ما تواجهه الدول الرئيسية من أزمات قيادية أو شلل سياسي. وقد انعكس ذلك بوضوح في أزمة حكومات فرنسا الأخيرة، التي أدت إلى تراجع نفوذها في تشكيل القدرات العسكرية للاتحاد الأوروبي وتصاعد خلافاتها مع بعض الدول مثل ألمانيا، حول مصادر الأسلحة الداعمة لمبادرة "درع السماء" (Sky Shield)؛ وهو ما تصفه بعض الأوساط السياسية بحالة "فراغ القيادة" داخل الاتحاد.
كما يواجه الائتلاف الألماني الحالي بقيادة فريدريش ميرتس صعوبات في تنسيق التنفيذ العملي لتحقيق السيادة الرقمية، فضلاً عن تضارب النهج بين مكونات الائتلاف فيما يتعلق بسياسات استقلال الطاقة، خاصةً ما يتعلق بالاعتماد على الوقود الأحفوري مقابل التحول إلى الطاقة المتجددة؛ مما يعكس خلافاً أوسع نطاقاً حول الموازنة بين الاستقرار الاقتصادي قصير الأجل والالتزامات المناخية طويلة الأجل المرتبطة باستراتيجية الاتحاد؛ وهو ما يبرز كيف تُضعف السياسة الداخلية طموحات الاتحاد الأوروبي في العمل دون الاعتماد المفرط على الجهات الخارجية.
4- تقويض النفوذ العالمي للاتحاد الأوروبي: تُضعف الحكومات غير المستقرة والاستقطاب السياسي مصداقية الاتحاد الأوروبي وقدرته على التصرف بحسم على الساحة العالمية، حتى في مواجهة التحديات الاستراتيجية المُلحة المتعلقة بالدفاع والأمن؛ إذ يُصعِّب تشتت الدول الرئيسية على الاتحاد تقديم موقف متماسك بشأن القضايا الدولية الحرجة، مثل الحرب الروسية الأوكرانية أو العلاقات مع الصين، وغيرها. وهذا التشتت في المصالح الوطنية يُنتج سياسات غير متسقة، ويُضعف القدرة التفاوضية للاتحاد في مجالات التجارة والتحالفات الأمنية والدبلوماسية؛ مما يُعوق اتخاذ قرارات كبرى، كالمبادرات المقترحة لقرض دفاعي مشترك بقيمة 500 مليار يورو أو استخدام الأصول الروسية المجمَّدة بقيمة 230 مليار يورو لشراء أسلحة لصالح أوكرانيا.
من ناحية أخرى، يُغذي عدم الاستقرار الداخلي الحركات القومية والشعبوية التي تُشجع على إعطاء الأولوية للسيادة الوطنية على حساب العمل الأوروبي الجماعي. وهذا التوجه نحو "النزعة السيادية" يؤدي إلى تجزئة مناهج السياسات، وإعاقة إنفاذ سيادة القانون، ويعرقل تنفيذ سياسات متكاملة للهجرة أو المناخ. ومع تزايد نفوذ التيارات الشعبوية في البرلمانات والحكومات الأوروبية، والدعم المباشر والمتزايد لها من الجانب الآخر من الأطلسي؛ تزداد الصدامات بين الحكومات ومؤسسات الاتحاد الأوروبي؛ مما يُعقّد جهود صياغة استراتيجيات موحدة وفعالة بشأن الأمن عبر الحدود، والانتقال الأخضر، والتنظيم الرقمي، وحتى الديمقراطية وسيادة القانون.
5- ركود السياسات الاقتصادية والاجتماعية: غالباً ما تؤدي صعوبات تشكيل الائتلافات وعدم استقرار الحكومات إلى تأخير أو قصور الإصلاحات المحلية؛ مما يؤثر في الأهداف الاقتصادية الأوسع للاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الصفقة الخضراء الأوروبية ومبادرات التحول الرقمي. ويُترجم الجمود الوطني في السياسات المالية والاجتماعية إلى تنفيذ مُجزأ للبرامج على مستوى الاتحاد الأوروبي؛ مما يُقلل من الكفاءة ويُضعف قدرة الاتحاد على تعزيز تنافسيته وتماسكه الاجتماعي داخلياً وعالمياً.
خلاصة القول إن قوة أوروبا المُعطلة أصبحت، إلى حد كبير، رهينة لأزمات السياسة داخل الدول الأعضاء، خاصةً الرئيسية منها؛ وهو ما يستوجب على الحكومات الوطنية إعادة التفكير الجاد في تقديم حلول سريعة وفعالة للتحديات الأساسية التي يواجهها مواطنوها، والمتعلقة بفرص العمل والنمو والتمكين الاقتصادي وغيرها، لأن ذلك السبيل الوحيد لكسب التأييد للتضحيات اللازمة لمواجهة الظروف الجيوسياسية الراهنة. ومن دون ذلك، لن يعمل محرك الاتحاد الأوروبي الجيوسياسي بكامل طاقته إذا كانت تروسه السياسية الداخلية مُعطلة باستمرار.
المراجع
_ باسم راشد، 19/11/2025، كيف تهدد الازمات الداخلية مكانة اوروبا الدولية، المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة.
_ب،ن، 21/11/2025، كيف تهدد الازمات الداخلية مكانة اوروبا الدولية؟، موقع الشروق.
